Title : مغامرة كعكة العيد Author: كريستي,أجاثا [image file=image-17.jpg] [image file=image-21.jpg] [image file=image-25.jpg] [image file=image-29.jpg] نبذة عن المؤلفةتُعد أجاثا كريستي أكثر الروائيات انتشارًا، حيث نُشرت أعمالها على نطاق واسع على مر العصور وبكل اللغات، ولم يتفوق عليها في المبيعات سوى مؤلفات شكسبير؛ فلقد بيعت أكثر من مليار نسخة من رواياتها باللغة الإنجليزية ومليار نسخة أخرى بمائة لغة أجنبية. كتبت أجاثا كريستي ثمانين رواية من أدب الجريمة ومجموعات قصصية قصيرة وتسع عشرة مسرحية وكتابَيْ سيرة ذاتية وست روايات أخرى كتبتها تحت اسم مستعار، هو "ماري ويستماكوت".حاولت في البداية تأليف القصص البوليسية في أثناء عملها في مستوصف طبي في أثناء الحرب العالمية الأولى، مبتكرة الشخصية الأسطورية "المحقق هيركيول بوارو" في روايتها الأولى القضية الغامضة في مدينة ستايلز*. وفي رواية جريمة قتل في المعبد ** التي تم نشرها في عام 1930، قدمت محققة محبوبة هي الآنسة جين ماربل. ومن بين شخصيات سلسلة الروايات فريق مكافحة الجريمة المكون من الزوج والزوجة تومي وتيوبنس بيريسفورد، والمحقق الخاص باركر باين، ومحققي إسكوتلانديارد: المراقب باتل والمفتش جاب.والكثير من روايات كريستي وقصصها القصيرة تم تحويلها إلى مسرحيات وأفلام ومسلسلات تليفزيونية. ومن أشهر مسرحياتها على الإطلاق مسرحية The Mousetrap التي كانت بداية عرضها في عام 1952، وقد استمر عرضها على خشبة المسرح لأطول فترة عرض في تاريخ المسرح. ومن بين أشهر الأفلام المأخوذة عن رواياتها جريمة في قطار الشرق السريع*** (1974) وجريمة قتل على ضفاف النيل**** (1978)؛ حيث لعب دور المحقق هيركيول بوارو الممثلان "ألبرت فيني" و"بيتر أوستينوف" في الفيلمين على التوالي. وعلى شاشة التليفزيون، لعب الممثل "ديفيد سوشيه" دور المحقق بوارو على نحو لا يمكن نسيانه أبدًا، ولعبت الممثلة "جوان هيكسون" دور الآنسة ماربل، ثم تبعتها في تأدية هذا الدور كل من الممثلة "جيرالدين ماكإيوان" و"جوليا ماكنزي".تزوجت كريستي لأول مرة من أرشيبالد كريستي، ثم تزوجت من عالم الآثار السير ماكس مالوان، الذي رافقته في رحلاته الاستكشافية إلى البلدان التي استعانت بها في أحداث العديد من رواياتها. وفي عام 1971، تسلمت كريستي واحدًا من أرفع الأوسمة البريطانية حين حصلت على لقب سيدة الإمبراطورية البريطانية. توفيت كريستي في عام 1976 عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. وتم الاحتفال بعيد ميلادها المائة والعشرين في مختلف أنحاء العالم في عام 2010.www.AgathaChristie.com* متوافرة لدى مكتبة جرير** متوافرة لدى مكتبة جرير*** متوافرة لدى مكتبة جرير**** متوافرة لدى مكتبة جريرمجموعة روايات لأجاثا كريستي1. أبجدية القتلى2. ‎الأصابع المتحركة‎3. ‎الموعد الدامي‎4. ‎تحريات بوارو‎5. ‎تحريات باركرباين‎6. ‎الجواد الأشهب‎7. ‎خداع المرايا‎8. ‎لغز الكاريبى‎9. ‎الأربعة الكبار‎10. ‎السيانيد الساطع‎11. ‎القتل السهل‎12. ‎جريمة وانتقام‎13. ‎محنة البريء‎14. ‎بيت الرجل الميت‎15. ‎جثة في المكتبة‎16. ‎واختفي كل شيء‎17. ‎شركاء في الجريمة18. ‎لغز القطار الأزرق‎19. ‎كلب الموت، أصوات الأرواح‎20. ‎ساعة الصفر، الجريمة الكاملة21. ‎العدو الخفي، المهمة المشئومة‎22. ‎ليلة لا تنتهي، المنزل الملعون‎23. ‎من الذي قتل السيد روجر أكرويد‎24. المنزل الأعوج، جريمة قتل في منزل آل ليونيدز‎25. الجريمة النائمة، عندما يعود الماضي لينتقم‎26. قطة بين الحمام، جثة في صالة الألعاب27. القضية الغامضة في مدينة ستايلز28. ثلاثة فئران عمياء وقصص أخرى‎29. لماذا لم يسألوا إيفانز؟30. أوراق لعب على الطاولة، قصة لبوارو31. المرآة المتصدعة من جانب لآخر، رواية للآنسة ماربل32. ‎الشاهد الصامت، مقتل الآنسة إميلي أرونديل33. ‎واحد اثنان اربط حذائي، جريمة غامضة تجمع بين أشخاص لا صلة لهم ببعض34. ‎جريمة في شارع هيكورى دوك، انتشار هوس السرقة في بيت الشباب35. ‎الستارة، القضية الأخيرة للمحقق بوارو، العودة إلى قضية سمايلز36. ‎القهوة السوداء‎37. ‎جريمة في قطار الشرق السريع‎38. ‎الأجوف، جريمة قتل على المسبح، أسرار عائلية غامضة39. طالما استمر الضوء، قصص متنوعة40. مشكلة في خليج بولينسا، المكالمة الغامضة41. ركوب التيار، انجرف مع الفيضان42. القضايا الأخيرة للآنسة ماربل، قضايا مثيرة43. اللورد إدجوير يموت، إطلاق النار في المكتبة44. قطار 4:50 من بادينجتون، ماذا رأت السيدة إلسبيث؟45. الساعات، جثة في منزل الآنسة العمياء46. الفتاة الثالثة، الجريمة المنسية47. أعمال هرقل، اثنتا عشرة قضية48. موت السيدة ماجنتي، المستأجر المراوغ49. بوابة المصير، الرسالة الغامضة50. لغز سيتافورد، جريمة قتل في منزل هازلمور51. قضايا بوارو الأولى، الحنين للماضي52. احتفال هيركيول بوارو بالعام الجديد، جريمة قتل في يوم العطلة53. مغامرة كعكة العام الجديد، قضايا في المنزل الريفي54. الخمسة المشتبه بهم، القرود الخمسة الصغيرةافتتاحية بقلم: أجاثا كريستييمكن وصف هذا الكتاب عن أطعمة العام الجديد بأنه "اختيار الشيف"، وأنا الشيف!هناك طبقان رئيسيان: مغامرات بودينج مطلع العام الجديد ولغز الصندوق الإسباني، وتشمل الأصناف الجانبية: حماقة جرينشو، والحلم، والمستضعف، ومشروب الوجبة: أربعة وعشرون طائرًا أسود.يمكن أن نقول عن هذه الرواية إنها من روائع هيركيول بوارو، فهي قضية كان يعتقد خلالها أنه في أفضل أحواله، كما كانت الآنسة ماربل بدورها، مزهوة بحسن تقييمها للأمور كعادتها في رواية حماقة جرينشو.لقد كتبتُ مغامرات بودينج مطلع العام الجديد لإسعاد نفسي، حيث إنها تذكرني - ويا لها من ذكريات سعيدة - بالأيام الجميلة خلال طفولتي بعد أن توفي أبي، حيث كنت أقضي أنا وأمي عادة هذه الأيام الجميلة مع أقاربنا في شمال إنجلترا - وقد كانوا يقضون وقتًا رائعًا لا يمكن لطفلة مثلي أن تنساه.كان منزل آبني هول يحتوي على كل شيء، فقد كانت الحديقة تحتوي على شلال مياه وجدول، وكان هناك نفق يمر تحت مدخلها. ولقد كانت هذه الأيام هناك تمثل متعة هائلة، فلقد كنت فتاة ضعيفة البنية، ولكن صحتي كانت جيدة وكنت جائعة طوال الوقت، وكنت أنا وبقية الصبية نُجري مسابقات فيما بيننا لنرى من سيمكنه تناول أكبر كمية من الطعام في مطلع العام الجديد. كنا نتناول حساء المحار وسمك الترس باستمتاع شديد، وكنا نُحضر الديك الرومي المشوي والديك الرومي المسلوق وكميات كبيرة من لحم الأبقار. وكنت أنا وبقية الصبية نأكل صنفين من بين تلك الأصناف الثلاثة. ثم كنا نتناول بودينج البرقوق والفطائر المحشوة بالفواكه وحلوى الترايفل وغيرها الكثير من أصناف الحلوى. وخلال فترة العصر، كنا نتناول الكثير من الشيكولاتة، ولم نُصَبْ أبدًا بالإعياء بسبب الإفراط في الأكل. وكان من الرائع أن تكون في الحادية عشرة من عمرك بينما تتميز بالشراهة.كان هذا اليوم الرائع يبدأ بالحصول على الهدايا في الفراش صباحًا، ثم الذهاب لدار العبادة، ثم تناول العشاء وفتح الهدايا ثم بدء الاحتفال بمطلع العام الجديد.وكم كنت أشعر بالامتنان لمضيفتنا العطوف الودودة التي عملت بجد كبير من أجل جعل مطلع العام الجديد ذكرى رائعة ظلت تصاحبني حتى الآن بعدما بلغت من العمر عتيًّا.لذا، دعوني أهد هذا الكتاب إلى ذكرى منزل آبني هول – والعطف وحسن الضيافة اللذين لقيتهما هناك.أجاثا كريستيمغامرات بودينج مطلع العام الجديد1قال السيد هيركيول بوارو: "لقد ندمت كثيرًا".لقد تمت مقاطعة السيد بوارو، ولكن ليس بوقاحة، فقد كانت المقاطعة مهذبة وبارعة ومقنعة، وليست بغرض المعارضة."لا ترفض بشكل مسبق يا سيد بوارو، فهناك مشكلات خطيرة تخص الدولة، وسوف يتم تقدير تعاونك معنا من قبل أعلى المستويات".لوح هيركيول بوارو بيده قائلاً: "هذا لطف منك، ولكني لا أستطيع أن أفعل ما تطلبه مني، ففي هذا الوقت من العام ــــــــــ".قاطعه السيد جيسموند مرة أخرى قائلاً بطريقة مقنعة: "العام الجديد، قضاء بداية العام الجديد بالطريقة التقليدية في الريف الإنجليزي".اقشعر بدن هيركيول بوارو، فلم تكن فكرة الريف الإنجليزي في هذا الوقت من العام تروقه.أكد السيد جيسموند حديثه قائلاً: "بداية عام جديد رائعة بالطريقة التقليدية".قال هيركيول بوارو: "أنا لست إنجليزيًّا، والأطفال في بلادي هم من يحتفلون في ليلة بداية العام الجديد، ولكن الكبار يحتفلون بمطلع العام الجديد".قال السيد جيسموند: "نعم، ولكن بداية العام الجديد في إنجلترا تُنظم بصورة رائعة، وأؤكد لك أنك سترى ليلة العام الجديد في أفضل صورها في منزل كينجز لاسي. إنه منزل رائع، وبه جناح يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر".اقشعر بدن بوارو مرة أخرى، فقد ملأته فكرة منزل إنجليزي من القرن الرابع عشر بالتوجس، فقد عانى الأمرين في تلك المنازل الريفية التاريخية الإنجليزية. نظر حوله في رضا إلى شقته العصرية المريحة التي تحتوي على التدفئة المركزية وجميع المخترعات الحديثة التي تمنع أي صقيع من التسلل للداخل.قال بوارو بحزم: "في الشتاء، أنا لا أبارح لندن".نظر السيد جيسموند إلى رفيقه، ثم إلى بوارو مرة أخرى وقال: "لا أعتقد أنك تقدر الأمر الجلل الذي نحن بصدده يا سيد بوارو".لم يكن ضيف بوارو الثاني قد قال أي شيء منذ وصوله عدا عبارة "كيف حالك" التي قالها بكل احترام، وكان الرجل جالسًا الآن يحدق إلى حذائه اللامع، وقد علا وجهه الممتقع بشدة - حتى أصبح في لون القهوة - تعبير ينم عن الغم الشديد. كان شابًّا، وكان يبدو عليه أنه يشعر بتعاسة شديدة.قال هيركيول بوارو: "نعم، نعم. لا شك في أن الأمر مهم، قأنا أقدر هذا بشدة، وأشعر بالتعاطف الصادق مع جلالته".قال السيد جيسموند: "إن الوضع شديد الحساسية".نقل بوارو بصره من الشاب إلى رفيقه الأكبر سنًّا، وإن أراد المرء أن يلخص شخصية السيد جيسموند بكلمة واحدة، فستكون هذه الكلمة هي التحفظ، لقد كان السيد جيسموند يبدو متحفظًا، بملابسه الأنيقة غير اللافتة وصوته المحبب المهذب الذي كان نادرًا ما يشذ عن نبرته المحببة، وشعره البني الفاتح المنحسر قليلاً، ووجهه الشاحب الجاد، ولقد بدا الأمر بالنسبة لـ هيركيول بوارو أنه لم يتعرف على جيسموند واحد، بل على مجموعة كاملة على شاكلة السيد جيسموند في حياته، ممن يقولون في مرحلة ما من الحديث العبارة ذاتها - "إن الوضع شديد الحساسية".قال هيركيول بوارو: "يمكن أن تكون الشرطة شديدة التحفظ كما تعلم".هز السيد جيسموند رأسه بشدة رافضًا الفكرة.وقال: "لا يمكن السماح بتدخل الشرطة، فمن أجل استعادة الـ - آه - ما نرغب في استعادته، سيكون علينا، دون شك، أن نقف أمام منصة القضاء، ولكننا لا نعلم سوى القليل. إننا متشككون ولسنا متأكدين".قال هيركيول بوارو مرة أخرى: "إنني أتعاطف معكم".إن كان قد اعتقد أن تعاطفه وحده سيعني أي شيء بالنسبة لزائريه، فقد كان مخطئًا، فهما لم يكونا بحاجة إلى التعاطف، بل إلى المساعدة العملية، ولقد بدأ السيد جيسموند مرة أخرى بالتحدث عن مزايا العام الجديد في إنجلترا.قال: "إنها في طريقها إلى الزوال، تلك العادات المتوارثة القديمة لليلة العام الجديد، فقد أصبح الناس يقضونها في الفنادق هذه الأيام؛ ولكن، ليلة العام الجديد الإنجليزية مختلفة، مع تجمع العائلة، والأطفال بأجربة هداياهم، وشموع العام الجديد والديك الرومي وبودينج البرقوق، ورجل الثلج في الخارج _".من أجل تحري الدقة، تدخل هيركيول بوارو مقاطعًا.وعلق بصرامة قائلاً: "لكي تصنع رجلًا من الثلج، يجب أن يتواجد الثلج أولاً، ولا يمكن لأحد الحصول على الثلج حسب الطلب، حتى إن كان هذا من أجل ليلة العام الجديد الإنجليزية".قال السيد جيسموند: "كنت أتحدث اليوم مع واحد من أصدقائي يعمل في محطة الأرصاد الجوية، وقد أخبرني بأنه من المحتمل للغاية أن تتساقط الثلوج في ليلة العام الجديد".لم يكن من المحبب ذكر هذا الأمر، فقد اقشعر بدن هيركيول بوارو بشدة هذه المرة.قال بوارو: "ثلوج في الريف! سيكون الأمر كريهًا للغاية؛ فهذا منزل ضخم وبارد وحجري".قال السيد جيسموند: "لا، على الإطلاق، فلقد تغير الوضع كثيرًا على مدى السنوات العشر الماضية، إننا نمتلك تدفئة مركزية تعمل بالوقود".سأل بوارو: "هل توجد تدفئة مركزية تعمل بالوقود في منزل كينجز لاسي؟"، وبدا عليه التردد للمرة الأولى.اغتنم السيد جيسموند الفرصة وقال: "نعم، بالطبع، وهناك كذلك نظام رائع للماء الساخن، وأجهزة للتدفئة في جميع الغرف. أؤكد لك - عزيزي السيد بوارو - أن منزل كينجز لاسي مريح للغاية خلال الشتاء، وقد تجد المنزل دافئًا أكثر من المطلوب".قال هيركيول بوارو: "هذا لا يُصدق".وببراعة كبيرة، حول السيد جيسموند مسار حديثه قليلاً.وقال بطريقة واثقة: "يمكنك أن تفكر في المعضلة الفظيعة التي نحن بصددها".أومأ هيركيول بوارو برأسه، فلم تكن تلك المشكلة، ولا شك، مريحة، وكان قد وصل إلى لندن ولي العهد والابن الوحيد لحاكم إحدى الدول الغنية المهمة منذ بضعة أسابيع، وكانت دولته تمر بفترة من القلاقل والسخط. على الرغم من ولاء الشعب للوالد الذي حافظ على أسلوب الحياة الشرقية، كان الرأي العام متوجسًا من الجيل الأصغر سنًّا، وكانت حماقات ولي العهد تدل على أسلوب حياته الغربي، الأمر الذي لم يحظ بالقبول لدى العامة.كانت خطبته قد أُعلنت منذ وقت قريب، وكان سيتزوج من ابنة عمه، وكانت امرأة شابة على الرغم من تلقيها التعليم في جامعة كامبريدج، وكانت حذرة للغاية فيما يتعلق بإظهار أي تأثير غربي على بلادها. وقد أُعلن يوم الزفاف، وسافر الأمير الشاب إلى إنجلترا حاملاً بعضًا من أشهر مجوهرات أسرته الحاكمة لتُعاد صياغتها بأسلوب عصري بواسطة شركة كارتييه للمجوهرات، وكان من بين هذه المجوهرات ياقوتة ذائعة الشهرة أُزيلت من قلادتها عتيقة الطراز وعمل صناع المجوهرات ذائعو الصيت على إعطائها مظهرًا جديدًا، وكانت الأمور تسير على ما يرام حتى هذه المرحلة، ولكن، بعد ذلك، وقعت الصاعقة. فلم يكن من المفترض برجل شاب يمتلك تلك الثروة الكبيرة والذوق الاجتماعي أن يرتكب الحماقات حتى لو كانت بحسن نية لا يستحق عليها التوبيخ، فقد كان من المفترض أن يسلي الأمراء الشباب أنفسهم بهذه الطريقة. فعندما كان الأمير يصطحب إحدى صديقاته للتمشية في شارع بوند أهداها سوارًا زمرديًّا أو مشبكًا ألماسيًّا كهدية لها بعد أن قدمت له الكثير من التسلية. كان هذا الأمر يعتبر طبيعيًّا ومقبولاً، حيث إن والده كان يقدم سيارات كاديلاك كهدايا للراقصات الشهيرات اللاتي يفضلهن.إلا أن الأمير كان أكثر طيشًا من ذلك، حيث انخدع باهتمام المرأة به وعرض عليها الياقوتة الشهيرة بشكلها الجديد، وزاد على حماقته أن قبل طلبها بأن يسمح لها بارتدائها لليلة واحدة.كان ما حدث بعد ذلك سريعًا وحزينًا، حيث استأذنت المرأة في أن تنهض من على الطاولة لتعدل من زينتها، ومر الوقت، ولم تعد المرأة، حيث كانت قد غادرت المبنى من باب آخر واختفت كأن لم تكن، والمهم والمحزن في الأمر أن الياقوتة بشكلها الجديد اختفت معها.هذه هي الحقائق التي لا يمكن نشرها على العامة دون أن تقع عواقب وخيمة، فلم تكن هذه الياقوتة مجرد ياقوتة عادية بل كانت من الممتلكات التاريخية ذات الأهمية الكبرى، وكان إعلان ملابسات اختفائها سيتسبب في أخطر العواقب السياسية على الإطلاق.لم يكن السيد جيسموند من نوعية الرجال الذين قد يعبرون عن هذه الحقائق بلغة بسيطة، حيث غلف هذه الحقائق بالكثير من الإسهاب؛ لكن مَنْ هو السيد جيسموند بالتحديد؟ لم يكن هيركيول بوارو يعلم، فقد التقى بالكثير من الرجال الذين هم على شاكلة السيد جيسموند خلال مسيرته المهنية. فإما أنه على صلة بوزارة الداخلية أو الخارجية أو ربما كان أحد العاملين في فرع سري من المخابرات السرية لا يمكن تحديده، وكان السيد جيسموند يتصرف بما يصب في صالح رابطة الشعوب البريطانية - والتي من مصلحتها أن تُستعاد الياقوتة.وكان السيد بوارو - بناءً على إصرار السيد جيسموند الشديد - هو من يجب الاستعانة به لاستعادتها.أقر هيركيول بوارو قائلاً: "نعم، ربما، ولكن يمكنك أن تخبرني بالقليل: مقترحات - شكوك - فجميع هذه الأمور ليست بالأدلة الكافية للاستمرار".قال السيد جيسموند: "تعال معنا يا سيد بوارو، أنا على يقين من أن الأمر لا يفوق قدراتك، تعال معنا الآن".قال بوارو: "أنا لا أنجح دائمًا".ولكن هذه العبارة كانت محض تواضع ساخر، فقد كان يبدو من نبرة صوت بوارو أنه لن يتولى أية مهمة إلا ليحقق النجاح فيها.قال السيد جيسموند: "إن ولي العهد صغير السن، وسيكون من المحزن أن تُدمر حياته بأكملها بسبب طيش الشباب".نظر بوارو بعطف نحو الشاب الحزين، وقال له مشجعًا: "إن فترة الشباب هي فترة ارتكاب الحماقات، وبالنسبة للشاب العادي، لا تؤثر حماقاته كثيرًا، فسيكون هناك والده ليغطي تكاليف ما أفسده، وهناك محامي العائلة الذي سيعيد الأمور إلى نصابها المعتاد، والشاب نفسه سيتعلم بالتجربة وينتهي به المطاف إلى رجل أفضل، أما في موقف مثل موقفك، فإن الوضع شديد الصعوبة دون شك. إن زواجك الوشيك ــــــــ".وتحدث الشاب للمرة الأولى قائلاً: "هذا هو الأمر، هذا هو الأمر بالتحديد. إن خطيبتي امرأة جادة للغاية، وهي تأخذ الحياة على محمل الجد، وقد تعلمت في جامعة كامبريدج الكثير من الأفكار الجادة؛ كما أنها تعمل على نشر التعليم في بلادي، وستكون هناك مدارس، وستكون هناك الكثير من الأشياء، وكل هذا في سبيل تحقيق - كما تعلم - الديمقراطية، فلن تكون البلاد، كما تقول، مثلما كانت في عهد والدي. لا شك في أنها تعلم أني سأواجه الكثير من الملهيات في لندن، ولكن ليس فضيحة. لا، إن الفضيحة هي التي تهم. هل تعلم أن هذه الياقوتة شهيرة للغاية، وهناك تاريخ طويل متعلق بها، وأن الكثير من الدماء أريقت من أجلها - والكثير من الموتى".قال هيركيول بوارو بتأمل: "موتى"، ثم نظر إلى السيد جيسموند وقال: "آمل ألا يصل الأمر إلى هذا الحد".أصدر السيد جيسموند صوتًا غريبًا يشبه صوت الدجاجة التي قررت أن تضع بيضة ثم عدلت عن قرارها.ثم قال بصوت مصطنع: "لا، لا دون شك. لا شك في هذا، أنا على يقين من أن شيئًا من هذا لن يحدث".قال هيركيول بوارو: "لا يمكنك أن تكون واثقًا من ذلك، فأيًّا كان من يمتلك الياقوتة الآن، سيكون هناك من يحاول أخذها منه، وهناك من لن يكتفي بمجرد السرقة يا صديقي".قال السيد جيسموند وقد بدا أكثر تصنعا من ذي قبل: "لا أعتقد ذلك، ودعنا لا ندخل في تكهنات غير مجدية من هذا النوع".قال هيركيول بوارو وقد بدا غريبًا للغاية في تلك اللحظة: "أنا، أنا، أنا أحاول استكشاف جميع الاحتمالات، مثلما يفعل السياسيون".نظر له السيد جيسموند متشككًا، وحاول جمع شتات نفسه وقال: "حسنًا، هل يمكنني أن أعتبر أننا توصلنا إلى اتفاق يا سيد بوارو؟ هل ستذهب إلى كينجز لاسي؟".قال هيركيول بوارو: "وكيف سأبرر وجودي هناك؟".ابتسم السيد جيسموند بثقة.ثم قال: "أعتقد أنه يمكنني تدبير هذا الأمر بسهولة, وأؤكد لك أن وجودك هناك سيبدو طبيعيًّا. ستجد أن عائلة لاسي أشخاص رائعون وممتعون".قال بوارو: "هل خدعتني فيما يتعلق بالتدفئة المركزية التي تعمل بالوقود؟".قال جيسموند وقد بدا منزعجًا قليلاً: "لا، لا، بالطبع. أؤكد لك أنك ستجد كل سبل الراحة هناك".غمغم بوارو لنفسه قائلاً: " كل وسائل الراحة العصرية، حسنًا. أنا أقبل".2كانت درجة الحرارة في قاعة الاستقبال الطويلة في منزل كينجز لاسي مريحة، وتصل إلى 20 درجة مئوية بينما كان هيركيول بوارو جالسًا يتحدث إلى السيدة لاسي بجوار إحدى النوافذ الكبيرة؛ حيث كانت منخرطة في الحياكة، ولكنها لم تكن تنفذ الغرز الصغيرة أو تطرز الزهور على الحرير، بل كان يبدو أنها منخرطة في مهمة مرهقة لتطريز أحرف على مناشف الأطباق. وبينما كانت تحيك، كانت تتحدث بصوت ناعم وعميق وجده بوارو فاتنًا.قالت السيدة لاسي: "آمل أن تستمتع بحفل العام الجديد الذي سنقيمه هنا يا سيد بوارو؛ حيث إننا لم ندعُ إلا أفراد العائلة، كما تعلم، وهم حفيدتي، وحفيدي وأحد أصدقائه، وبريدجيت ابنة ابنة شقيقتي، وديانا - واحدة من قريباتنا، وديفيد ويلوين أحد أصدقائنا القدامى. إنه حفل عائلي؛ ولكن، قالت إدوينا موركومب إن هذا بالضبط هو ما ترغب في رؤيته: حفل العام الجديد على الطراز القديم، ولن يكون هناك حفل أقدم طرازًا من حفلنا. إن زوجي، كما تعلم، يعيش في الماضي، ويحب أن يظل كل شيء على حاله مثلما كان يراه عندما كان طفلاً في الثانية عشرة من عمره، عندما كان معتادًا الحضور إلى هنا لقضاء العطلات"، ثم ابتسمت وقالت: "جميع الأمور ظلت على حالها، شموع مطلع العام الجديد والأجربة المعلقة على المدفأة وشوربة المحار والديك الرومي - ديكان روميان أحدهما مسلوق والآخر مشوي - وبودينج البرقوق المزين بالحلقات والزهور الزرقاء وغيرها من الزينة، كما أننا لم نعد نمتلك عملة الستة بنسات هذه الأيام لأنها لم تعد تُصنع من الفضة الخالصة؛ ولكننا مازلنا نصنع جميع أنواع الحلوى القديمة من برقوق إلفاس وبرقوق كارلسباد واللوز والزبيب والفاكهة المغطاة بحبوب السكر والزنجبيل. يا إلهي، إنني أبدو كأني كتالوج من أحد متاجر الحلوى".قال بوارو: "لقد فتحت شهيتي يا سيدتي".قالت السيدة لاسي: "أتوقع أننا سنصاب جميعًا بعسر هضم مساء الغد؛ حيث إن المرء ليس معتادًا تناول الكثير من الطعام هذه الأيام، أليس كذلك؟".قاطعها بعض الصياح العالي وصوت ضحكات قادمة من خارج النافذة، فنظرت عبر النافذة لترى ما يحدث.قالت السيدة لاسي: "لا أعلم ماذا يفعلون في الخارج، ربما يمارسون لعبة ما، فلقد كنت أخشى أن يشعر هؤلاء الشباب بالملل من قضاء ليلة العام الجديد هنا، إلا أن مخاوفي لم يكن لها أي أساس من الصحة. لقد أصبح ابني وابنتي وأصدقاؤهما متعلقين بقضاء ليلة العام الجديد هنا، فلو كانوا يشعرون بأن كل هذا محض هراء وإطراء مبالغ فيه على أسلوب حياتنا المعتاد، لكانوا فضلوا الذهاب إلى أحد الفنادق والرقص، ولكن يبدو أن الجيل الجديد ينجذب بشدة إلى أسلوب حياتنا القديم. هذا إلى جانب -"، ثم أضافت السيدة لاسي بعملية: "يشعر طلبة وطالبات المدارس بالجوع طوال الوقت، أليس كذلك؟ أعتقد أنهم لا يقدمون لهم الطعام في المدارس. إننا نعلم جميعًا أن الأطفال في هذه السن يتناولون من الطعام ما يعادل طعام ثلاثة رجال أقوياء".ضحك بوارو وقال: "إنه لطف كبير منك ومن زوجك يا سيدتي؛ لأنكما استقبلتماني في حفلكم العائلي".قالت السيدة لاسي: "إنه شرف لنا نحن الاثنان"، ثم استطردت قائلة: "لا تعره اهتمامًا، إن هذا طبعه المعتاد، كما تعلم".لكن زوجها الكولونيل لاسي قال: "لا أرى سببًا لاستقبال رجل غريب يسبب لنا الازدحام في حفلنا العائلي؟ لِمَ لا نستقبله في وقت آخر؟ لا يمكنني تحمل الأجانب. حسنًا، حسنًا، إن إدوينا موركومب ترغب في أن يقضي الحفل معنا - ما شأنها هي بالأمر، أود أن أعلم؟ لِمَ لا تستقبله في منزلها في ليلة العام الجديد؟".ردت السيدة لاسي قائلة: "لأنك تعلم تمام العلم أن إدوينا تذهب دائمًا إلى منزل آل كلاريدج".وكان زوجها قد نظر لها نظرة ثاقبة قائلًا: "إنك لا تخططين لأمر ما يا إم، أليس كذلك؟".قالت إم وقد اتسعت عيناها الزرقاوان عن آخرهما: "أخطط لأمر ما؟ ولِمَ أفعل هذا؟".أطلق الكولونيل لاسي العجوز ضحكة عميقة وخشنة قائلًا: "لا يمكنني تجاهل الأمر يا إم، فعندما تبدين غاية في البراءة، فإنك في الحقيقة تدبرين أمرًا ما".بعدما مرت هذه الذكرى بخاطرها، تابعت السيدة لاسي حديثها قائلة: "قالت إدوينا إنك ربما تتمكن من مساعدتنا... ولكني لا أعرف كيف، ولكنها قالت إن بعضًا من أصدقائك تلقوا المساعدة منك في قضية تشبه تلك التي نحن بصددها. حسنًا، ربما لا تعلم ما أتحدث عنه؟".نظر إليها بوارو مشجعًا؛ حيث كانت السيدة لاسي تقترب من السبعين من عمرها، وكانت تبدو مستقيمة القامة مثل ماسورة البندقية، وذات شعر يشبه بياض الثلج ووجنتين ورديتين وعينين زرقاوين وأنف صغير وذقن مستدق.قال بوارو: "إن كان هناك ما يمكنني تقديمه لكم، فسأكون سعيدًا بذلك، فأنا أعتقد أن الأمر يدور حول شغف امرأة شابة لم يُكلل بالنجاح".أومأت السيدة لاسي برأسها موافقة وقالت: "نعم يبدو أنه من غير الطبيعي أن - حسنًا - أرغب في التحدث معك بشأن هذا الأمر، فأنت رجل غريب...".قال بوارو بأسلوب متفهم: "وأجنبي".قالت السيدة لاسي: "نعم، ولكن، ربما كان هذا هو السبب في جعل الأمر أكثر سهولة، إلى حدٍ ما. على أية حال، بدا أن إدوينا تعتقد أنك ربما تعرف أمرًا ما - كيف يمكنني صياغة الأمر - أمر مفيد عن ديزموند لي وورتلي".صمت بوارو للحظة معجبًا بعبقرية السيد جيسموند، وسهولة استخدامه لليدي موركومب في تحقيق أغراضه.بدأ بوارو حديثه بحذر قائلاً: "أظن أن ذلك الشاب لم يكن شخصًا جيد السمعة، أليس كذلك؟".قالت السيدة لاسي: "بلى، إنه لم يكن كذلك. كانت سمعته سيئة للغاية، إلا أن هذا الأمر لم يساعدنا كثيرًا، حيث إن سارة لم يهمها ذلك على الإطلاق، فلن يفيد كثيرًا أن تخبر الفتيات الصغيرات بأن الرجال سيئو السمعة، حيث إن هذا يحفزهن أكثر على الاستمرار في تلك العلاقة".قال بوارو: "إنك محقة تمامًا".واصلت السيدة لاسي حد يثها قائلة: "في شبابي (يا إلهي، كان هذا منذ زمن بعيد)، اعتدنا أن يتم تحذيرنا - كما تعلم - من بعض الشباب بعينهم، الأمر الذي كان يزيد من اهتمامنا بهم، وإن تمكنت الواحدة منا من مرافقة أحدهم، أو وقفت للحديث معه بمفردها ــــــــ"، وأطلقت ضحكة خفيفة، "ولهذا السبب لم أجعل هوراس يفعل أيًّا من الأمور التي كان يرغب في فعلها".قال بوارو: "أخبريني، ما الذي يقلقك بالتحديد؟".قالت السيدة لاسي: "لقد قُتل ابننا في الحرب، وماتت زوجته في أثناء ولادة سارة، لذا كانت معنا دائمًا، ونحن من ربيناها. ربما كانت تربيتنا لها خاطئة - لا أدري، ولكننا اعتقدنا أنه يجب علينا أن نتركها على حريتها قدر الإمكان".قال بوارو: "هذا أسلوب تربية مطلوب على ما أظن، فلا يمكن لأحد أن يواجه التيار السائد".قالت السيدة لاسي: "لا، هذا بالضبط ما كنت أشعر به، ولا شك في أن فتيات الوقت الحالي يفعلن مثل هذه الأمور".نظر إليها بوارو متسائلاً.قالت السيدة لاسي: "أعتقد أنه يمكنني شرح الأمر لك كالتالي: إن سارة التحقت بالعمل في مقهى، ولم تكن تخرج للتسلية أو لتتعرف على أصدقاء محترمين أو تظهر في الأحداث الاجتماعية أو أي شيء من هذا القبيل، بل كانت تعيش في شقة بغيضة من غرفتين في حي تشيلسي بجوار النهر، وترتدي هذه الملابس الغريبة التي يحب الشباب ارتداءها مع جوارب سوداء أو خضراء فاتحة، وهي جوارب ثقيلة للغاية (خشنة للغاية، كما اعتقدت دائمًا)، وتخرج دائمًا دون أن تغسل شعرها أو تمشطه".قال بوارو: "إنها موضة العصر، وقد شبوا عليها".قالت السيدة لاسي: "أعلم هذا، ولم أكن لأقلق من هذا الأمر، ولكنها ارتبطت بذلك المدعو ديزموند لي وورتلي، وهو شاب ذو سمعة سيئة للغاية؛ حيث إنه يعيش عالة على الفتيات الثريات، ويبدو أنهن يحببنه بجنون؛ فلقد كاد هذا الشاب يتزوج من ابنة عائلة هوب، ولكن عائلتها وضعتها تحت الوصاية القضائية أو شيئًا من هذا القبيل، وهذا بالطبع ما يرغب هوراس في فعله. إنه يقول إنه يجب عليه فعل ذلك من أجل حمايتها، ولكني لا أعتقد أنها فكرة جيدة يا سيد بوارو. أعني، فربما يهربان معًا ويذهبان إلى إسكتلندا أو أيرلندا أو الأرجنتين أو أي مكان آخر، وإما أن يتزوجا أو يعيشا معًا دون زواج، ورغم أن هذا التصرف قد يعرضهما للسجن بتهمة ازدراء المحكمة،فإن هذا ليس حلًّا مثاليًّا، أليس كذلك؟ خاصة إن رزقا بطفل، فسيكون على المرء أن يذعن حينها ويسمح لهما بالزواج، وعادة ما سينفصلان بعد عام أو عامين، وبعد ذلك، تتزوج الفتاة، بعد عام عادة، من رجل رائع ولكنه ممل وتستقر معه؛ ولكن الأمر المحزن - كما يبدو لي - أنه إن كان هناك طفل، فلن يكون من الجيد أن يربيه زوج أمه، حتى لو كان رجلًا رائعًا. لا، أعتقد أنه من الأفضل أن نفعل ما كنا نفعله في شبابي، أعني أنه عادة ما كان الشاب الأول الذي وقعنا في حبه غير مرغوب فيه. أتذكر أني وقعت في حب شاب يُدعى - ما اسمه - ياله من أمر غريب، إني لا أتذكر اسمه الأول على الإطلاق؛ ولكن اسم عائلته هو تبيبت. تيبيت - الشاب. نعم، لا شك في أن والدي حرم عليه الحضور إلى منزلنا، ولكنه كان معتادًا طلبي لأرافقه، وكنا دائمًا نخرج معًا، وفي بعض الأحيان كنا نهرب من الحفل لنجلس معًا بمفردنا، وأحيانًا كان أصدقاؤنا ينظمون رحلات ليجمعونا معًا. لا شك في أن كل هذه الأمور كانت مثيرة ومحرمة وكنا نستمتع بها كثيرًا؛ ولكن، لم تكن واحدة منا تجرؤ على التمادي كما تفعل فتيات اليوم. وهكذا، وبعد فترة، اختفى السيد تيبيت من الوجود. أتعلم، عندما رأيته بعدها بأربع سنوات، تساءلت ما الذى أعجبني فيه حينها؟ فقد كان شابًّا مملاًّ ومبهرجًا وحديثه لا يثير الاهتمام".قال بوارو مؤكدًا: "عادة ما يعتقد المرء أن فترة شبابه هي الأفضل".قالت السيدة لاسي: "أعلم هذا. إنه أمر مزعج، أليس كذلك؟ لا يجب أن أنزعج؛ ولكني أيضًا لا أريد أن تتزوج سارة، التي تهمني كثيرًا، من ديزموند لي وورتلي. فلقد كانت هي وديفيد ويلوين - الموجود في المنزل حاليًّا - صديقين وكانا يحبان بعضهما بعضًا كثيرًا، وكنا نأمل - أنا وهوراس - أن يكبرا ويتزوجا؛ ولكنها تراه شابًّا كئيبًا الآن، كما أنها مغرمة حتى أذنيها بـ ديزموند".قال بوارو: "لا يمكنني استيعاب الأمر جيدًا يا سيدتي. هل دعوت ديزموند لي وورتلي إلى هنا، ليقيم في منزلك؟".قالت السيدة لاسي: "هذا ما فعلت. كان هوراس قد منعها من رؤيته، وشيء من هذا القبيل. بالطبع، على أيام هوراس كان الوالد أو الوصي يذهب إلى منزل الشاب حاملاً سوطه، فلقد كان هوراس يرغب في منع الشاب من الحضور للمنزل ومنع الفتاة من رؤيته، ولكني أخبرته بأن هذا التصرف خاطئ، وقلت له: لا، اطلب منه الحضور ليقضي معنا حفل العام الجديد. فقال زوجي لي إني قد جُننت، ولكني قلت: دعنا نجرب على أية حال يا عزيزي، دعها تره بيننا وفي منزلنا، وسنعامله بكل لطف وأدب وربما حينها يقل اهتمامه بها".قال بوارو: "أعتقد أنك محقة يا سيدتي. إن وجهة نظرك حكيمة للغاية، أكثر حكمة من زوجك".قالت السيدة لاسي متشككة: "آمل هذا. يبدو أن الأمر لم ينجح بعد؛ ولكنه لم يصل إلا منذ يومين فحسب"، ثم قطبت حاجبيها وقالت: "أصدقك القول يا سيد بوارو، لا يمكنني أن أمنع نفسي من الإعجاب به. لا أعني أنه يعجبني، في عقلي، ولكني أشعر بأنه شاب جذاب، نعم، يمكنني أن أرى ما تراه سارة. ولكني امرأة عجوز وأمتلك من الخبرة ما يكفي لأن أدرك أنه ليس بالشاب الجيد؛ ولكني أستمتع بصحبته، رغم أني أعتقد"، أضافت السيدة لاسي بحزن: "أن به بعض الجوانب الجيدة. لقد سأل عما إذا كان يمكنه أن يحضر شقيقته معه، وكانت قد خضعت لعملية جراحية وكانت في المستشفى، وقال إنها كانت تشعر بالحزن لبقائها في المستشفى في ليلة بداية العام الجديد، وسأل عما إذا كان الأمر سيتسبب في مشكلة إن أحضرها معه، وقال إنه سيحمل لها جميع وجباتها إلى غرفتها وأمور من هذا القبيل, وأعتقد أن هذا لطف منه، أليس كذلك يا سيد بوارو؟".قال بوارو: "إنه أمر يدل على مراعاته إياها، ولكن لا ينم عن شخصيته".قالت السيدة لاسي: "لا أعلم، فيمكنك أن تكون مراعيًا لأفراد عائلتك وفي الوقت نفسه تأمل في افتراس فتاة ثرية؛ حيث إن سارة ستكون بالغة الثراء، ليس بفضل ما سنتركه لها من مال - والذي لن يكون بالكثير لأن أغلبه سيرثه حفيدنا كولين، بل لأن والدتها كانت امرأة ثرية للغاية، وسترث سارة جميع أموالها عندما تبلغ الحادية والعشرين من عمرها، وهي في العشرين من عمرها الآن. لا، أعتقد أنه كان من اللطف من ديزموند أن يفكر في شقيقته، كما أنه لم يتظاهر بأنها فتاة رائعة أو شيء من هذا القبيل. أظن أنها تعمل كاتبة متمرسة - تعمل سكرتيرة في لندن، وقد فعل مثلما قال، فقد كان يحمل لها الطعام إلى غرفتها، ليس دائمًا بالطبع، ولكن هذا الأمر تكرر كثيرًا. لذا، أعتقد أن لديه بعض الجوانب الجيدة. ولكن مع ذلك"، قالتها السيدة لاسي بتصميم شديد: "لا أرغب أن تتزوجه سارة".قال بوارو: "بناءً على كل ما سمعته وتبادر إلى علمي، ستكون هذه كارثة".قالت السيدة لاسي: "هل تعتقد أنه يمكنك مساعدتنا في هذا الأمر؟".قال هيركيول بوارو: "أعتقد أن هذا ممكن، نعم، ولكني لا أرغب في أن أعدك بالكثير؛ حيث إن الشباب على شاكلة السيد ديزموند لي وورتلي ماهرون للغاية يا سيدتي، ولكن لا تيأسي. فيمكنني أن أفعل أمرًا ما، وسوف أبذل قصارى جهدي في مرحلة ما ردًّا على لطفك البالغ بالموافقة على الحضور إلى هنا لحضور حفل بداية العام الجديد"، ثم نظر حوله وقال: "وليس من السهل هذه الأيام حضور مثل هذا الحفل".تنهدت السيدة لاسي وقالت: "لا، دون شك"، ثم مالت إلى الأمام وقالت: "أتعلم يا سيد بوارو، ما الذي أحلم به - ما أتمنى امتلاكه؟".قال بوارو: "أخبريني يا سيدتي".قالت السيدة لاسي: "أتمنى أن أمتلك كوخًا صغيرًا عصريًّا، ليس كوخًا صغيرًا بالتحديد، بل منزلاً عصريًّا صغيرًا تسهل إدارته ويكون مبنيًّا في مكان ما من الحديقة هنا، وبه مطبخ على أحدث طراز دون الكثير من الممرات - كل شيء فيه سهل وبسيط".قال بوارو: "إنها فكرة عملية للغاية يا سيدتي".قالت السيدة لاسي: "ولكنها ليست عملية بالنسبة لي؛ حيث إن زوجي يعشق هذا المكان، ويحب العيش فيه، ولا يمانع في أن يشعر قليلاً بالراحة فيه، ولا يتجاهل المصاعب التي يواجهها في هذا المنزل، ولكنه سيكره كثيرًَا أن يعيش في منزل عصري صغير في الحديقة".قال بوارو: "هل تضحين إذن بأمانيك من أجله؟".اعتدلت السيدة لاسي في جلستها وقالت: "أنا لا أعتبرها تضحية يا سيد بوارو، فلقد تزوجت من زوجي لكي أسعده، ولقد كان زوجًا جيدًا بالنسبة لي، وأسعدني طوال هذه السنين، وأتمنى أن أسعده".قال بوارو: "ستواصلين العيش هنا إذن؟".قالت السيدة لاسي: "إنه ليس منزلًا سيئًا للغاية".قال بوارو بسرعة: "لا، لا، بل على النقيض، إنه منزل مريح للغاية؛ حيث إن نظام التدفئة المركزي ونظام مياه الاستحمام رائعان".قالت السيدة لاسي: "لقد أنفقنا الكثير من المال لكي نجعل المنزل مريحا لمن يقيمون فيه، فلقد بعنا بعض الأراضي من أجل تطويره، ولحسن الحظ تمكنا من بيع الأراضي البعيدة عنه على الجانب الآخر من الحديقة، فلقد كانت قطعة الأرض قبيحة ودون واجهة جيدة، ولكننا حصلنا على سعر جيد مقابلها، واستخدمنا المال لتحسين المنزل قدر الإمكان".قال بوارو: "وماذا عن الخدم يا سيدتي؟".قالت السيدة لاسي: "حسنًا، هذه المسألة تشكل صعوبات أقل بكثير مما تظن، فلا شك في أن المرء لا يمكنه أن يتوقع وجود من يعتني به أو يسهر على راحته مثلما كان الوضع في السابق، وهناك بعض الأشخاص يأتون من القرية لخدمتنا؛ سيدتان في الصباح لإعداد الغداء وغسل الأطباق، وسيدتان أخريان في المساء. هناك الكثير من الأشخاص الذين يرغبون في الحضور والعمل لبضع ساعات يوميًّا. وبالنسبة لليلة مطلع العام الجديد، فإننا محظوظون للغاية. إن عزيزتي السيدة روس تأتي دائمًا في ليلة مطلع العام الجديد كل عام، فهى طاهية رائعة من الطراز الأول. كانت قد تقاعدت منذ عشر سنوات، ولكنها تأتي لمساعدتنا في أوقات الطوارئ. ثم هناك عزيزي بيفيريل".قال بوارو: "هل هو كبير الخدم؟".قالت السيدة لاسي: "نعم، لقد تقاعد أيضًا وانتقل ليعيش في المنزل الصغير بجوار الكوخ، ولكنه مخلص للغاية ويصر على الحضور لخدمتنا في ليلة مطلع العام الجديد، وكل ما أخشاه يا سيد بوارو أنه عجوز ومرتعش للغاية، وإن حمل أي شيء ثقيل فلا شك في أنه سيسقطه. إن رؤيته تعذبني للغاية، كما أن قلبه ليس بحالة جيدة وأخشى أن يقوم بجهد يفوق طاقته؛ ولكني سأجرح شعوره كثيرًا إن لم أسمح له بالحضور، إنه يرغي ويزبد ويصدر أصواتًا رافضة للحالة التي تكون عليها أدوات المائدة، وفي خلال ثلاثة أيام من حضوره، يعود كل شيء ليصبح رائعًا مرة أخرى. نعم، إنه صديق رائع ومخلص"، ثم أومأت عندما نظرت خارج النافذة وقالت: "أرأيت؟ لقد بدأت السماء تثلج. وسيدخل الأبناء الآن. يجب أن تلتقيهم يا سيد بوارو".تم تعريف الشباب بـ بوارو بشكل يشبه الاحتفالية، فلقد تعرف بوارو أولاً إلى كل من كولين ومايكل، حفيدها الطالب وصديقه، وكانا صبيين مهذبين في الخامسة عشرة من عمريهما، أحدهما أسود الشعر والآخر أشقر، ثم إلى قريبتهم بريدجيت، وكانت فتاة ذات شعر أسود وكانت في سنهما نفسه، وتتمتع بحيوية كبيرة.قالت السيدة لاسي: "وهذه حفيدتي سارة".نظر بوارو ببعض الاهتمام متفحصًا سارة، والتي كانت فتاة جذابة ذات شعر أحمر، وبدت له عصبية وجريئة إلى حد ما، ولكن بدا أنها تحب جدتها كثيرًا.قالت السيدة لاسي: "وهذا السيد لي وورتلي".كان السيد لي وورتلي يرتدي صِدارًا يشبه صِداريات صيادي السمك وسروالًا ضيقًا من الجينز، وكان شعره طويلاً إلى حد ما، ولم يكن قد حلق ذقنه هذا الصباح. على النقيض منه، قُدم إليه شاب آخر على أنه ديفيد ويلوين، الذي كان متماسكًا ومهذبًا وذا ابتسامة رائعة، وكان يبدو أنه مدمن على الاستحمام. وكان هناك عضو آخر ضمن هذه المجموعة - فتاة جميلة حادة الملامح إلى حد ما قُدمت إلى بوارو على أنها ديانا ميدلتون.تم إحضار الشاي ووجبة لذيذة من الكعك والكعك غير المحلى والشطائر وثلاثة أنواع من الفطائر، وقد أحب الأبناء الشاي كثيرًا، ثم وصل الكولونيل لاسي في النهاية وقال بصوت غير متحفظ:"هل هذا شاي؟ نعم، إنه شاي".ناولته زوجته قدح الشاي وأخذ هو كعكتين، ونظر إلى ديزموند لي وورتلي نظرة مليئة بالكراهية وجلس في أبعد مقعد عنه. كان رجلاً ضخمًا كث الحاجبين ذا وجه أحمر لفحته الشمس، وكان من يراه يعتقد أنه مزارع وليس صاحب المنزل.قال السيد لاسي: "لقد بدأت السماء تثلج. ستكون ليلة مطلع عام جديد بيضاء".بعد تناول الشاي، تفرق الجمع.قالت السيدة لاسي لـ بوارو: "أعتقد أنهم سيذهبون للعب بمسجلات الشرائط الآن". ثم نظرت إلى حفيدها بحنان بينما كان يغادر الغرفة، وكأن لسان حالها يقول: "إن الأطفال يلعبون بالجنود الدمى".ثم قالت: "لقد أصبحوا متيمين بالتكنولوجيا، ويقدرونها كثيرًا".إلا أن الصبيين وبريدجيت قرروا أن يذهبوا إلى البحيرة ليروا إن كان الثلج هناك يصلح للتزلج عليه.قال كولين: "كنت أعتقد أنه سيمكننا التزلج عليه هذا الصباح، إنه رجل حذر للغاية دائمًا".قالت ديانا ميدلتون برقة: "تعال لنتنزه يا ديفيد".تردد ديفيد للحظة مثبتًا عينيه على شعر سارة الأحمر، والتي كانت تقف بجوار ديزموند لي وورتلي واضعة يدها في ذراعه متطلعة إلى وجهه.قال ديفيد ويلوين: "حسنًا، هيا بنا".تأبطت ديانا ذراعه بسرعة، وتوجها نحو الباب وخرجا منه إلى الحديقة، فقالت سارة:"هل نذهب نحن أيضًا يا ديزموند؟ إن الجو خانق داخل المنزل".قال ديزموند: "من يرغب في السير؟ سأخرج سيارتي، وسنذهب إلى مقهى سبيكلد بور ونتناول مشروبًا".ترددت سارة للحظة قبل أن تقول:"دعنا نذهب إلى سوق ليدباري، إلى مقهى وايت هارت، فهو أكثر مرحًا".فكرت سارة في العالم الذي لا يمكنها الحصول عليه ووصفته ببعض الكلمات، فقد كانت تعزف عن الذهاب إلى مقهى متواضع مع ديزموند، ولم يكن هذا من عادات من تربوا في منزل كينجز لاسي، فلم تكن سيدات عائلة لاسي معتادات الذهاب إلى مقهى سبيكلد بور، وكانت سارة تشعر بأن هذا الأمر سيخيب رجاء الكولونيل لاسي وزوجته؛ ولكن ديزموند لي وورتلي قال: "ولِمَ لا؟"، ولوهلة، شعرت سارة بالغضب لأنه كان يجب عليه أن يدرك لم لا، فليس على المرء أن يجعل هؤلاء الأحباء المسنين، مثل الجد والعجوز إم، يشعرون بالاستياء دون داعٍ لذلك. لقد كانا لطيفين معها، وتركاها تعيش حياتها كما يحلو لها، ولم يكونا يفهمان سبب رغبتها في العيش في حي تشيلسي بهذه الطريقة، ولكنهما تقبلا ذلك. كان هذا بفضل إم دون شك، حيث إن الجد كان سيقيم الدنيا ولن يقعدها إلى ما لا نهاية.لم يكن خافيًا على سارة تصرفات جدها، وأدركت أنه ليس مَنْ طلب من ديزموند الحضور إلى كينجز لاسى. فقد كانت إم من فعل ذلك. كانت إم رائعة، وستظل كذلك.عندما خرج ديزموند ليحضر سيارته، أطلت سارة برأسها إلى داخل قاعة الاستقبال مرة أخرى وقالت:"سنذهب إلى سوق ليدبوري، وسنتناول مشروبًا في مقهى وايت هارت".كانت هناك نبرة من التحدي في صوتها، إلا أنه بدا كأن السيدة لاسي لم تلحظها.قالت السيدة لاسي: "حسنًا يا عزيزتي. أنا واثقة أن هذا سيكون رائعًا، فلقد خرجت ديانا مع ديفيد للتنزه، وأنا سعيدة للغاية بذلك. أعتقد أني كنت محقة عندما دعوت ديانا للحضور، فمن المحزن أن تترمل امرأة في هذه السن الصغيرة - إنها في الثانية والعشرين من عمرها - أتمنى أن تتزوج عما قريب".نظرت لها سارة بحدة وقالت: "ما الذي ترمين إليه يا إم؟".قالت السيدة لاسي بجذل: "إنها خطتي الصغيرة. أعتقد أنها تناسب ديفيد تمامًا؛ فأنا أعلم أنه كان يحبك يا عزيزتي سارة، ولكنك لن تصلحي له الآن، ولاحظت أنه ليس من النوع الذي تفضلينه؛ ولكني لا أرغب في أن يكون تعسًا، وأعتقد أن ديانا تناسبه تمامًا".قالت سارة: "يا لك من وسيطة زواج يا إم".قالت السيدة لاسي: "أعلم هذا. إن النساء المسنات دائمًا ما يكن كذلك. أعتقد أن ديانا قد بدأت تُعجب به بالفعل. هل تعتقدين أنها تناسبه؟".قالت سارة: "لا أعتقد هذا. أعتقد أن ديانا حادة وجادة للغاية. أعتقد أن ديفيد سيصاب بالملل إن تزوجها".قالت السيدة لاسي: "حسنًا، سنرى. على أية حال، إنك لا تريدينه، أليس كذلك يا عزيزتي؟".قالت سارة دون تردد: "لا، بالطبع". ثم أضافت فجأة: "إن ديزموند يعجبك يا إم، أليس كذلك؟".قالت السيدة لاسي: "أنا على يقين من أنه شاب رائع".قالت سارة: "ولكن جدي لا يحبه".قالت السيدة لاسي بهدوء: "حسنًا، إنك لم تتوقعي أن يحبه، أليس كذلك؟ ولكني على يقين من أنه سيتقبله عندما يعتاد الفكرة، ولا يجب أن تتعجليه يا عزيزتي سارة. إن المسنين يستغرقون وقتًا طويلاً لتغيير آرائهم، كما أن جدك عنيد للغاية".قالت سارة: "لا يهمني ما يعتقده أو يقوله جدي، فأنا سأتزوج من ديزموند في الوقت الذي يناسبني".قالت السيدة لاسي: "أعلم هذا يا عزيزتي، ولكن حاولي أن تكوني واقعية حيال هذا الأمر؛ فكما تعلمين، يمكن أن يسبب لكما جدك الكثير من المشكلات؛ حيث إنك لم تبلغي سن الرشد بعد، وفي العام القادم، يمكنك أن تفعلي ما يحلو لك، وأتوقع أن هوراس سيفعل الكثير قبل العام القادم".قالت سارة: "إنك تقفين في صفي، أليس كذلك يا عزيزتي؟"، ثم لفت ذراعيها حول رقبة جدتها وقبلتها.قالت السيدة لاسي: "كل ما أريده أن تكوني سعيدة. آه، لقد أحضر الشاب سيارته. أتعلمين، أحب تلك السراويل الضيقة التي يرتديها الشباب هذه الأيام، فهي تجعلهم يبدون أذكياء، ولكنها تبرز ركبهم المعوجة نحو الداخل".نعم، رأت سارة، أن ركبتي ديزموند معوجتان نحو الداخل بالفعل. لكنها لم تلحظ هذا الأمر من قبل...قالت السيدة لاسي: "هيا يا عزيزتي، استمتعي بوقتك".راقبتها السيدة لاسي وهي تخرج لتستقل السيارة، ثم تذكرت ضيفها الأجنبي، فتوجهت من فورها نحو غرفة المكتبة، ونظرت داخلها، فرأت أن هيركيول بوارو يحظى بقيلولة هانئة، فابتسمت لنفسها، وعبرت ردهة المنزل ودخلت المطبخ لتتحدث مع السيدة روس.قال ديزموند: "هيا يا جميلتي. إن عائلتك مستاءون للغاية لأنك ستخرجين للذهاب للمقهى، أليس كذلك؟ إنهم لا يزالون يعيشون في الماضي، أليس كذلك؟".قالت سارة بحدة بينما كانت تستقل السيارة: "لا، إنهم لم يثيروا أية مشكلة".قال ديزموند: "ما الهدف من استضافة ذلك الرجل الأجنبي؟ إنه محقق، أليس كذلك؟ ما الذي سيحقق فيه هنا؟".قالت سارة: "إنه لم يحضر هنا للعمل، لقد طلبت إدوينا موركومب من جدتي أن تستضيفه، وأعتقد أنه تقاعد من عمله منذ زمن بعيد".قال ديزموند: "يبدو مثل حصان منهك القوى كان يعمل في جر عربات الأجرة القديمة".قالت سارة بغموض: "أعتقد أنه يرغب في حضور حفل مطلع العام الجديد الإنجليزي التقليدي".ضحك ديزموند بسخرية وقال: "يا له من أمر تافه!، لا أعلم كيف يمكنك تحمل كل هذا".أمالت سارة رأسها للخلف حتى انسدل شعرها الأحمر خلفها وبرز ذقنها الذي يحمل علامات التحدي.وقالت بتحد: "أنا أستمتع بهذا الأمر".قال ديزموند: "لا يمكنك هذا، دعينا نحسم بالأمر برمته غدًا، ونذهب إلى سكاربورو أو أي مكان آخر".قالت سارة: "لا يمكنني فعل ذلك".ردَّ: "ولِمَ لا؟".قالت سارة: "إن هذا سيجرح مشاعرهما".قال ديزموند: "اللعنة، إنك تعلمين أنك لا تستمتعين بهذا الهراء العاطفي الطفولي".قالت سارة: "ربما أنا كذلك، ولكن ــــــــ"، ثم صمتت تمامًا، فقد أدركت بشعور يتخلله الذنب أنها كانت تتطلع كثيرًا لحضور حفل ليلة مطلع العام الجديد، فقد كانت تستمتع بالأمر برمته، ولكنها كانت خجولة من الاعتراف بالأمر إلى ديزموند، فهو لم يكن من النوع الذي يستمتع بليلة مطلع العام الجديد أو بالحياة العائلية. وللحظة، تمنت سارة ألا يحضر ديزموند إلى منزلها في ليلة مطلع العام الجديد. في واقع الأمر، تمنت ألا يحضر ديزموند إلى منزلها على الإطلاق. لقد كانت رؤيته في لندن ممتعة أكثر من رؤيته هنا.في الوقت ذاته، كان الصبيان وبريدجيت يعودون أدراجهم من عند البحيرة نحو المنزل سيرًا على الأقدام، وكانوا مستغرقين في النقاش حول مشكلة التزلج، فلقد كان القليل من الثلج لا يزال يتساقط من السماء، فإذا نظرت إليها، يمكنك أن تتوقع أنه لن يمر وقت طويل حتى يتساقط الكثير من الثلج.قال كولين: "إن الثلج سيتساقط طوال الليل. أعتقد أننا في الصباح سنحصل على ثلج يصل ارتفاعه إلى نصف متر".كانت هذه التوقعات مبهجة.قال مايكل: "دعونا نصنع رجلًا من الثلج".قال كولين: "يا إلهي، إني لم أصنع رجلًا من الثلج منذ - حسنًا، منذ أن كنت في الرابعة من عمري".قالت بريدجيت: "لا أعتقد أنه من السهل صنع رجل من الثلج، أعني، لابد أنك تعلم كيفية صنعه".قال كولين: "ربما نصنع رجلًا من الثلج يشبه السيد بوارو".قالت بريدجيت: "ونضع له شاربًا كبيرًا أسود".قال مايكل مفكرًا: "لا أعلم كيف كان السيد بوارو محققًا. لا أعلم كيف كان يتنكر مغيرًا من هيئته".قالت بريدجيت: "أتفق معك في الرأي؛ حيث إن المرء لا يمكنه تخيله ممسكًا بمجهر ويبحث عن الأدلة ويقيس آثار الأقدام".قال كولين: "لقد واتتني فكرة. دعونا نُقِم عرضًا من أجله".سألته بريدجيت: "ماذا تعني بكلمة عرض؟".قال كولين: "دعونا نرتب جريمة قتل مزيفة ليحقق فيها".قالت بريدجيت: "يا لها من فكرة رائعة! هل تعني وجود جثة بين الثلوج - وأمور من هذا القبيل؟".قال كولين: "نعم، سأجعله يشعر كأنه في منزله، أليس كذلك؟".ضحكت بريدجيت.ثم قال مايكل: "لا أعتقد أني سأتمادى لهذه الدرجة".وأردف كولين: "إن أثلجت السماء، فسنحظى بالمناخ المثالي. جثة وآثار أقدام - سيكون علينا أن نفكر في الأمر بعناية، وأن نسرق واحدًا من خناجر جدي ونصنع بعض الدماء".توقفوا عن الحديث قليلاً، ونسوا كل شيء عن الثلج المتساقط ودخلوا في نقاش محتدم.قال كولين: "هناك بعض الطلاء في حجرة الدرس القديمة، ويمكننا أن نعد بعض الدماء - وأفكر في أن نصنع بحيرة قرمزية".قالت بريدجيت: "ستكون البحيرة القرمزية وردية اللون للغاية على ما أعتقد، ويجب أن تكون الدماء مصبوغة أكثر باللون البني".سأل مايكل: "لمن ستكون الجثة؟".قالت بريدجيت بسرعة: "أنا سأكون الجثة".قال كولين: "بل أنا؛ لأنى من اقترح الفكرة".قالت بريدجيت: "لا، لا، يجب أن تكون أنا، يجب أن تكون الجثة جثة فتاة، فبذلك سيكون الأمر أكثر تشويقًا. فتاة جميلة ترقد فاقدة الحياة بين الثلوج".قال مايكل بسخرية: "فتاة جميلة، آه، ها".وأضافت بريدجيت: "كما أن شعري أسود".قال كولين: "وما شأن هذا بالأمر؟".قالت بريدجيت: "سيبدو جليًّا بين الثلوج، كما أني سأرتدي منامتي الحمراء".قال مايكل بصورة عملية: "إن ارتديت منامتك الحمراء، فلن تظهر بقع الدم عليها".قالت بريدجيت: "ستبدو جلية للغاية بين الثلوج، كما أن بها أشكالًا بيضاء ستظهر عليها بقع الدم. ألن يكون هذا رائعًا؟ هل تعتقدان أن الخدعة ستنطلي عليه؟".قال مايكل: "ستنطلي عليه إن أجدنا حبكها، وستكون هناك آثار قدميك على الثلج، وآثار قدمي شخص آخر توجه نحو الجثة ثم ابتعد عنها - آثار قدمى رجل بالطبع، ولن يرغب السيد بوارو في إزعاج الجدين، لذا، لن يعرف ما إذا كنت ميتة بحق أم لا، ألا تعتقدان أن"، ثم صمت مايكل وقد واتته فكرة مفاجئة، ونظر رفيقاه إليه، فقال: "ألا تعتقدان أن الخدعة ستزعجه؟".قالت بريدجيت بتفاؤل: "أنا لم أفكر في ذلك. أنا واثقة من أنه سيتفهم أننا كنا نحاول تسليته، كهدية ليلة مطلع العام الجديد".قال كولين مفكرًا: "لا أعتقد أنه يجب علينا تنفيذ الخدعة في مطلع العام الجديد. لا أعتقد أن الأمر سيروق جدي كثيرًا".قالت بريدجيت: "يوم الهدايا إذن".قال مايكل: "سيكون يوم الهدايا مناسبًا".قالت بريدجيت: "كما أننا سنحظى بالمزيد من الوقت للتخطيط، حيث إن هناك الكثير من الأمور لترتيبها. دعونا نذهب لنلقي نظرة على الأدوات".وأسرع ثلاثتهم إلى داخل المنزل.3كان المساء صاخبًا للغاية، حيث تم إحضار الكثير من شجر الإيلكس ونبات الهدال، وكذلك شجرة مطلع العام الجديد ووضعت جميعها في أحد أركان غرفة الطعام، وشارك الجميع في تزيينها وفي وضع فروع شجرة الإيلكس خلف الصور على الجدار، وتعليق نبات الهدال في الأماكن المناسبة من الردهة.غمغم ديزموند موجهًا حديثه إلى سارة: "لم أكن أظن أن مثل هذه العادات البالية مازالت موجودة".قالت سارة مدافعة: "لقد كنا نفعل الأمور ذاتها دائمًا".قال ديزموند: "يا له من منطق!".قالت سارة: "لا تكن مزعجًا يا ديزموند. أعتقد أنه أمر ممتع".قال ديزموند: "عزيزتي سارة، لا تفعلي هذا".قالت سارة: "حسنًا، إنه ليس كذلك إلى حد ما، ولكني أستمتع به بطريقة ما".سألت السيدة لاسي قبل منتصف الليل بعشرين دقيقة: "من سيتحدى الثلوج المتساقطة، ويذهب لحضور تجمع منتصف الليل؟".قال ديزموند: "ليس أنا، هيا بنا يا سارة".ثم جذبها من ذراعها وأدخلها غرفة المكتب وتوجه نحو علبة شرائط التسجيلات.ثم أضاف: "هناك حدود لكل شيء يا عزيزتي. لنتجمع في منتصف الليل".قالت سارة: "نعم، نعم".دوت جلبة الضحكات وحفيف المعاطف وخطوات الأقدام بينما كان أغلب الحضور يخرجون من المنزل، حيث خرج الصبيان وبريدجيت وديفيد وديانا ليذهبوا إلى مكان تجمع منتصف الليل الذي يبعد عنهم بمقدار عشر دقائق سيرًا على الأقدام تحت الثلوج المتساقطة، واختفى دوي ضحكاتهم عندما ابتعدوا عن المنزل.قال الكولونيل لاسي: "تجمع منتصف الليل! أنا لم أذهب إلى تجمع منتصف الليل أبدًا في شبابي، ولكن أية تجمعات أخرى، لا بأس. أستميحك عذرًا يا سيد بوارو".لوح بوارو بيديه وقال: "لا بأس، لا تعرني اهتمامًا".قال الكولونيل: "يجدر بي القول إن التجمعات الأخرى كافية، فتجمعات الصباح وغناء أغاني مطلع العام الجديد، ثم العودة للمنزل لتناول الغداء - كل هذا كاف، أليس كذلك يا إم؟".قالت السيدة لاسي: "نعم يا عزيزي؛ حيث إن هذا ما نفعله نحن، ولكن الشباب يستمتعون بتجمع منتصف الليل، ومن الجيد أنهم يرغبون في الذهاب".قال الكولونيل: "ولكن سارة وذلك الشاب لا يرغبان في الذهاب".قالت السيدة لاسي: "حسنًا، أعتقد أنك مخطئ يا عزيزي. إن سارة ترغب في الذهاب ولكنها لم ترغب في قول هذا".قال الكولونيل لاسي: "لا أعلم لماذا تهتم كثيرًا برأي هذا الشاب".قالت السيدة لاسي بهدوء: "إنها لا تزال صغيرة السن للغاية. هل ستذهب إلى الفراش يا سيد بوارو؟ تصبح على خير. آمل أن تحظى بنوم هانئ".قال بوارو: "وأنت أيضًا يا سيدتي؟ ألن تخلدي للفراش؟".قالت السيدة لاسي: "ليس الآن، فما زالت هناك أجربة لأضع فيها الهدايا كما ترى. أعلم أنهم جميعًا كبروا ولكنهم ما زالوا يحبون أجربة الهدايا. سأضع بها بعض المزحات وبعض الهدايا التافهة، ولكنها جميعًا تبعث على المرح".قال بوارو: "إنك تبذلين قصارى جهدك لجعل هذا المنزل سعيدًا في ليلة مطلع العام الجديد. أنا أحترمك كثيرًا".رفع بوارو يدها نحو شفتيه وقبلها بطريقة لطيفة.زمجر الكولونيل لاسي بعدما غادر بوارو الغرفة وقال: "إنه رجل متأنق كثيرًا، ولكنه يقدرك بشدة".نظرت إليه السيدة لاسي وسألته كما لو كانت فتاة في التاسعة عشرة من عمرها: "أرأيت يا هوراس، أنا أقف تحت نبات الهدال؟".دخل هيركيول بوارو غرفة نومه، وكانت غرفة كبيرة ذات تدفئة جيدة، وعندما وصل إلى فراشه الوثير، رأى مظروفًا موضوعًا على وسادته، ففتحه وأخرج منه ورقة كان مكتوبًا عليها رسالة مكتوبة بالآلة الكاتبة تقول:لا تأكل أيًّا من بودينج البرقوق، من شخص يرغب في سلامتك.حدق هيركيول بوارو في الرسالة وارتفع حاجباه وغمغم قائلاً: "أمر مبهم وغير متوقع تمامًا".4قُدم غداء مطلع العام الجديد الساعة الثانية بعد الظهر، وقد كان وليمة دون أدنى شك، فلقد كانت هناك قطع كبيرة من الأخشاب تحترق في المدفأة مضفية جوًّا مبهجًا، وعلت على صوت احتراقها أصوات الكثير من الألسنة التي انطلقت في الحديث فيما بينها، ولقد أنهى الجميع تناول شوربة المحار، وديكين روميين كبيرين، ولم يتبق منهما إلا العظام، وحانت اللحظة المنتظرة، فقد تم إحضار بودينج العام الجديد. لم يسمح العجوز بيفيريل - رغم يديه وركبتيه المرتعشتين بسبب بلوغه سن الثمانين - لأي أحد بحمل صينية البودينج. جلست السيدة لاسي وقد ضمت يديها معًا في عصبية، فقد كانت على يقين أن بيفيريل سيسقط ميتًا خلال إحدى حفلات ليلة مطلع العام الجديد. وكان عليها إما المخاطرة بتركه يموت أو أن تجرح مشاعره لدرجة قد يفضل معها أن يموت، ويبدو أنها قد انتقت الخيار الأول. كان البودينج مستقرًّا في مهابة داخل طبقه الفضي، وكانت هناك كرة كبيرة من البودينج داخل الطبق، وبها ثُبتت قطعة من شجرة الإيلكس كما لو كانت علم قائد منتصر وحولها شعلات زرقاء وحمراء اللون. وتصاعدت صيحات الفرحة من الجميع.فعلت السيدة لاسي أمرًا واحدًا: تقدمت نحو بيفيريل وجذبت طبق البودينج لتضعه أمامها حتى تقدمه للجميع بدلاً من أن تمرر الطبق الكبير لكل من الجالسين حول الطاولة. ثم تنهدت في راحة عندما وصل البودينج بأمان أمامها، وسرعان ما وُزعت الأطباق وكانت الأضواء لاتزال متوهجة.صاحت بريدجيت: "تمنَّ أمنية يا سيد بوارو، تمنَّ قبل أن تنطفئ الأنوار. بسرعة يا سيدي، أسرع".اعتدلت السيدة لاسي في جلستها في رضا، فلقد نجحت مهمة إحضار البودينج، وكان أمام كل شخص طبق بودينج به شعلة متوهجة، وحلت لحظة صمت على جميع الجالسين حول الطاولة؛ حيث إن كلًّا منهم كان يتمنى أمنية.لم يلحظ أحد التعبير الغريب الذي علا وجه السيد بوارو وهو ينظر إلى طبق البودينج القابع أمامه. "لا تتناول بودينج البرقوق". ما الذي يعنيه هذا التحذير المشئوم؟ لا يمكن أن يختلف هذا الطبق الذي أمامه عن أطباق الجميع. تنهد بوارو عندما أقر لنفسه بأنه متحير - فلم يكن يحب أن يقر لنفسه بأنه متحير - فالتقط شوكته وسكينته.قالت السيدة لاسي: "هل ترغب في بعض الكراميل؟".أخذ بوارو لنفسه بعضًا من الكراميل.قال الكولونيل لاسي مداعبًا زوجته من على الطرف الآخر من المائدة: "هل قضيت على مشروبي المفضل مرة أخرى يا إم؟"، فغمزت له السيدة لاسي.قالت السيدة لاسي: "لقد أصرت السيدة روس على استخدام أفضل أنواع الشراب يا عزيزي، وقالت إنه سيحدث فارقًا كبيرًا في المذاق".قال الكولونيل لاسي: "حسنًا حسنًا، إن ليلة مطلع العام الجديد تأتي مرة واحدة كل عام، والسيدة روس امرأة عظيمة. امرأة عظيمة وطاهية عظيمة".قال كولين: "إنها كذلك بكل تأكيد، لأنها قادرة على صنع هذا البودينج اللذيذ، إمم"، ثم ملأ فمه بالبودينج.بدأ هيركيول بوارو يتناول البودينج الذي أمامه ببطء، وبحذر، وأخذ منه ملعقة ممتلئة، وكان طعمه لذيذًا للغاية، فأخذ ملعقة أخرى. ورأى شيئًا ما يلمع في طبقه، فبدأ يستكشفه بطرف شوكته، وهبت بريدجيت، التي كانت تجلس بجواره، لمساعدته.قالت بريدجيت: "لقد حصلت على شيء ما يا سيد بوارو. إني أتساءل ماذا يكون؟".فصل بوارو الشيء الفضي الصغير عن الزبيب المحيط به، والذي كان ملتصقًا به.قالت بريدجيت: "إنه زر العازب، لقد حصل السيد بوارو على زر العازب".وضع هيركيول بوارو الزر الفضي الصغير في كأس الماء التي بجوار طبقه ليزيل عنه بقايا البودينج.قال بوارو: "إنه جميل".قال كولين موضحًا: "يعني هذا أنك ستظل عازبًا يا سيد بوارو".قال بوارو بصوت خشن: "هذا أمر متوقع. لقد كنت عازبًا لوقت طويل، ومن غير المرجح أن يتغير هذا الأمر الآن".قال مايكل: "لا تفقد الأمل أبدًا يا سيد بوارو، فلقد قرأت في الصحف أن رجلاً في الخامسة والتسعين من عمره تزوج من فتاة في الثانية والعشرين من عمرها".قال هيركيول بوارو: "إن كلماتك تمنحني الأمل".أطلق الكولونيل لاسي صوتًا غير مفهوم، واحمر وجهه ورفع يده نحو فمه.ثم زمجر قائلاً: "اللعنة يا إميلين، لِمَ تتركين الطاهية تضع الزجاج في البودينج؟".صاحت السيدة لاسي مندهشة: "زجاج!".أخرج الكولونيل لاسي الجسم الغريب من فمه، وزمجر قائلاً: "كان من الممكن أن أكسر سني، أو أن أبتلعه وأصاب بالتهاب في الزائدة الدودية".وضع الكولونيل قطعة الزجاج في كأس الماء، وأزال ما عليها من بقايا طعام ثم أمسكها بين أصبعيه.ثم قال: "إنه حجر أحمر سقط من أحد دبابيس الزينة"، ثم رفعه إلى أعلى لينظر إليه جيدًا.قال بوارو: "هل تسمح لي؟".مد بوارو ذراعه من فوق من يجلس بجواره برشاقة، وأخذ الحجر من بين أصبعي الكولونيل لاسي وبدأ يتفحصه بدقة. وكما قال صاحب المنزل، لقد كان حجرًا أحمر في لون الياقوتة، وكان الضوء ينعكس عن وجه بوارو كلما أداره بين أصبعيه، وفي مكان ما حول المائدة، دُفع أحد المقاعد بحدة نحو الوراء ثم أعيد إلى مكانه مرة أخرى.صاح مايكل: "يا إلهي. سيكون رائعًا لو أنه جوهرة حقيقية".قالت بريدجيت متمنية: "ربما كان حقيقيًّا".قال مايكل: "لا تكوني حمقاء يا بريدجيت. إن ياقوتة في ذلك الحجم ستساوي الآلاف من الجنيهات، أليس كذلك يا سيد بوارو؟".قال بوارو: "بالطبع ستكون كذلك".قالت السيدة لاسي: "ولكن ما لا يمكنني استيعابه هو كيف وصلت إلى داخل البودينج".قال كولين وهو ينظر لآخر قطعة من البودنج في طبقه: "أنا لم أحصل على شيء، هذا ليس عدلاً".بدأت بريدجيت تغني على الفور: "كولين لم يحصل على شيء، كولين لم يحصل على شيء، كولين الجشع لم يحصل على شيء".صاحت ديانا بصوت عالٍ وواضح: "لقد حصلت على الخاتم".قالت بريدجيت: "هنيئًا لك يا ديانا، ستكونين أول من يتزوج".قالت بريدجيت شاكية: "لقد حصلت على قمع أصبع الخياط".بدأ الصبيان يغنيان: "بريدجيت ستكون خادمة عجوزًا، بريدجيت ستكون خادمة عجوزًا".سأل ديفيد: "من حصل على المال؟ هناك عشرة بنسات حقيقية من الذهب في البودينج. أعلم هذا، لقد أخبرتني السيدة روس".قال ديزموند لي وورتلي: "أعتقد أني هذا الشخص المحظوظ".وقد استطاع من يجلسان على جانبي الكولونيل أن يسمعاه يغمغم: "لا شك في هذا".قال ديفيد: "لقد حصلت على خاتم أيضًا"، ثم نظر إلى ديانا وقال: "يا لها من مصادفة، أليس كذلك؟".وضحك الجميع، ولم يلحظ أحد أن السيد بوارو - كما لو كان يفكر في أمر آخر - قد أسقط الحجر الأحمر خلسة في جيبه.تم تقديم الفطائر المحشوة بالفواكه وحلوى العام الجديد بعد البودينج. وبعد ذلك، انسحب الأشخاص المسنون من المجموعة ليأخذوا قيلولة قصيرة قبل أن يحل موعد الاحتفال بإضاءة شموع العام الجديد. إلا أن هيركيول بوارو لم يأخذ قيلولة، بل تسلل خلسة ليدخل إلى المطبخ الضخم عتيق الطراز.سأل بوارو وهو ينظر حوله وقد علت ابتسامة واسعة شفتيه: "هل يمكن أن أهنئ الطاهي على تلك الوجبة الرائعة التي تناولتها للتو؟".خيم الصمت للحظة، ثم تقدمت السيدة روس بطريقة مهيبة لتقف أمامه، فلقد كانت امرأة ضخمة الجثة ذات قوام ممشوق كما لو كانت تحمل لقب دوقة، وكانت هناك امرأتان نحيفتان ذواتا شعر رمادي واقفتان في الخلف عند غرفة غسيل الأطباق وفتاة ذات شعر أشعث كانت تتحرك جيئة وذهابًا بين غرفة غسيل الأطباق والمطبخ، ولكنهن كن تابعات مطيعات للسيدة روس؛ فلقد كانت ملكة المطبخ.قالت السيدة روس بلطف: "يسعدني سماع أنك استمتعت بالطعام يا سيدي".صاح هيركيول بوارو: "استمتعت به!"، ثم بحركة غريبة مبالغ بها، رفع يده نحو شفتيه وقبَّل أطراف أصابعه قبل أن يُطلق القبلة نحو السقف، ثم تابع حديثه قائلاً: "ولكنك عبقرية يا سيدة روس. عبقرية! لم أتذوق في حياتي أروع من هذا الطعام. شوربة المحار ــــــــ"، ثم أصدر صوتًا بشفتيه يعبر عن مذاقها الرائع، " والحشو، حشو المكسرات في الديك الرومي، كان مذاقًا لم أتذوقه من قبل".قالت السيدة روس بلطف: "حسنًا، من الرائع أن تقول هذا يا سيدي، إنها وصفة خاصة، أعطاني إياها طاهٍ نمساوي كنت أعمل معه منذ سنوات طويلة، ولكن بقية الطعام إنجليزي عادي".سألها هيركيول بوارو: "وهل يوجد أفضل منه؟".قالت السيدة روس: "لطف منك أن تقول هذا الكلام يا سيدي. لا شك في أنك، كأجنبي، قد تفضل الطهو الأوروبي، ولكني قادرة على إعداد الطعام الأوروبي أيضًا".قال بوارو: "أنا على ثقة من ذلك يا سيدة روس، يمكنك إعداد أي شيء، ولكن يجب أن تدركي أن الطهو الإنجليزي - الطهو الإنجليزي الجيد، ليس من نوعية الطعام الذي يحصل عليه المرء في فنادق ومطاعم الدرجة الثانية - بل سيقدره الذواقون في أوروبا أكثر، وأعتقد أنه كانت هناك بعثة خاصة تم إرسالها إلى لندن في أوائل القرن التاسع عشر، وعادت إلى فرنسا حاملة تقريرًا عن روائع البودينج الإنجليزي، حيث كتبوا: إننا لا نمتلك مثل هذا البودينج في فرنسا. إن الأمر يستحق السفر إلى انجلترا من أجل تذوق البودينج الإنجليزي المتنوع المتميز أكثر من جميع أنواع البودينج"، تابع بوارو حديثه وقد بدا الآن كأنه ينظم قصيدة ملحمية: "يأتي بودينج العام الجديد، مثل ذلك الذي تناولناه اليوم. إن هذا البودينج مطهو في المنزل، أليس كذلك؟ لم تشتروه من الخارج؟".قالت السيدة روس: "بالطبع يا سيدي. لقد صنعته بنفسي وأعددت وصفته بنفسي كما أفعل منذ سنوات طويلة. فعندما وصلت إلى هنا، أخبرتني السيدة لاسي بأنها طلبت البودينج من أحد المتاجر في لندن لتجنبني التعب، ولكني قلت: لا يا سيدتي، إن هذا لطف منك، ولكن لا يوجد بودينج تشترينه من أي متجر قد يعادل بودينج العام الجديد المطهو في المنزل"، ثم تابعت السيدة روس حديثها وقد تحمست للحديث عن الفن الذي تصنعه: "لم أتمكن من إعداده قبل مطلع العام الجديد بوقت طويل. إن بودينج العام الجديد يجب أن يجهز قبل ذلك بأسابيع ثم يُترك ليجف. وكلما تركته ليجف لوقت أطول، ضمن الوقت المعقول، كان أفضل. أتذكر الآن أنه عندما كنت طفلة وكنت أذهب للتجمعات كل أحد، كان رجل يخرج ليخبرنا بأنه يجب أن نبدأ بقطف الفاكهة في ذلك الأسبوع، وكانت تلك دلالة على بدء إعداد بودينج العام الجديد، وكنا نجمع الفاكهة في يوم الأحد وتبدأ أمي بإعداد بودينج العام الجديد في ذلك الأسبوع، وكان يجب أن أفعل مثل ذلك هذا العام. لقد أعددت هذا البودينج منذ ثلاثة أيام، قبل وصولك بيوم، ولكني اتبعت العادة القديمة: على جميع من في المنزل أن يدخلوا المطبخ ويقلبوا مزيج البودينج ثم يتمنوا أمنية. إنها عادة قديمة يا سيدي ألتزم بها دائمًا".قال هيركيول بوارو: "هذا رائع، رائع. وحضر الجميع بالفعل إلى المطبخ، أليس كذلك؟".قالت السيدة روس: "بلى يا سيدي. الشابان والآنسة بريدجيت والشاب اللندني الذي حضر إلى المنزل، وشقيقته والسيد ديفيد والآنسة ديانا - السيدة ميدلتون - وقاموا جميعًا بتقليب الخليط".قال بوارو: "كم عدد أخلاط البودينج التي أعددتها؟ هل هذا هو الخليط الوحيد؟".قالت السيدة روس: "لا يا سيدي، لقد أعددت أربعة: اثنين كبيرين واثنين أصغر، وقد خططت لتقديم الخليط الكبير الثاني في مطلع العام الجديد والخليطين الصغيرين أعددتهما من أجل الكولونيل والسيدة لاسي ليكفيهما عندما يكونان بمفردهما بعد رحيل أفراد العائلة".قال بوارو: "لقد فهمت".قالت السيدة روس: "في واقع الأمر، لقد كان هذا هو الخليط الخطأ الذي قدمته إليكم اليوم".قطب بوارو حاجبيه وقال: "الخليط الخطأ؟ كيف هذا؟".قالت السيدة روس: "حسنًا، إننا نمتلك وعاء كبيرًا مخصصًا لبودينج العام الجديد - وعاء كبيرًا من الخزف على قمته هيكل من فروع الإيلكس ونبات الهدال، ودائمًا ما نسلق بودينج العام الجديد فيه، ولكن وقعت حادثة مؤسفة: ففي صباح اليوم، وبينما كانت آني تحضره من على الرف، سقط منها وانكسر. وبالطبع يا سيدي، لم يكن ممكنًا تقديم هذا البودينج، أليس كذلك؟ حيث كان سيحتوي على بعض الشظايا؛ لذا، كان علينا تقديم خليط البودينج الآخر - بودينج مطلع العام الجديد والذي كان محفوظًا في وعاء عادي، وهو وعاء مستدير وكبير ولكنه ليس مزخرفًا مثل الوعاء المخصص لليلة مطلع العام الجديد. من أين سنحصل على وعاء آخر مثله، لا أعلم. إنهم لم يعودوا يصنعون أوعية بمثل هذا الحجم في الوقت الحالي. لقد أصبحت جميعها صغيرة الحجم. إنك لم تعد قادرًا على شراء طبق لتحضير الإفطار يستوعب ثماني أو عشر بيضات وبعض اللحم المقدد. لم تعد الأمور مثلما كانت".قال بوارو: "بكل تأكيد؛ ولكن اليوم كان مثل الماضي. حفل مطلع العام الجديد اليوم يشبه حفلات مطلع العام الجديد في الماضي، أليس كذلك؟".تنهدت السيدة روس وقالت: "حسنًا، أنا سعيدة لسماعك تقول هذا يا سيدي، ولكني لم أعد أحصل على المساعدة التي كنت أحصل عليها في الماضي - ليست المساعدة من مساعدين ماهرين على الأقل. إن فتيات اليوم ـــــــــ"، ثم خفضت صوتها قليلاً وقالت: " إن نواياهن حسنة، ويرغبن في العمل، ولكنهن لم يحصلن على التدريب الكافي، إن كنت تعي ما أقول".قال هيركيول بوارو: "لقد تغير الزمن بالفعل. أنا أيضًا أرى أن الأمر محزن في بعض الأحيان".قالت السيدة روس: "سيدي، إن هذا المنزل ضخم للغاية، كما تعلم، لتعيش فيه السيدة والكولونيل بمفردهما، والسيدة تدرك هذا الأمر، فهما يعيشان في ركن صغير منه، وهذا أمر مختلف تمامًا، وأنت لن تشعر بالحياة في هذا المنزل إلا في ليلة مطلع العام الجديد عندما تحضر العائلة بأكملها".قال بوارو: "أعتقد أن هذه هي المرة الأولى التي يحضر فيها السيد لي وورتلي وشقيقته إلى المنزل، أليس كذلك؟".طغت نبرة متحفظة إلى حد ما على صوت السيدة روس وهي تقول: "نعم يا سيدي. إنه شاب لطيف ولكن، حسنًا - من الغريب أن تحظى الآنسة سارة بصديق مثله، طبقًا لأسلوب تفكيرنا؛ ولكن أسلوب الحياة في لندن مختلف. من المحزن أن شقيقته تمر بوعكة صحية، فلقد خضعت لعملية جراحية، وكان يبدو أن صحتها قد تحسنت خلال الأيام الأولى بعد حضورها إلى هنا، ولكن في ذلك اليوم، وبعد تقليب خليط البودينج، ساءت حالتها مرة أخرى وهي لم تبرح فراشها منذ ذلك الحين. أعتقد أنها غادرت المستشفى قبل أن تتعافى بشكل كامل. يا لأطباء العصر الحالي! إنهم يخرجونك من المستشفى قبل أن تتمكن من الوقوف على قدميك. لقد حدث الأمر ذاته مع زوجة ابن شقيقتي..."، وانطلقت السيدة روس تروي قصة طويلة عن سوء المعاملة في المستشفيات طبقًا لما حدث مع أقربائها، وتقارنها بالمعاملة والرعاية الرائعة التي كانوا يحصلون عليها في الماضي.حاول بوارو مواساتها قدر إمكانه، وقال: "لم يتبق إلا أن أشكرك على هذا الطعام الرائع والشهي. هل تسمحين لي بالتعبير عن مدى تقديري؟"، ووضع بوارو في يد السيدة روس ورقة مالية من فئة الخمسة جنيهات، فقالت السيدة روس بشكل روتيني:"لا يجب عليك فعل هذا يا سيدي".قال بوارو: "أنا أصر، أصر".قبلت السيدة روس المكافأة التي استحقتها على عملها الرائع وقالت: "حسنًا، هذا لطف كبير منك يا سيدي، وأتمنى لك ليلة مطلع عام جديد سعيدة ومبهجة ومطلع عام جديد مبهجًا".5انتهت ليلة مطلع العام الجديد مثل أية ليلة مطلع عام جديد أخرى، فقد أضيئت الأنوار وأُحضرت كعكة عام جديد رائعة لتناولها مع الشاي، والتي استقبلها الجميع بترحاب شديد ولكنهم لم يتناولوا منها إلا القليل، ثم كان هناك عشاء متأخر.ذهب كل من بوارو وصاحب المنزل وزوجته إلى الفراش مبكرًا.قالت السيدة لاسي: "تصبح على خير يا سيد بوارو، وأرجو أن تكون قد استمتعت بالأمسية".قال بوارو: "لقد كان يومًا رائعًا يا سيدتي - يومًا مذهلًا".قالت السيدة لاسي: "يبدو أن هناك ما يشغل تفكيرك".قال بوارو: "إني أفكر في البودينج الإنجليزي".سألته السيدة لاسي بلطف: "ربما وجدته ثقيلاً قليلاً، أليس كذلك؟".قال بوارو: "لا، لا، أنا لا أتحدث عنه كطعام، بل أفكر في معناه".قالت السيدة لاسي: "إنه تقليد قديم. حسنًا، تصبح على خير يا سيد بوارو، ولا تحلم كثيرًا ببودينج العام الجديد أو الفطائر المحشوة بالفواكه".غمغم بوارو لنفسه بينما كان يخلع ملابسه: "نعم. هناك مشكلة غريبة، في بودينج العام الجديد. هناك أمر ما لا يمكنني فهمه على الإطلاق". هز بوارو رأسه في حيرة وقال: "حسنًا - سنرى".بعد قيامه ببعض الأمور، ذهب إلى الفراش ولكنه لم ينم.وبعد ساعتين تقريبًا، كوفئ على صبره، فقد انفتح باب غرفة نومه ببطء شديد، فابتسم بوارو لنفسه، فقد بدا الأمر كما لو أنه اعتقد أن مثل هذا الأمر سيحدث، ثم تذكر بسرعة قدح القهوة الذي ناوله إياه ديزموند لي وورتلي بكل أدب، ثم بعد ذلك عندما أعطاه ظهره، وضع قدح القهوة على الطاولة للحظات، ثم التقطه مرة أخرى فظهرت علامات الرضا على وجه ديزموند، إن كانت هذه علامات الرضا الخاصة به، عندما رآه يتناول القهوة عن آخرها. ولكن، رفعت ابتسامة صغيرة شارب بوارو بينما كان يفكر في أن هناك شخصًا آخر سواه هو من ينام ملء عينيه الآن. حدث بوارو نفسه قائلاً: "يا لهذا الشاب ديفيد. إنه قلق وتعيس، ولن يضيره أن ينام ملء عينيه الليلة، والآن، دعونا نر ما سيحدث".رقد بوارو في مكانه دون حراك وكان يتنفس برتابة مع إصدار صوت شخير خافت بين الحين والآخر.اقترب الشخص من الفراش وانحنى فوقه، وعندما اطمأن لنوم بوارو، استدار ذلك الشخص مبتعدًا عن الفراش ومتوجهًا نحو طاولة الزينة، وباستخدام مصباح يدوي، بدأ الزائر يتفحص مقتنيات بوارو الموضوعة بنظام على طاولة الزينة، وفتش بأصابعه في محفظته وفتح بهدوء أدراج طاولة الزينة ثم واصل البحث في جيوب ملابس بوارو، ثم أخيرًا، اقترب الزائر من الفراش مرة أخرى وبحذر شديد وضع يده تحت الوسادة. وبعدما أخرج يده من تحت الوسادة، وقف للحظات كما لو كان يفكر فيما عليه فعله تاليًا. بدأ يدور في أنحاء الغرفة باحثًا داخل التحف، ثم دخل الحمام المجاور للغرفة، ثم عاد مرة أخرى إلى داخل الغرفة، ثم خرج من الغرفة مطلقًا صيحة غضب خافتة.قال بوارو بصوت خافت: "آه، لقد خاب أملك. لقد خاب أملك كثيرًا. لم يكن يجدر بك أن تتخيل أن هيركيول بوارو سيخبئ شيئًا ما في مكان يمكنك العثور عليه فيه"، ثم انقلب على جنبه الآخر وغط في نوم عميق.في صباح اليوم التالي، سمع بوارو طرقًا خافتًا على باب غرفته.قال: "من بالباب؟ تفضل بالدخول".انفتح الباب، ووقف على عتبته كولين متقطع الأنفاس وأحمر الوجه، وكان مايكل واقفًا خلفه.قال كولين: "سيد بوارو، سيد بوارو".اعتدل بوارو في جلسته في فراشه وقال: "ما الأمر؟ هل أحضرت شاي الصباح؟ ما الأمر؟".لم يتمكن كولين من الحديث للحظة، فقد كان يبدو كما لو كانت هناك مشاعر كثيرة تجيش في صدره. في واقع الأمر، كانت قلنسوة النوم التي يرتديها بوارو هي ما منعه من الكلام. ولكنه تمكن من السيطرة على نفسه وبدأ يتحدث قائلاً:"أعتقد - يا سيد بوارو، هل يمكنك مساعدتنا؟ هناك أمر سيئ قد حدث".قال بوارو: "هل هناك خطب ما؟ ماذا حدث؟".قال كولين: "إنها بريدجيت. إنها هناك بين الثلوج، وأعتقد - إنها لا تتحرك أو تتحدث - من الأفضل أن تأتي معنا لترى بنفسك. أخشى - أنها ربما تكون قد ماتت".أزاح بوارو أغطية فراشه جانبًا وقال: "ماذا؟ الآنسة بريدجيت - ماتت".قال كولين: "أعتقد أن شخصًا ما قتلها، فهناك - هناك دماء و - تعال معنا أرجوك".قال بوارو: "بالطبع، بالطبع، سأحضر على الفور".وبسرعة كبيرة، وضع بوارو قدميه في حذائه الثقيل، وارتدى معطفًا ثقيلاً ذا ياقة من الفراء فوق منامته.وقال: "أنا قادم، قادم في الحال. هل أيقظتم جميع من في المنزل؟".قال كولين: "لا، لم أخبر أحدًا غيرك حتى الآن، فقد اعتقدت أن هذا سيكون أفضل، فلم يستيقظ جدي وجدتي بعد، والخدم يعدون الإفطار في الطابق السفلي، ولكني لم أقل أي شيء لبيفيريل. إن بريدجيت على الجانب الآخر من المنزل بجوار الشرفة ونافذة المكتبة".قال بوارو: "فهمت، تقدم وسأتبعك".استدار كولين نحو الجانب الآخر مخفيًا ابتسامته، وتقدم بوارو نحو الأسفل، وخرجوا من الباب الجانبي للمنزل. كان صباحًا صافيًا، ولم تكن الشمس قد توسطت كبد السماء بعد. كان الثلج قد توقف ، ولكن يبدو أن الثلوج سقطت بكثافة خلال الليل، فقد كانت منتشرة في كل مكان صانعة سجادة بيضاء تمتد على مرمى البصر، كان العالم يبدو نقيًّا وأبيض وجميلاً.قال كولين بأنفاس متقطعة: "هناك. إنها هناك"، وأشار بأصبعه بطريقة درامية.كان المشهد دراميًّا بالفعل، فعلى بعد بضعة أمتار، كانت بريدجيت راقدة بين الثلوج مرتدية منامة قرمزية وكان هناك شال أبيض صوفي حول كتفيها، وكانت هناك بقع قرمزية تلطخ الشال الأبيض، وكان وجهها مدفونًا في الثلج وشعرها الأسود متناثرًا حوله. كانت إحدى ذراعيها تحت جسمها والذراع الأخرى مفرودة إلى جانبها، وكانت أصابعها مضمومة بعضها إلى بعض، وفي منتصف البقعة القرمزية كان يبرز مقبض خنجر كردي كبير كان الكولونيل لاسي يعرضه على ضيوفه في الليلة السابقة.قال بوارو: "يا إلهي! يبدو الأمر كما لو أنه مشهد تمثيلي".صدرت صيحة مفاجئة خافتة من مايكل، فدفع كولين نفسه للتنفس وقال:"أعلم ذلك. إن المشهد لا يبدو طبيعيًّا إلى حد ما. أترى آثار الأقدام هذه - أعتقد أنه لا يجب علينا إفسادها".قال بوارو: "نعم، آثار الأقدام. يجب أن نكون حذرين حتى لا نفسدها".قال كولين: "هذا ما اعتقدته، ولهذا السبب، لم أسمح لأحد بالاقتراب منها حتى حضرت أنت، فقد اعتقدت أنك تعلم ما يجب فعله".قال هيركيول بوارو بحيوية: "هذا صحيح. أولاً، علينا أن نرى إن كانت لا تزال على قيد الحياة، أليس كذلك؟".قال مايكل بتردد: "بلى، بالطبع؛ ولكن، كما ترى، اعتقدنا أنها - أعني، لم نرغب في ــــــــ".قال بوارو: "آه، لقد توخيتما الحذر. يبدو أنكما قرأتما الروايات البوليسية. من المهم للغاية عدم لمس أي شيء وأن تظل الجثة كما هي؛ ولكننا لسنا على يقين بعد من أنها أصبحت جثة، أليس كذلك؟ على الرغم من أن الحذر مطلوب فإن الإنسانية لها الأولوية؛ لذا علينا أن نفكر في إحضار طبيب قبل أن نفكر في استدعاء الشرطة".قال كولين وهو لايزال مذهولاً إلى حد ما: "نعم، بالطبع".قال مايكل بسرعة: "لقد فكرنا - أعني - لقد فكرنا أن نخبرك بالأمر قبل أن نفعل أي شيء آخر".قال بوارو: "ستبقيان هنا إذن، سأدور من حول الجانب الآخر من المنزل حتى لا أفسد آثار الأقدام. إنها آثار أقدام ممتازة، واضحة للغاية، أليس كذلك؟ آثار أقدام رجل وامرأة توجها نحو مكان جثتها، ثم عادت آثار أقدام الرجل من حيث أتت ولكن المرأة لم تفعل".قال كولين وهو يلهث: "لابد أنها آثار أقدام القاتل".قال بوارو: "بالضبط، آثار أقدام القاتل، قدم طويلة ورفيعة مرتدية حذاء من نوع غريب؛ إن هذا أمر مثير للاهتمام، وأعتقد أنه من السهل ملاحظة هذا. نعم، آثار الأقدام تلك على قدر كبير من الأهمية".في تلك اللحظة، خرج ديزموند لي وورتلي من المنزل بصحبة سارة وانضم إليهم.سألهم ديزموند بطريقة مسرحية: "ما الذي تفعلونه هنا بحق السماء؟ لقد رأيتكم من نافذة غرفة نومي. ما الأمر؟ يا إلهي، ما هذا؟ يبدو أنها ــــــــ".قال هيركيول بوارو: "بالضبط. يبدو أنها جريمة قتل، أليس كذلك؟".شهقت سارة، ثم رمقت الصبيين بنظرة متشككة.سأل ديزموند: "هل تعني أن هناك شخصًا ما قتل الفتاة - ما اسمها - بريدجيت؟ من الذي قد يرغب في قتلها؟ أمر لا يُصدق".قال بوارو: "هناك الكثير من الأمور التي لا يصدقها عقل، خاصة قبل الإفطار، أليس كذلك؟ أليست هذه إحدى مقولاتكم القديمة: هناك ستة أمور مستحيلة قبل الإفطار"، ثم أضاف قائلاً: "انتظروني هنا من فضلكم، جميعكم".دار بوارو حول المنزل بحذر، واقترب من بريدجيت وانحنى للحظة فوق جثتها، وكان جسد كل من كولين ومايكل يهتزان بفعل ضحكة مكتومة، واقتربت منهما سارة وقالت: "ما الذي تدبرانه؟".همس كولين: "بريدجيت الرائعة. أليست رائعة؟ إنها لم تحرك ساكنًا على الإطلاق".همس مايكل: "لم أر من قبل شخصًا ميتًا مثلما رأيت بريدجيت".اعتدل هيركيول بوارو واقفًا.ثم قال بصوت حمل انفعالاً لم يعتده: "يا له من أمر محزن!".تغلبت السعادة على كل من كولين ومايكل، فاستدارا في الاتجاه الآخر، وقال مايكل بصوت مرتعش:"ما الذي علينا فعله؟".قال بوارو: "هناك أمر واحد علينا فعله؛ يجب علينا أن نرسل في طلب الشرطة. هل سيطلبها أحدكما أم تتركاني أفعل ذلك؟".قال كولين: "أعتقد - أعتقد، ماذا تعتقد يا مايكل؟".قال مايكل: "نعم، أعتقد أن الخدعة قد انكشفت"، ثم تقدم نحو الأمام، وللمرة الأولى بدا غير واثق من نفسه وقال: "أنا آسف للغاية، أرجو ألا يزعجك الأمر كثيرًا. لقد أعددنا نوعًا من الدعابة من أجل ليلة مطلع العام الجديد. لقد كنا نرغب في إعداد مشهد جريمة قتل من أجلك".قال بوارو: "كنتما ترغبان في إعداد مشهد جريمة قتل من أجلي؟. هكذا إذن - هكذا إذن- ".وضح كولين الأمر قائلاً: "لقد كان هذا مشهدًا تمثيليًّا أعددناه لجعلك تشعر كأنك في منزلك".قال هيركيول بوارو: "لقد فهمت. لقد حاولتما أن تخدعاني خدعة أبريل، أليس كذلك؟ ولكن اليوم ليس الأول من أبريل، إننا في السادس والعشرين من ديسمبر".قال كولين: "أعتقد أنه لم يكن ينبغي علينا فعل ذلك، ولكن، أنت لست مستاءً منا، أليس كذلك يا سيد بوارو؟ هيا يا بريدجيت. انهضي، لابد من أنكِ تشعرين بالبرد الشديد الآن".إلا أن بريدجيت لم تتحرك قيد أنملة.قال هيركيول بوارو: "هذا غريب، يبدو أنها لم تسمعك"، ثم نظر إليهما متفحصًا وقال: "هل هي مزحة كما تقولان؟ هل أنتما واثقان من أنها مزحة؟".قال كولين منزعجًا: "نعم، إننا لم نقصد إحداث أي أذى".قال بوارو: "لِمَ لم تنهض الآنسة بريدجيت إذن؟".قال كولين: "لا أدري".قالت سارة بنفاذه صبر: "هيا يا بريدجيت، لا تواصلي الرقود هناك، وتتظاهري بأنك لم تسمعينا".قال كولين في ذعر: "إننا آسفون للغاية يا سيد بوارو. تقبل اعتذارنا".قال بوارو في لهجة غريبة: "لا حاجة بكما للاعتذار".حدق كولين إليه وقال: "ماذا تعني؟"، ثم التفت نحو بريدجيت وقال: "بريدجيت، ما الأمر؟ لِمَ لا تنهضين؟ لِمَ تواصلين الرقود هناك؟".أشار بوارو إلى ديزموند وقال: "أنت، سيد لي وورتلي، تعال هنا - ".توجه ديزموند نحوه.قال بوارو: "تحسس نبضها".انحني ديزموند بجوارها، ووضع طرف أصبعه على معصمها.حدق ديزموند في بوارو وقال: "لا يوجد نبض... وذراعها متيبسة. يا إلهي. إنها ميتة بحق".أومأ بوارو برأسه وقال: "نعم، إنها ميتة. شخص ما حوَّل المزحة إلى مأساة".قال ديزموند: "من يكون هذا الشخص؟".قال بوارو: "هناك مجموعة من آثار الأقدام تتجه نحو الجثة ثم تبتعد عنها، مجموعة آثار أقدام تحمل نفس آثار الأقدام التي خلفتها أنت للتو يا سيد لي وورتلي، عندما أتيت من هذا الطريق إلى هنا".استدار ديزموند حول نفسه.وقال: "يا إلهي - هل تتهمني؟ أنا؟ هل جننت؟! لم أقتل هذه الفتاة".قال بوارو: "لماذا؟ ما زلت أتساءل... دعنا نر...".انحنى إلى جوار الجثة، وفتح برفق أصابع الفتاة التي تقبض على شيء ما.أخذ ديزموند نفسًا عميقًا، وحدق نحو الجثة غير مصدق لعينيه، فقد كانت هناك جوهرة كبيرة تستقر في راحة يد الفتاة.صاح ديزموند: "إنه ذلك الحجر الملعون الذي خرج من البودينج".قال بوارو: "هل هو نفسه؟ هل أنت واثق؟".قال ديزموند: "بالطبع".وبحركة سريعة، انحنى ديزموند والتقط الحجر الأحمر من راحة بريدجيت.قال بوارو محذرًا: "لا يجب أن تفعل هذا، لا يجب إفساد أي شيء في مسرح الجريمة".قال ديزموند: "أنا لم أحرك الجثة، أليس كذلك؟ ولكن هذا الحجر قد يضيع وهو أحد الأدلة، إن أفضل شيء نفعله هو أن نستدعي الشرطة بأسرع وقت ممكن. سأذهب على الفور لأطلب الشرطة".ثم استدار حول نفسه وبدأ يعدو بقوة نحو المنزل، فأسرعت سارة لتقف بجوار بوارو.وهمست، وكان وجهها قد شحب حتى أصبح يشبه وجوه الموتى: " أنا لا أفهم. لا أفهم"، ثم أمسكت بذراع بوارو وقالت: "ما الذي تعنيه بشأن آثار الأقدام؟".قال بوارو: "انظري بنفسك يا آنسة".كانت آثار الأقدام التي تتجه نحو الجثة، ثم تبتعد عنها هي نفس آثار الأقدام التي توجهت مع بوارو نحو الجثة ثم ابتعدت عنها.قالت سارة: "هل تعني أن القاتل هو ديزموند؟ هذا هراء".فجأة، شق الهواء صوت محرك سيارة، فاستداروا نحو مصدر الصوت، فرأوا سيارة تتجه نحو مدخل المنزل بسرعة كبيرة، وتمكنت سارة من إدراك سيارة من تلك.قالت سارة: "إنه ديزموند، إنها سيارة ديزموند. لابد من أنه ذهب ليحضر الشرطة بدلاً من الاتصال بها".خرجت ديانا ميدلتون تعدو من المنزل حتى وصلت إليهم.وصاحت بأنفاس متقطعة: "ماذا حدث؟ لقد دخل ديزموند المنزل في عجلة من أمره، وقال أمرًا ما بشأن تعرض بريدجيت للقتل، ثم أمسك بسماعة الهاتف ولكن لم تكن هناك حرارة، وقال إن هناك من قطع أسلاك الهاتف، وأن الخيار الوحيد هو أخذ السيارة والذهاب لإحضار الشرطة. لماذا الشرطة؟".أشار بوارو نحو الجثة.حدقت إليه ديانا وقالت: "بريدجيت؟ ولكن، هل هذه مزحة؟ لقد سمعت أمرًا ما ليلة البارحة، وأعتقد أن الشباب كانوا سيدبرون مزحة من أجلك يا سيد بوارو، أليس كذلك؟".قال بوارو: "نعم، لقد كان هذا مقصدهم - أن يدبروا مزحة من أجلي. والآن، دعونا ندخل المنزل، جميعًا. لا يجب أن نظل في هذا الصقيع إن لم يكن هناك ما يمكننا فعله حتى وصول السيد لي وورتلي مع الشرطة".قال كولين: "ولكن، لا يمكننا ترك بريدجيت هنا وحدها".قال بوارو بلطف: "لا يمكنك أن تفيدها بشيء إن بقيت هنا. تعال، إنها مأساة محزنة للغاية، ولكن لا يمكننا فعل أي شيء لمساعدة الآنسة بريدجيت؛ لذا، دعونا ندخل المنزل لنحظى ببعض الدفء، وربما نتناول بعضًا من الشاي أو القهوة".أطاعه الجميع وتبعوه نحو المنزل، وكان بيفيريل على وشك قرع الجرس، ورغم اعتقاده أنه من الغريب أن يخرج أغلب من في المنزل إلى الخارج وارتداء بوارو لمنامته تحت معطف ثقيل، فإنه لم يعلق على الأمر على الإطلاق، وعلى الرغم من سن بيفيريل الكبيرة، فإنه كان رئيس خدم مثاليًّا، فلم يكن يعلق على أي شيء لم يُطلب منه التعليق عليه. دخل الجميع غرفة الطعام وجلسوا على مقاعدها، وعندما حصل كل منهم على قدح من القهوة وبدأوا يرتشفونها، تحدث بوارو.قال بوارو: "لابد أن أقص عليكم شيئًا من التاريخ. لا يمكنني أن أقص عليكم جميع التفاصيل؛ ولكني سألخص لكم الأمر. تدور القصة حول أمير شاب حضر إلى هذه البلاد، وأحضر معه جوهرة شهيرة ليعيد تشكيلها من أجل المرأة التي سيتزوجها، ولكن، وللأسف، قبل أن يتمكن من هذا، كان قد عقد صداقة مع امرأة شابة جميلة، ولم تكن تلك الشابة الجميلة تكترث كثيرًا بالرجل، ولكنها كانت تكترث بالجوهرة - كانت ترغب فيها كثيرًا لدرجة أنها ذات يوم اختفت حاملة هذا الإرث التاريخي الذي توارثته عائلة الأمير جيلًا بعد جيل. حينها، أصبح هذا الشاب المسكين في مأزق، والأمر الأهم في كل ذلك، أنه لا يمكن أن يسمح بانتشار هذه الفضيحة، لذا، كان من المستحيل أن يلجأ إلى الشرطة. لهذا السبب، جاء لي، أنا هيركيول بوارو، وقال لي: أعد لي ياقوتتي التاريخية. حسنًا، كان لهذه الشابة صديق، كانت له الكثير من السوابق المشبوهة، وكان متورطًا في الابتزاز وكان يحاول بيع الجوهرة خارج البلاد، ولقد كان ماهرًا في هذا، وكانت الشرطة تشك فيه ولكنها لم تتمكن من إثبات الجرم عليه، وتبادر إلى علمي أن هذا الشاب البارع يقضي ليلة مطلع العام الجديد هنا في هذا المنزل، وكان من المهم أنه بمجرد حصول هذه الشابة على الجوهرة أن تختفي عن الأنظار لبعض الوقت حتى لا تتعرض للكثير من الضغوط وألا تخضع لأية استجوابات. لذا، رتب الشاب الأمر بحيث تأتي هذه المرأة الشابة إلى هنا، إلى منزل كينجز لاسي مدعية أنها شقيقة هذا الشاب البارع ــــــــ".شهقت سارة بصوت مسموع.وقالت: "لا، يا إلهي، ليس هنا، ليس هنا معي".قال بوارو: "ولكن، هذا ما حدث. وبلعبة صغيرة، حللت أنا أيضًا ضيفًا عليكم لقضاء ليلة مطلع العام الجديد، وكان على هذه المرأة الشابة أن تتظاهر بأنها خرجت للتو من المستشفى، وأن حالتها تحسنت بمجرد وصولها إلى هنا؛ ولكني وصلت إلى المنزل أيضًا، وأنا محقق - محقق شهير. وهنا انتابها الهلع، فخبأت الياقوتة في أول مكان فكرت فيه؛ ومن ثم تظاهرت بأنها أصيبت بانتكاسة والتزمت الفراش مرة أخرى، ولم تكن ترغب في أن أراها، فلا شك في أني أحمل صورة للمرأة التي سرقت الجوهرة وأني سأتعرف عليها، فلقد كان الأمر مملاًّ للغاية بالنسبة لها، ولكن كان عليها أن تبقى في غرفتها وأن يحمل لها أخوها الطعام لتتناوله في غرفتها".سأل مايكل: "وماذا عن الياقوتة؟".قال بوارو: "أعتقد أنه بمجرد انتشار خبر وصولي إلى المنزل، كانت هذه الشابة معكم في المطبخ، حيث كنتم تضحكون وتتحدثون وتقلبون خليط بودينج العام الجديد، الذي كان موضوعًا في أوعية، ووضعت المرأة الشابة الياقوتة في أحد هذه الأوعية - ليس البودينج الذي من المفترض أن نتناوله في ليلة مطلع العام الجديد، ليس ذلك الخليط الذي تعلم أنه يوضع في الوعاء الخاص، بل وضعته في الخليط الآخر الذي من المخطط تناوله في مطلع العام الجديد. وقبل هذا، كانت تخطط لأن ترحل، ولاشك في أنها كانت ستأخذ البودينج معها. ولكن تدخل القدر، ففي صباح يوم مطلع العام الجديد، وقعت حادثة، حيث سقط الوعاء الذي يحتوي على بودينج ليلة مطلع العام الجديد على الأرضية الحجرية وتحطم إلى قطع صغيرة. ما العمل إذن؟ اضطرت السيدة روس إلى أخذ خليط البودينج الآخر وتقديمه للضيوف".قال كولين: "يا إلهي، هل تعني أنه في يوم مطلع العام الجديد عندما كان جدي يتناول البودينج كان قد عثر على الياقوتة الحقيقية بالفعل في فمه؟".قال بوارو: "بالضبط، ويمكنك أن تتخيل حينها ما كان يشعر به السيد ديزموند لي وورتلي عندما رأى ذلك. حسنًا، وماذا حدث بعد ذلك؟ مُررت الياقوتة إليَّ وتفحصتها وتمكنت من وضعها في جيبي خلسة، بطريقة لا تدل على اهتمامي بها، إلا أن شخصًا واحدًا على الأقل لاحظ ما فعلت، وفتش ذلك الشخص غرفة نومي بينما كنت راقدًا في الفراش، وفتشني، ولكنه لم يعثر على الياقوتة. لماذا؟".قال مايكل لاهثًا: "لأنك كنت قد أعطيتها لـ بريدجيت. هذا ما تعنيه، ولهذا السبب - ولكني لا أفهم - أعني - اسمع، ماذا حدث بعد ذلك؟".ابتسم له بوارو.ثم قال: "تعال إلى غرفة المكتبة وانظر عبر النافذة وسترى شيئًا يفسر لك اللغز بأكمله".تقدم بوارو نحو غرفة المكتبة وتبعه الجميع.قال بوارو: "فكروا من جديد في مسرح الجريمة".أشار بوارو إلى خارج النافذة، فشهقوا جميعًا مرة واحدة، فلم تكن هناك جثة ترقد بين الثلوج، ولم يكن هناك أي أثر للمأساة التي حدثت منذ قليل عدا أثر فوضى بين الثلوج.قال كولين بصوت خافت: "لم يكن كل هذا حلمًا، أليس كذلك؟ هل حمل أحدكم الجثة بعيدًا؟".قال بوارو: "أرأيت؟ لغز الجثة المختفية"، ثم أومأ برأسه ولمعت عيناه.صاح مايكل: "يا إلهي. سيد بوارو، إنك لم - اسمعوا، لقد كان يخدعنا طوال هذا الوقت".لمعت عيناه بشدة هذه المرة.وقال: "هذا صحيح يا أولاد، لقد كنت أعد مزحتي أنا أيضًا. كنت أعلم كل شيء عن خدعتكم الصغيرة، ولذا، أعددت خدعة مضادة. تعالي يا آنسة بريدجيت، فأنا أرجو ألا يكون وجودك بين الثلج قد أصابك بضرر، ولن أسامح نفسي إذا أصبت بالتهاب رئوي".كانت بريدجيت قد دخلت الغرفة للتو، وكانت ترتدي تنورة ثقيلة وسترة صوفية، وكانت تضحك.قال بوارو: "لقد أرسلت لك بعضًا من شاي الأعشاب في غرفتك. هل تناولته؟".قالت بريدجت: "كانت تكفيني رشفة واحدة منه. أنا على خير ما يرام. هل أتقنت دوري يا سيد بوارو؟ يا إلهي، إن ذراعي ما زالت تؤلمني بسبب الوضعية التي جعلتني أرقد عليها".قال بوارو: "لقد كنت رائعة يا صغيرتي، مذهلة؛ ولكن، انظري، ما زال الجميع متحيرين. مساء أمس، ذهبت إلى الآنسة بريدجيت وأخبرتها بأني أعلم بشأن الخدعة وطلبت منها أن تؤدي خدعة من أجلي، وقد أدتها بمهارة مذهلة، حيث أعدت آثار الأقدام باستخدام حذاء السيد لي وورتلي".قالت سارة بصوت أجش:"ولكن، ما الهدف من كل هذا يا سيد بوارو؟ ما الهدف من إرسال ديزموند ليحضر الشرطة؟ سيغضب رجال الشرطة كثيرًا عندما يكتشفون أن الأمر مجرد خدعة".هز بوارو رأسه برفق.وقال: "ولكني لا أعتقد على الإطلاق يا آنسة أن السيد لي وورتلي سيذهب لإحضار الشرطة. إن جرائم القتل ليست من نوعية الجرائم التي قد يرغب السيد لي وورتلي في التورط فيها، ولكنه أصيب بالهلع، وكل ما كان يهمه هو الحصول على الياقوتة؛ لذا جذبها من يد بريدجيت وتظاهر بأن الهاتف لا يعمل وانطلق نحو سيارته متظاهرًا بأنه سيذهب ليحضر الشرطة، وأعتقد أن هذه هي المرة الأخيرة التي سترينه فيها لوقت طويل. أعتقد أن لديه طريقة ما لمغادرة إنجلترا؛ حيث إن لديه طائرته الخاصة، أليس كذلك يا آنسة؟".أومأت سارة برأسها وقالت: "نعم، لقد كنا نفكر في -"، ثم صمتت.قال بوارو: "لقد كان يرغب في أن تهربي معه بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ حسنًا، يا لها من طريقة جيدة لتهريب الجوهرة خارج البلاد، فعندما تهرب بصحبة فتاة وينتشر الخبر، لن تكون موضعًا للشبهات فيما يتعلق بتهريب جوهرة تاريخية من البلاد. نعم، سيكون هذا الأمر تمويهًا رائعًا".قالت سارة: "لا أصدق هذا. لا أصدق كلمة واحدة مما تقول".قال بوارو: "اسألي شقيقته إذن"، ونظر بوارو ببطء من فوق كتفها، فاستدارت سارة بحدة لترى ما ينظر إليه.كانت هناك فتاة شقراء جميلة تقف على عتبة الباب، مرتدية معطفًا من الفراء وكانت متجهمة الوجه، وكان يبدو عليها الغضب الشديد.قالت الفتاة مطلقة ضحكة كريهة قصيرة: "شقيقته! هذا المحتال ليس شقيقي، فلقد حصل على مراده إذن وتركني أتحمل اللوم بمفردي، أليس كذلك؟ لقد كان الأمر كله من تدبيره، وأقنعني بمشاركته في الأمر، وقال لي إن هذا المال سيكون عونًا لنا في الأوقات العصيبة، وقال إننا لن نخضع أبدًا للمحاكمة خوفًا من الفضيحة، وكان يمكنني دائمًا أن أهدد قائلة إنه قد أعطاني الجوهرة التاريخية بنفسه، وكنت سأذهب مع ديزموند لاقتسام الغنيمة في باريس - والآن، تركني هذا النذل وهرب"، ثم غيرت مسار حديثها فجأة وقالت: "كلما غادرت هذا المنزل مبكرًا، كان أفضل - هل يمكن لأحدكم أن يطلب لي سيارة أجرة؟".قال بوارو: "هناك سيارة تقف أمام الباب في انتظارك لتقلك إلى المحطة يا آنسة".قالت الفتاة: "إنك تفكر في كل شيء، أليس كذلك؟".قال بوارو في رضا: "في أغلب الأمور".ولكن، لم يكن بوارو ليفلت الأمر بسهولة، فعندما عاد إلى غرفة الطعام بعدما ساعد الآنسة لي وورتلي على ركوب السيارة التي تنتظرها، كان كولين في انتظاره.وكان وجهه الطفولي عابسًا للغاية.قال كولين: "ولكن، ماذا عن الجوهرة يا سيد بوارو؟ هل ستتركه يفر بها؟".صمت بوارو وبدأ يبرم شاربه وبدا مضطربًا.ثم قال بضعف: "سأستعيدها. هناك طرق أخرى، ولكن عليَّ أن -".قال مايكل: "حسنًا، أعتقد أن هذا المحتال قد أفلت بالجوهرة بالفعل".ولكن، بريدجيت كانت أكثر ذكاءً.فلقد صاحت: "إنه يخدعنا مرة أخرى. أليس كذلك يا سيد بوارو؟".قال بوارو: "هل نعرض عليهم الخدعة الأخيرة يا آنسة؟ ضعي يدك في جيبي الأيسر".وضعت بريدجيت يدها في جيبه الأيسر، وأخرجتها مطلقة صيحة انتصار وبها ياقوتة ضخمة تلمع بلون قرمزي رائع.شرح بوارو الأمر قائلاً: "أعتقد أنك أدركت أن الجوهرة التي وضعتها في يدك كانت نسخة طبق الأصل من الياقوتة، وكنت قد أحضرتها معي من لندن تحسبًا لاضطراري لوضعها مكان الياقوتة الحقيقية. هل فهمت؟ إننا لا نرغب في إثارة فضيحة. سيحاول السيد ديزموند أن يبيع الياقوتة في باريس أو بلجيكا أو أي مكان آخر يملك معارف به، وحينها سيكتشف أن الياقوتة ليست حقيقية، وماذا سيكون أفضل من ذلك؟ النهاية السعيدة. لقد تمكنَّا من تجنب الفضيحة، وسوف يستعيد الأمير جوهرته ويعود لبلاده، ويعود لرشده، ونأمل أن يحظى بزيجة سعيدة، وينتهي كل شيء على خير".غمغمت سارة: "ليس بالنسبة لي".كانت تغمغم بصوت خافت للغاية لدرجة أن أحدًا لم يسمعها سوى بوارو الذي هز رأسه بلطف.وقال: "أنت مخطئة يا آنسة سارة فيما قلت. لقد اكتسبت بعض الخبرة، وجميع الخبرات قيمة للغاية. وأعتقد أنك ستحظين بالسعادة في المستقبل".قالت سارة: "لا أعتقد ذلك".قال كولين مقطبًا حاجبيه: "سيد بوارو، كيف علمت بأمر الخدعة التي ندبرها؟".قال هيركيول بوارو وهو يبرم شاربه: "إن عملي أن أعلم الأمور".قال كولين: "ولكني لا أعلم كيف تمكنت من اكتشاف الخدعة. هل ذهب إليك شخص ما وأخبرك؟".قال بوارو: "كلا، على الإطلاق".قال كولين: "كيف علمت إذن؟ أخبرني".قال جميع الحضور: "نعم، أخبرنا".عارضهم بوارو قائلاً: "لا، إن أخبرتكم بكيفية كشفي الخدعة فسأكون مثل مؤدي الحيل الذي يكشف كيفية فعله إياها".قالوا جميعًا مرة أخرى: "أخبرنا يا سيد بوارو، هيا، أخبرنا".قال بوارو: "هل ترغبون بشدة في أن أكشف لكم عن هذا اللغز الأخير؟".قالوا: "نعم، هيا ، أخبرنا".قال بوارو: "أعتقد أنه سيخيب ظنكم، أعتقد أنه لا يمكنني ذلك".قالوا: "هيا يا سيد بوارو. أخبرنا، كيف علمت بأمر الخدعة؟"."حسنًا، لقد كنت جالسًا في المكتبة بجوار النافذة على أحد المقاعد بعد تناول الشاي في ذلك اليوم، وكنت أريح جسدي، ثم رحت في سبات عميق، وعندما استيقظت كنتم تتناقشون بشأن خطتكم خارج النافذة التي بجواري مباشرة، وكانت النافذة مفتوحة من الأعلى".صاح كولين: "هل هذا كل شيء؟ يا لبساطة الأمر!".قال هيركيول بوارو مبتسمًا: "أليس كذلك؟ أرأيتم؟ لقد خاب أملكم".قال مايكل: "لا بأس، على الأقل، لقد أصبحنا نعلم كل شيء الآن".غمغم هيركيول بوارو محدثًا نفسه: "هل هذا صحيح؟ لا أعلم، أنا الذي من يُفترض به أن يعرف".سار بوارو نحو بهو المنزل وهو يهز رأسه قليلاً، وللمرة العشرين أخرج من جيبه ورقة متسخة." لا تأكل أيًّا من بودينج البرقوق، من شخص يرغب في سلامتك".هز هيركيول بوارو رأسه مفكرًا، فقد كان - هو من يمكنه تفسير أي شيء - غير قادر على تفسير هذه الرسالة. أمر مهين. من الذي كتبها؟ ولم كتبها؟ حتى أدرك أنه لن ينعم بلحظة من صفاء البال، وفجأة أخرجته شهقة غريبة عالية من تأملاته. نظر نحو الأسفل فوجد شابة ذات شعر أشعث تجلس على الأرضية منشغلة بكنس الأرض بمكنسة وجاروف، وكانت الفتاة ترتدي زي عمل مزخرفًا بالزهور، وكانت تحدق في الورقة التي بين يديه بعينين جاحظتين.قالت الفتاة: "سيدي، اعذرني يا سيدي، أرجوك".سألها بوارو باهتمام: "ومن تكونين يا صغيرتي؟".قالت الفتاة: "اسمي آني بايتس يا سيدي، وقد حضرت لمساعدة السيدة روس. لم أكن أعني يا سيدي، لم أكن أقصد فعل أي شيء لا ينبغي عليّ فعله. لقد كنت حسنة النية يا سيدي، وكنت أريد الخير لك, أعني".بدأ بوارو يستوعب الأمر، فأخرج الورقة التي في يده وقال:"هل أنت من كتب هذه الرسالة يا آني؟".قالت آني: "لم أكن أقصد أي ضرر يا سيدي".ابتسم لها بوارو وقال: "بالطبع لم تكوني تقصدين ذلك، ولكن، أخبريني، لِمَ كتبتها؟".قالت: "إن الأمر يتعلق بهما يا سيدي، السيد لي وورتلي وشقيقته، ولكني واثقة من أنها ليست شقيقته في الحقيقة. لم يصدق أي منا ذلك، فلقد خمنا جميعًا الأمر، وهو أن هناك أمرًا غريبًا يحدث. سأخبرك بالأمر بصورة مباشرة يا سيدي. لقد كنت في حمام غرفتها لأخذ المناشف المتسخة، واسترقت السمع عبر الباب. كان الشاب في غرفتها وكانا يتحدثان معًا. وسمعت أجزاء مما كانا يقولانه على غرار: ذلك المحقق، هذا الرجل بوارو الذي سيحضر إلى هنا. علينا أن نفعل شيئًا حيال هذا الأمر. علينا أن نزيحه من طريقنا في أقرب وقت ممكن؛ ثم خفض صوته وقال بنبرة شريرة: أين وضعتها؟؛ فقالت الفتاة: في البودينج. حينها يا سيدي، قفز قلبي في صدري لدرجة ظننت معها أنه سيتوقف عن الخفقان. لقد اعتقدت أنهما يرغبان في تسميمك بوضع السم في بودينج العام الجديد. ولم أكن أعلم ما عليَّ فعله. لم تكن السيدة روس لتستمع لفتاة مثلي. ثم فكرت أن أكتب هذه الرسالة لك، وقد فعلت ووضعتها على وسادتك لتعثر عليها عندما تذهب للفراش"، ثم توقفت عن الحديث وهي تلهث.قال بوارو في النهاية: "يبدو أنك تشاهدين الكثير من الأفلام العاطفية يا آني، أو ربما كان التلفاز هو ما يؤثر على عقلك؟ ولكن، المهم هو أنك فتاة طيبة وذكية، وعندما أصل إلى لندن، سأرسل لك هدية".قالت آني: "شكرًا لك يا سيدي، شكرًا جزيلاً لك".قال بوارو: "ما الهدية التي ترغبين فيها؟".قالت آني: "أي شيء أريده يا سيدي؟ هل ستحضر لي أي شيء أريده؟".قال هيركيول بوارو: "ضمن حدود المعقول، نعم".قالت آني: "هل يمكنني الحصول على صندوق زينة؟ صندوق زينة أنيق من الطراز الأول مثل ذلك الصندوق الذي تمتلكه شقيقة السيد لي وورتلي، المزيفة؟".قال بوارو: "نعم، نعم، يمكنني إحضاره من أجلك".ثم واصل حديثه قائلاً: "رائع. لقد كنت في المتحف ذات يوم وكنت أشاهد تلك الآثار البابلية القديمة، أو شيئًا من هذا القبيل، التي يعود تاريخ صنعها لآلاف السنين - ومن بين هذه الآثار، رأيت صناديق الزينة، إن قلب المرأة لا يتغير على مر العصور".قالت آني: "ماذا قلت يا سيدي؟".قال بوارو: "لا عليك. إني أحادث نفسي. ستحصلين على صندوق زينتك يا صغيرتي".قالت آني: "شكرًا لك يا سيدي، شكرًا جزيلاً لك".رحلت آني في سعادة، وظل بوارو ينظر إليها وهو يهز رأسه في رضا.ثم غمغم محدثًا نفسه: "والآن، سوف أرحل، لم يعد هناك ما أفعله هنا".دارت ذراعان حول عنقه فجأة.وكانت بريدجيت التي قالت: " إن وقفت تحت نبات الهدال، فسوف ــــــــ".6لقد استمتع هيركيول بوارو بالأمر، استمتع به كثيرًا، وحدث نفسه بأنه قضى ليلة مطلع عام جديد رائعة.لغز الصندوق الإسباني1دخل هيركيول بوارو - في موعده تمامًا كالعادة - الغرفة الصغيرة التي جلست فيها الآنسة ليمون، سكرتيرته البارعة، تنتظر تعليماته الخاصة بهذا اليوم.للوهلة الأولى، سيبدو لك أن الآنسة ليمون مضلعة الشكل - الأمر الذي كان يرضي حاجة بوارو للتناسق الهندسي.ليس هذا لأنه كان يهتم بالنساء اللواتي يرضين شغفه بالدقة بالهندسية، بل إنه كان على النقيض من هذا، فهو رجل عتيق الطراز، متحيز للانحناءات - الانحناءات الرائعة. كان يحب أن تكون النساء نساءً بحق، وكان يجب أن يكن مبهرات وزاهيات الألوان ومذهلات، مثل تلك الكونتيسة الروسية التي كان قد تعرف عليها - ولكن كان هذا منذ زمن بعيد، وكانت هذه واحدة من مغامرات شبابه.ولكنه لم يعتبر أبدًا الآنسة ليمون امرأة، بل كان يراها آلة بشرية - أداة دقيقة، فقد كانت كفاءتها منقطعة النظير، وكانت تبلغ الثامنة والأربعين من عمرها، وكانت محظوظة بأنها لا تملك أي خيال يُذكر.قال بوارو: "صباح الخير يا آنسة ليمون".ردت: "صباح الخير يا سيد بوارو".جلس بوارو إلى مكتبه، ووضعت الآنسة ليمون بريد الصباح أمامه مقسمًا بنظام إلى فئات، ثم جلست على مقعدها ممسكة بورقة وقلم مستعدة لتدوين ملاحظاته.ولكن، في ذلك اليوم، كان هناك تغيير طفيف في الروتين اليومي، فلقد كان بوارو قد أحضر معه جريدة الصباح، وكان يقرأ باهتمام شديد تلك العناوين الرئيسية الكبيرة والسميكة.آخر تطورات لغز الصندوق الإسباني.قال بوارو: "هل قرأتِ جريدة الصباح يا آنسة ليمون؟".قالت: "لقد فعلت يا سيد بوارو؛ حيث إن الأخبار الواردة من جنيف ليست جيدة".لوح بوارو بيده معلنًا أنه لا يهتم بالأخبار الواردة من جنيف.قال بوارو: "الصندوق الإسباني. هل يمكنك أن تخبريني يا آنسة ليمون، ما هو الصندوق الإسباني بالتحديد؟".قالت: "أعتقد يا سيد بوارو أنه صندوق أتى في الأساس من إسبانيا".قال بوارو: "هذا اعتقاد منطقي قد يتوصل إليه أي شخص؛ ولكن هذا يعني إذن أنك لا تعلمين أي شيء عنه، أليس كذلك؟".قالت الآنسة ليمون: "إنها عادة ما تكون صناديق صُنعت في العصر الفيكتوري، على ما أظن، وهي صناديق ضخمة تحمل الكثير من الحلي النحاسية، وهي عادة ما تبدو أنيقة ولامعة إن تم الحفاظ عليها بشكل جيد، فلقد كانت شقيقتي قد اشترت أحدها في موسم التخفيضات، وهي تحتفظ داخله بالملابس الكتانية؛ حيث إن الصندوق يبدو جميلاً للغاية".قال بوارو وهو ينحني بلباقة: "أنا على يقين من أن الأثاث في منزل شقيقاتك محفوظ بطريقة جيدة".ردت عليه الآنسة ليمون بحزن شاكية من أن الخدم لم يعودوا يعلمون معنى الكدح هذه الأيام. بدا بوارو متحيرًا إلى حد ما، ولكنه قرر ألا يستفسر عن المغزى من كلمة "كدح" الغامضة التي استخدمتها.نظر مرة أخرى إلى الجريدة متفحصًا الأسماء: الميجور ريتش، السيد والسيدة كلايتون، القائد ماكلارين، السيد والسيدة سبينس - أسماء لم تعن له شيئًا، ولكنها جميعًا لأشخاص يحبون ويكرهون ويخافون. إنها تلك الدراما التي لا يشارك هيركيول بوارو فيها، ولكنه يود ذلك. ستة أشخاص في حفل في إحدى الأمسيات أقيم في غرفة تحتوي على صندوق إسباني ضخم بجوار أحد حوائطها؛ ستة أشخاص، كان خمسة منهم يتحدثون ويأكلون ويضعون أسطوانات الموسيقى في جهاز الجرامافون ويرقصون، والشخص السادس كان ميتًا داخل الصندوق الإسباني...فكر بوارو، كم كان صديقي العزيز هاستينجز سيستمتع بهذا، وكم من التخيلات الرومانسية كانت ستراوده، وكم من السخافات كان سينطق بها. آه، عزيزي هاستينجز، في هذه اللحظة، اليوم، كم أفتقده... بدلاً من -ثم تنهد ونظر إلى الآنسة ليمون، فادركت بفطنتها أن بوارو ليس في المزاج الذي يسمح بتوجيه رسائل، لذا كشفت الغطاء عن آلتها الكاتبة وجلست مستعدة لتزاول أي عمل يوكله لها، فلم يكن هناك أي شيء قادر على إثارة اهتمامها حتى الصناديق الإسبانية الشريرة التي تحتوي على الجثث.تنهد بوارو ونظر إلى الوجه الظاهر في إحدى صور الجريدة، فلم تكن طباعة الصحف جيدة، وكانت الصورة ضبابية للغاية - ولكن، يا له من وجه!.السيدة كلايتون، زوجة القتيل...وفجأة، ألقى بالجريدة إلى الآنسة ليمون.وقال: "انظري، انظري إلى ذلك الوجه".نظرت إليه الآنسة ليمون مطيعة دون أن يبدو على وجهها أي تعبير.قال بوارو: "ما الذي تعتقدينه بشأنها يا آنسة ليمون؟ السيدة كلايتون".أمسكت الآنسة ليمون بالجريدة، وحدقت إلى الصورة وقالت:"إنها تشبه قليلاً زوجة مدير المصرف الذي كان يسكن بجوارنا عندما كنا نعيش في كرويدون هيث".قال بوارو: "رائع، قصي عليَّ - إن سمحت - قصة زوجة مدير المصرف".قالت الآنسة ليمون: "إنها ليست بالقصة السعيدة يا سيد بوارو".قال بوارو: "لم أتخيل أنها ستكون سعيدة، قصيها عليَّ".قالت الآنسة ليمون: "كانت هناك الكثير من الشائعات حول السيدة أدامز وفنان شاب، ثم أطلق السيد أدامز النار على نفسه، ورفضت زوجته الزواج من الفنان الشاب، الذي تناول السم، ولكن تمكن المسعفون من إنقاذه، ثم تزوجت السيدة أدامز من محامٍ شاب. أعتقد أنه وقعت المزيد من المشكلات، ولكننا كنا قد انتقلنا من حي كرويدون هيث في ذلك الوقت، لذا، لم يتبادر إلى علمي المزيد عنها".أومأ هيركيول بوارو برأسه في حدة.وقال: "هل كانت امرأة جميلة؟".قالت الآنسة ليمون: "حسنًا، لا يمكنك أن تقول إنها جميلة، ولكن كان هناك أمر ما بشأنها -".قال بوارو: "بالضبط، ما هذا الشيء الذي تمتلكه - تلك النساء الفاتنات على مدار التاريخ: هيلين أميرة طروادة، وكليوباترا -؟".وضعت الآنسة ليمون ورقة داخل الآلة الكاتبة بنشاط.وقالت: "بالفعل يا سيد بوارو، فأنا لم أفكر أبدًا في هذا الأمر؛ حيث إنه برمته يبدو سخيفًا بالنسبة لي، فلو اهتم الناس بأعمالهم ولم يفكروا في مثل هذه الأمور، لكان الوضع أفضل كثيرًا".بعدما اختتمت حديثها عن الضعف والشغف الإنساني، وضعت الآنسة ليمون أصابعها على أزرار الآلة الكاتبة منتظرة أن يُسمح لها بالبدء بعملها.قال بوارو: "هذه وجهة نظرك، وفي هذه اللحظة، ترغبين بشدة في أن أسمح لك بأن تبدئي عملك، ولكن عملك يا آنسة ليمون ليس أن تستقبلي رسائلي أو تنظمي أوراقي أو تردي على مكالماتي الهاتفية أو تكتبي رسائلي على الآلة الكاتبة فحسب، وأنت بار عة في جميع هذه الأمور، ولكني لا أتعامل مع الوثائق فحسب، بل مع الناس أيضًا، وأنا بحاجة للمساعدة في هذا المضمار".قالت الآنسة ليمون بصبر: "بالطبع يا سيد بوارو، ما الذي تريدني أن أفعله؟".قال بوارو: "هذه القضية تثير اهتمامي، وسأكون سعيدًا إن درست التقارير الصباحية المنشورة عنها في جميع الصحف، وكذلك التقارير المنشورة في الصحف المسائية - وأعطيتني ملخصًا عن جميع الحقائق المذكورة فيها".قالت الآنسة ليمون: "حسنًا يا سيد بوارو".انسحب بوارو إلى غرفة جلوسه وقد علت وجهه ابتسامة حزينة.حدث بوارو نفسه قائلاً: "يا للعجب! بعد أن كان معي صديقي العزيز هاستينجز، أصبحت معي الآنسة ليمون. هل يوجد تناقض أكبر من هذا يمكن للمرء تخيله؟ آه يا عزيزي هاستينجز، كم كان سيستمتع بهذه القضية، وكان سيواصل الحديث عنها جيئة وذهابًا، واضعًا أقوى الاحتمالات الرومانسية لكل حادثة، وكان سيصدق دون تردد أية كلمة تُنشر عنها في الصحف. يا للآنسة ليمون المسكينة! إنها لن تستمتع على الإطلاق بالمهمة التي أوكلتها لها".دخلت عليه الآنسة ليمون حاملة ورقة كتبتها بالآلة الكاتبة.وقالت: "لقد أحضرت لك المعلومات التي طلبتها يا سيد بوارو، ولكني أخشى أنها ليست موثقة؛ حيث إن الصحف تغير الكثير من الحقائق في القصص التي تنشرها، ولا يمكنني أن أضمن لك سلامة هذه الحقائق إلا بنسبة 60% فقط".غمغم بوارو قائلاً: "إنه تقدير متحفظ للغاية. شكرًا لك يا آنسة ليمون على مجهودك".كانت الحقائق رائعة، ولكنها واضحة للغاية، فلقد أقام الميجور تشارلز ريتش - وهو أعزب ثري - حفلًا مسائيًّا لبعض من أصدقائه في شقته. وكان هؤلاء الأصدقاء هم السيد والسيدة كلايتون والسيد والسيدة سبينس والقائد ماكلارين، فلقد كان القائد ماكلارين صديقًا قديمًا لكل من ريتش وعائلة كلايتون، أما السيد والسيدة سبينس، فقد كانا زوجين شابين تعرفت عليهما المجموعة حديثًا. كان أرنولد كلايتون يعمل في الخزانة، وكان جيريمي سبينس موظفًا حكوميًّا صغيرًا. كان الميجور ريتش في الثامنة والأربعين من عمره، وكان أرنولد كلايتون في الخامسة والخمسين من عمره، أما القائد ماكلارين فكان في السادسة والأربعين من عمره، وكان جيريمي سبينس في السابعة والثلاثين من عمره، ويُقال إن السيدة كلايتون "تصغر زوجها ببضع سنوات". كان هناك شخص لم يتمكن من حضور الحفل في اللحظة الأخيرة، حيث استُدعي السيد كلايتون للسفر إلى إسكتلندا في رحلة عمل مفاجئة، وكان من المفترض أن يغادر محطة كينجز كروس في الثامنة والربع مساءً مستقلًّا القطار.استمر الحفل مثلما تستمر الحفلات الأخرى، وبدا أن الجميع يستمتعون بأوقاتهم، فلم يكن الحفل مثيرًا ولا كئيبًا، وانتهى في حوالي الساعة الثانية عشرة إلا الربع مساءً. وغادر الضيوف الأربعة معًا، وتشاركوا سيارة أجرة. أوصلوا أولاً القائد ماكلارين إلى ناديه، ثم أوصل السيد والسيدة سبينس مارجريتا كلايتون إلى حي كارديجان جاردنز على ناصية شارع سلون، ثم واصلا طريقهما نحو منزلهما في حي تشيلسي.لم يتم اكتشاف الجثة حتى صباح اليوم التالي عندما اكتشفها خادم الميجور ريتش الذي يُدعى ويليام بورجيس، فلم يكن الأخير يعيش في المنزل، وكان قد حضر مبكرًا ليرتب غرفة الجلوس قبل أن يعد شاي الصباح للميجور ريتش، وفي أثناء ترتيب بورجيس للغرفة، جفل عندما رأى بقعة كبيرة من الدماء تلطخ السجادة فاتحة اللون التي يوجد فوقها الصندوق الإسباني، وبدا أن بقعة الدماء هذه قد تسربت من الصندوق، فأسرع الخادم وفتح غطاء الصندوق ونظر داخله، فشعر بالرعب عندما وجد داخله جثة السيد كلايتون وقد طُعن في رقبته.خرج بورجيس مسرعًا إلى الشارع ليبحث عن أقرب رجل شرطة، مدفوعًا بالفكرة الأولى التي واتته.هذه هي الحقائق المجردة عن القضية، ولكن كانت هناك المزيد من التفاصيل، فلقد أبلغت الشرطة السيدة كلايتون بما حدث والتي "فقدت الوعي على الفور"، وكانت المرة الأخيرة التي ترى فيها زوجها في الليلة السابقة بعد السادسة مساءً بقليل، وكان قد عاد للمنزل وهو يشعر بضيق شديد، حيث طُلب للذهاب إلى إسكتلندا بشأن بعض من أملاكه هناك، وطلب من زوجته أن تذهب للحفل من دونه، ثم توجه إلى ناديه الذي يرتاده القائد ماكلارين أيضًا والتقى بأحد أصدقائه وقص عليه الأمر، ويُقال إنه نظر إلى ساعته ورأى أن الوقت قد حان للذهاب إلى محطة كينجز كروس، فاتصل أولاً بالميجور ريتش ليعتذر عن عدم حضوره، ولكن الخط لم يكن يعمل.وطبقًا لما قاله ويليام بورجيس، وصل السيد كلايتون إلى الشقة الساعة الثامنة إلا خمس دقائق مساءً، ولم يكن الميجور ريتش متواجدًا، ولكن كان من المتوقع وصوله في أية لحظة، لذلك اقترح بورجيس أن يدخل السيد كلايتون لينتظره؛ ولكن كلايتون قال إنه لا يمتلك الوقت الكافي لذلك، ولكنه سيدخل الشقة ويترك له رسالة، وقال إنه في طريقه ليلحق بالقطار من محطة كينجز كروس، فأدخله الخادم غرفة الجلوس وعاد إلى المطبخ حيث كان يعد شطائر الكانابيه من أجل الحفل. لم يسمع الخادم عودة سيده؛ ولكن بعد حوالي عشر دقائق، أطل عليه الميجور ريتش من باب المطبخ وأمره أن يسرع بإحضار بعض السجائر التركية التي تفضلها السيدة سبينس. لبى الخادم الأمر وعاد حاملاً السجائر وأعطاها لسيده في غرفة الجلوس، ولكن لم يكن السيد كلايتون متواجدًا، فاعتقد الخادم أنه من الطبيعي أن يكون قد رحل ليلحق بالقطار.كانت رواية الميجور ريتش للأحداث قصيرة ومقتضبة، فلم يكن السيد كلايتون متواجدًا في الشقة عندما دخلها ولم يكن يعلم أنه كان متواجدًا، ولم يعثر على أية رسالة متروكة من أجله، وكانت المرة الأولى التي سمع فيها عن رحلة السيد كلايتون إلى إسكتلندا عندما وصلت السيدة كلايتون وبقية الأصدقاء لحضور الحفل.كانت هناك نقطتان أخريان في الصحف المسائية: تركت السيدة كلايتون -"التي فقدت الوعي بفعل الصدمة" - منزلها في حي كارديجان جاردنز، ويُعتقد أنها ذهبت للإقامة عند بعض أصدقائها.وكانت النقطة الأخرى عبارة عن خبر أخير يقول إن الميجور ريتش قد اتُّهم بقتل أرنولد كلايتون وتم القبض عليه.قال بوارو بينما كان ينظر إلى الآنسة ليمون: "هذا كل شيء إذن. كان من المتوقع القبض على الميجور ريتش. يا لها من قضية استثنائية، استثنائية للغاية! ألا تعتقدين ذلك؟".قالت الآنسة ليمون دون اهتمام: "أعتقد أن مثل هذه الأمور تحدث يا سيد بوارو".قال بوارو: "بالفعل، إنها تحدث كل يوم، كل يوم تقريبًا؛ ولكن من الممكن فهمها على الرغم من كآبتها".قالت الآنسة ليمون: "إنها أحداث مؤلمة للغاية".قال بوارو: "طعن المرء حتى الموت ووضعه داخل صندوق إسباني أمر محزن للغاية بالنسبة للضحية - محزن للغاية، ولكن، عندما قلت إنها قضية استثنائية، كنت أتحدث عن السلوك الاستثنائي للميجور ريتش".قالت الآنسة ليمون بنفور خفيف:"يرى بعض الأشخاص أن الميجور ريتش والسيدة كلايتون كانا صديقين مقربين للغاية... هذا ما يقوله الناس، ولكنها ليست حقيقة مؤكدة، لذا، لم أذكرها لك".قال بوارو: "أنت محقة تمامًا؛ ولكنه استنتاج مثير للاهتمام. هل هناك أمر آخر ترغبين في ذكره؟".لم يبد على الآنسة ليمون أي تعبير، فتنهد بوارو مفتقدًا الخيال الخصب والحيوي لصديقه هاستينجز، فلقد كان النقاش مع الآنسة ليمون بشأن القضية عملًا شاقًّا.قال بوارو: "فكري للحظة بشأن الميجور ريتش. إنه يحب السيدة كلايتون - أتفق معك... ويرغب في التخلص من زوجها - هذا أيضًا أمر أتفق معك عليه إن كانت السيدة كلايتون تبادله الشعور نفسه، وكانت بينهما علاقة. أين الدافع؟ هل الدافع أن السيد كلايتون سيرفض تطليق زوجته؟ ولكن، هذا ليس كل ما في الأمر؛ حيث إن الميجور ريتش جندي متقاعد، ويُقال إن الجنود في بعض الأحيان لا يستخدمون عقولهم، ولكن، هل الميجور ريتش مخبول إلى هذه الدرجة؟".لم تجبه الآنسة ليمون، فقد اعتبرت هذا السؤال استفسارًا بلاغيًّا.سألها بوارو: "حسنًا، ماذا تعتقدين بشأن جميع هذه التفاصيل؟".جفلت الآنسة ليمون وقالت: "رأيي أنا؟".قال بوارو: "نعم، أنت".بدأت الآنسة ليمون تهيئ عقلها للضغط الملقى عليه، فهي لم تكن تعطي أية توقعات عقلانية إلا إذا طُلب منها ذلك، ففي أوقات الفراغ مثل تلك، كان عقلها ينشغل بتفاصيل نظام مثالي لترتيب الملفات، وكانت هذه هي وسيلتها الوحيدة للاستجمام الذهني.بدأت الآنسة ليمون حديثها قائلة: "حسنًا -"، ثم صمتت.قال بوارو: "أخبريني بما حدث - بما تعتقدين أنه حدث تلك الليلة، فلقد كان السيد كلايتون في غرفة الجلوس يكتب رسالة، ثم يدخل الميجور ريتش - ثم ماذا؟".قالت الآنسة ليمون: "يجد السيد كلايتون هناك، ثم - كما أعتقد - يتعاركان، ويطعنه الميجور ريتش، ثم عندما يستوعب ما فعل، يضع الجثة في الصندوق، حيث إن الضيوف كانوا على وشك الحضور".قال بوارو: "نعم، نعم، ثم يصل الضيوف والجثة في الصندوق، وتمر الأمسية بسلام، ويرحل الضيوف، ثم بعدذلك -".قالت الآنسة ليمون: "حسنًا، ثم، كما أعتقد، يذهب الميجور ريتش إلى فراشه و - أوه".قال بوارو: "آه، لقد استوعبت الأمر الآن. بعدما تقتلين رجلاً وتخفين جثته في صندوق، ثم ماذا - تخلدين للنوم في هدوء دون أن تقلقك حقيقة أن الخادم سيكتشف الجريمة في الصباح".قالت الآنسة ليمون: "أعتقد أنه من المحتمل أن الخادم لن ينظر داخل الصندوق على الإطلاق".قال بوارو: "مع وجود بركة الدماء الكبيرة تلك التي ظهرت تحت الصندوق؟".قالت الآنسة ليمون: "ربما لم يلحظ الميجور ريتش وجود تلك الدماء".قال بوارو: "ألم يكن إهمالاً منه ألا ينظر ليرى إذا ما كانت موجودة أم لا؟".قالت الآنسة ليمون: "أعتقد أنه كان مستاءً مما فعل".لوح بوارو بذراعيه في يأس.واستغلت الآنسة ليمون الفرصة لتخرج مسرعة من الغرفة.2لم يكن من الممكن الاستعانة بـ بوارو لحل لغز الصندوق الإسباني، فقد كان منخرطًا في ذلك الوقت بمهمة دقيقة لصالح واحدة من شركات النفط الكبيرة تتعلق بالاشتباه في أحد كبار مديريها بأنه متورط في بعض الصفقات المشبوهة، فلقد كانت المهمة سرية ومربحة للغاية، وكانت تتطلب انتباه بوارو كاملا، كما أن لها ميزة كبيرة وهي أنها لم تتطلب جهدًا بدنيًّا كبيرًا. كانت المهمة دقيقة وخالية من الدماء - الجريمة في أعلى مستوياتها.كان لغز الصندوق الإسباني مثيرًا وعاطفيًّا، وهما السمتان اللتان قال عنهما بوارو دائمًا لهاستينجز إن الناس يعطيانهما أكثر مما تستحقان - وغالبًًا ما كان هذا يحدث بسبب السمة الأخيرة. كان دائم الاختلاف مع العزيز هاستينجز حيال هذه النقطة، والآن، ها هو ذا يتصرف بنفس طريقة تصرف صديقه، حيث أصبح مهووسًا بالنساء الفاتنات، وجريمة الشغف والغيرة والكراهية والكثير من الأسباب الرومانسية الأخرى التي تدفع الإنسان للقتل، فلقد كان يرغب في معرفة المزيد عن جميع هذه الأمور، وكان يرغب في معرفة كيف يبدو الميجور ريتش، وكيف يبدو خادمه بورجيس، وكيف تبدو مارجريتا كلايتون (رغم أنه يعرف، كما فكر)، وكيف كان يبدو الراحل أرنولد كلايتون (حيث إن شخصية القتيل هي أكثر ما يهم في قضايا جرائم القتل)، وحتى كيف يبدو الصديق الوفي القائد ماكلارين وكذلك كيف يبدو كل من السيد والسيدة سبينس، الصديقين الجديدين.ولم يكن يعلم بالتحديد كيف سيشبع هذا الفضول.واصل التفكير في هذا الأمر في وقت لاحق من ذلك اليوم.لماذا تثير هذه القضية اهتمامه لهذه الدرجة؟ لذا، قرر، بعد أن انتهى من التفكير، أن هذا بسبب - كما كانت تشيرالحقائق - أن الأمر برمته مستحيل، ولابد من وجود تفسير آخر أكثر منطقية.بدءًا بما يمكن للمرء تقبله، حدث شجار بين رجلين، ربما بسبب امرأة، ولقد قتل أحد الرجلين الآخر في أوج ثورته. نعم، هذا ما حدث - إلا أنه سيكون من المقبول أكثر أن يقتل الزوج العشيق؛ ولكن - العشيق هو من قتل الزوج، طعنه بخنجر (؟) - سلاح غير محتمل إلى حد ما. ربما كانت والدة الميجور ريتش إيطالية؟ ربما كانت هناك واحدة من التفاصيل - في مكان ما - تفسر سبب اختيار الخنجر كسلاح للجريمة. على أية حال، على المرء أن يتقبل الخنجر كسلاح للجريمة (قالت عنه بعض الصحف إنه خنجر صغير). ربما كان الخنجر في متناول يد القاتل واستخدمه بالفعل، وتم إخفاء الجثة في الصندوق، وهذا أمر منطقي وحتمي، فلم تكن الجريمة عن سابق إصرار وترصد، وكان من الممكن أن يعود الخادم في أية لحظة، وكان الضيوف الأربعة على وشك الحضور، وبدا هذا الأمر هو الخيار الوحيد أمام القاتل.أقيم الحفل، وغادر الضيوف، وكان الخادم قد رحل بالفعل، وذهب الميجور ريتش للفراش.لكي يمكن للمرء فهم ما حدث، عليه أن يلتقي بالميجور ريتش ليكتشف نوعية الرجل الذي يمكنه التصرف بهذه الطريقة.هل يمكن أن يكون هذا ما حدث، لكي يتغلب على الرعب الذي انتابه مما اقترفت يداه، ومن التوتر طويل الأمد لهذه الأمسيةـ ويحاول أن يبدو طبيعيًّا، أو أنه تناول حبوبًا منومة أو مهدئة جعلته يغط في نوم عميق استمر لما بعد موعد استيقاظه المعتاد؟ هذا ممكن، أم أن هذه من الحالات التي ستعجب كثيرًا علماء النفس، حيث كان الميجور ريتش يشعر بشعور داخلي بالذنب جعله يرغب في أن تُكتشف الجريمة؟ ولكي يتمكن المرء من تقرير ما حدث، عليه أن يلتقي بالميجور ريتش أولاً؛ حيث إن الأمر كله يتعلق بـ -دق جرس الهاتف، وتركه بوارو يدق لبعض الوقت حتى اكتشف أن الآنسة ليمون عادت لمنزلها بعدما أعطته الخطابات ليوقع عليها، وربما كان جورج في الخارج في مكان ما.التقط بوارو سماعة الهاتف.سمع صوتًا يقول عبر الهاتف: "السيد بوارو؟".قال بوارو: "هأنذا".سمع الصوت يقول: "رائع"، طرفت عينا بوارو للحظة بفعل حيوية الصوت الأنثوي الرقيق الذي يحادثه، قال الصوت: "أنا آبي تشاترتون".قال بوارو: "ليدي تشاترتون، كيف يمكنني أن أخدمك؟".قالت الليدي تشاترتون: "بأن تحضر على الفور إلى الحفل الذي أعددته من أجلك؛ حيث إن الأمر لا يتعلق بالحفل، بل بأمر آخر. أنا بحاجة إليك في أمر ضروري للغاية. أرجوك، أرجوك، أرجوك، لا تخذلني، ولا تقل إنك لن تستطيع الحضور".لم يكن بوارو سيقول أي شيء من هذا القبيل، وعلى الرغم من أن اللورد تشاترتون - بعيدًا عن كونه أحد أعضاء البلاط الملكي وكان يلقي الخطابات أحيانًا في مجلس اللوردات - شخصية تافهة، فإن الليدي تشاترتون كانت واحدة من جواهر ما يُطلق عليه بوارو الطبقة العليا، وكان كل ما تقوله أو تفعله يتصدر عناوين الأخبار. كانت ذكية وجميلة ومبدعة وتملك من الحيوية ما يكفي لتشغيل صاروخ ليصعد إلى القمر.قالت الليدي تشاترتون مرة أخرى:"أنا بحاجة إليك. كل ما عليك أن تفعله هو أن تبرم شاربك الرائع وتحضر".لم يغادر بوارو على الفور، فقد كان عليه دخول الحمام أولاً، ثم برم شاربه وانطلق.كان باب منزل الليدي تشاترتون الجميل في شارع تشيريتون مواربًا، وكانت المنزل صاخبًا كما لو كانت هناك قطعان من الحيوانات هربت من حديقة الحيوانات واستقرت داخله، فانسلت الليدي تشاترتون - التي كانت تتحدث مع سفيرين ولاعب دولي لرياضة الرجبي ورجل دين أمريكي - من بينهم بسرعة لتقف بجوار بوارو.ثم قالت: "سيد بوارو، من الرائع رؤيتك. لا تتناول هذا المشروب السيئ، فقد أعددت لك شرابًا خاصًّا - عصيرًا خاصًّا يشربه الخواص. إنه في غرفتي في الطابق العلوي".تقدمت الليدي تشاترتون الطريق صاعدة الدرج وتبعها بوارو، ثم توقفت لتلتفت إليه وتقول:"أنا لم أجعل هؤلاء الحضور يغادرون لأنه من الضروري ألا يشعر أحد بأن هناك أمرًا مهمًّا يحدث، ووعدت الخدم بمنحهم مكافأة سخية إن لم ينطق أي منهم ببنت شفة عما حدث اليوم، فإن المرء لا يرغب في أن يجتاح المراسلون الصحفيون منزله، كما أن صديقتي العزيزة المسكينة مرت بالكثير".لم تقف الليدي تشاترتون عند الطابق الأول، بل واصلت الصعود إلى الطابق الذي يعلوه.تبعها هيركيول بوارو وهو يناضل من أجل التقاط أنفاسه مع الشعور بالدوار.توقفت الليدي تشاترتون، وألقت نظرة نحو الأسفل عبر الدرابزين، ثم فتحت أحد الأبواب وهي تقول:"لقد أحضرته يا مارجريتا، لقد أحضرته. ها هو ذا".تنحت جانبًا في زهو المنتصر لتسمح لـ بوارو بالدخول، ثم بدأت التعارف بين بوارو والمرأة الأخرى.قالت الليدي تشاترتون: "هذه مارجريتا كلايتون، وهي واحدة من أعز صديقاتي. هل يمكنك مساعدتها؟ مارجريتا، هذا هو الرائع هيركيول بوارو. سيفعل كل ما ترغبين فيه - أليس كذلك يا سيد بوارو؟".ومن دون انتظار الإجابة عن السؤال الذي لم تتوقع رفضه (لم تكن الليدي تشاترتون امرأة جميلة مدللة دون طائل)، خرجت من الغرفة وهبطت الدرج وهي تقول بصوت عالٍ: "عليَّ أن أعود لهؤلاء الناس المريعين...".وقفت المرأة التي كانت تجلس على أحد المقاعد بجوار النافذة وتوجهت نحو بوارو، وكان سيتعرف عليها حتى لو لم تعرفه عليها الليدي تشاترتون، فقد كان يعرف هذين الحاجبين العريضين للغاية والشعر الأسود الذي ينفر منهما فيما يشبه الأجنحة، والعينين الرماديتين الواسعتين، وكانت ترتدي ثوبًا ضيقًا طويل الرقبة أسود اللون أظهر جمال قوامها وبياض بشرتها، وكان وجهها غير مألوف على الرغم من جماله - كان وجهًا يحمل قسمات غريبة مثل تلك القسمات التي تراها أحيانًا في أوجه الإيطاليين القدامى. كان هناك أمر يتعلق بها يذكرك ببساطة العصور الوسطى - فكر بوارو، يمكن أن تكون براءة غريبة، أكثر تأثيرًا من أية أناقة حسية، وعندما تحدثت كان صوتها يحمل براءة الأطفال.قالت: "قالت آبي إنك ستساعدني...".نظرت إليه برزانة وتساؤل.للحظة، وقف بوارو مكانه دون حراك متفحصًا إياها عن كثب، فلم يكن ما يفعله ينم عن وقاحة، بل كانت نظرته تبدو كنظرة طبيب شهير يتفحص مريضًا جديدًا.قال بوارو أخيرًا: "هل أنت واثقة يا سيدتي من أنني قادر على مساعدتك؟".احمرت وجنتاها قليلاً وقالت:"لا أعلم ماذا تقصد".قال بوارو: "ما الذي ترغبين في أن أفعله يا سيدتي؟".بدت مندهشة وهي تقول: "أوه، اعتقدت أنك تعلم من أكون".قال بوارو: "أعلم من تكونين. لقد قُتل زوجك - طُعن، وقُبض على الميجور ريتش واتُّهم بأنه القاتل".زاد احمرار وجنتيها أكثر وقالت:" لم يقتل الميجور ريتش زوجي".قال بوارو بسرعة:"ولِمَ لا؟".جحظت عيناها في حيرة وقالت: "أستميحك عذرًا".قال بوارو: "لقد شعرت بالارتباك لأني لم أطرح عليك السؤال الذي يطرحه الجميع - الشرطة - والمحامون... لِمَ قد يقتل الميجور ريتش أرنولد كلايتون؟؛ ولكني سألت السؤال العكسي. أنا أسألك يا سيدتي، لِمَ أنت على يقين من أن الميجور ريتش لم يقتل زوجك؟".صمتت للحظة ثم قالت: "لأنني أعرف الميجور ريتش حق المعرفة".كرر بوارو ما قالته: "تعرفين الميجور ريتش حق المعرفة".صمت قليلاً ثم قال بحدة: "إلى أي مدى؟".لم يدرك بالتحديد إن كانت قد فهمت ما يعنيه، ففكر في نفسه: إنها امرأة على قدر كبير من البساطة، أو على قدر كبير من الذكاء... أعتقد أن الكثيرين قد فكروا في هذين الاحتمالين فيما يتعلق بـ مارجريتا كلايتون...نظرت له مارجريتا بشك وقالت: "إلى أي مدى؟ خمس سنوات - لا، حوالي ست".قال بوارو: "لم يكن هذا ما أعنيه بالضبط... عليك أن تدركي يا سيدتي أنه يجب عليَّ أن أطرح عليك أسئلة صعبة، وربما تخبرينني بالحقيقة وربما تكذبين عليَّ. من الضروري بالنسبة للسيدات أن يكذبن في بعض الأحيان. يجب عليهن أن يدافعن عن أنفسهن ويكذبن، والكذب قد يكون سلاحًا جيدًا؛ ولكن هناك ثلاثة أشخاص يا سيدتي، على النساء أن يخبرنهن بالحقيقة: والدهن ومصفف شعرهن ومحققهن الخاص - إن كن يثقن به. هل تثقين بي يا سيدتي؟".أخذت مارجريتا كلايتون نفسًا عميقًا وقالت:"نعم، أثق بك. ليس أمامي خيار آخر".قال بوارو: "حسنًا إذن. ما الذي تريدين مني أن أفعله - أن أبحث عن قاتل زوجك؟".قالت مارجريتا: "نعم".قال بوارو: "ولكن هل من الضروري أن أبرئ ساحة الميجور ريتش؟".أومأت برأسها في سرعة أن نعم - وقد بدا عليها الامتنان.قال بوارو: "هل هذا فقط ما ترغبين فيه؟".رأى أن هذا السؤال لم يكن ضروريًّا، فقد كانت مارجريتا كلايتون امرأة لا تركز إلا على هدف واحد في كل مرة.قال بوارو: "والآن، اعذريني على وقاحتي. هل هناك علاقة حب بينك وبين الميجور ريتش؟".قالت: "هل تعني أن هناك علاقة بيننا؟ لا".قال بوارو: "ولكنه كان يحبك، أليس كذلك؟".قالت مارجريتا: "بلى".قال بوارو: "وماذا عنك؟ هل تبادلينه الحب؟".قالت مارجريتا: "أعتقد هذا".قال بوارو: "يبدو أنك لست متأكدة مما تشعرين به".قالت مارجريتا: " أصبحت على يقين الآن".قال بوارو: "لم تكوني تحبين زوجك إذن؟".قالت مارجريتا: "لا".قال بوارو: "إنك تجيبين عن أسئلتي ببساطة شديدة، ولكن أغلب النساء يهوين دائمًا أن يشرحن بالتفصيل ما يشعرن به. كم استمر زواجكما؟".قالت مارجريتا: "أحد عشر عامًا".قال بوارو: "هل يمكنك أن تصفي لي زوجك - أي نوع من الرجال كان؟".قطبت مارجريتا حاجبيها.وقالت: "هذا أمر شديد الصعوبة، فأنا لا أعرف بالتحديد أي نوع من الرجال كان أرنولد. لقد كان هادئًا للغاية - ومتحفظًا للغاية، ولم يكن المرء قادرًا على استنباط ما يفكر فيه، ولقد كان ماهرًا، دون شك - وقال عنه الجميع إنه عبقري - في عمله، أعني... إنه لم يكن - كيف يمكنني أن أصوغ الأمر - لم يكن يتحدث أبدًا عن أي أمور تخصه...".قال بوارو: "هل كان يحبك؟".قالت مارجريتا: "نعم، لابد من أنه كان كذلك، وإلا لم يكن ليمانع كثيرًا -"، ثم صمتت فجأة.قال بوارو: "وجود رجال آخرين؟ هل هذا ما كنت ستقولينه؟ هل كان غيورًا؟".قالت مرة أخرى:"لابد من أنه كان كذلك"، ثم - كما لو أنها شعرت بأن هذه العبارة تحتاج إلى توضيح - قالت: "أحيانًا، كان لا يتحدث معي طوال أيام...".أطرق بوارو برأسه مفكرًا، ثم قال:"هل هذه المرة الأولى التي تقع فيها أحداث عنيفة لك؟".قطبت جبينها، ثم احمرت وجنتاها وقالت: "عنف؟ هل تقصد ذلك الفتى المسكين الذي أطلق النار على نفسه؟".قال بوارو: "نعم، هذا ما أعنيه".قالت مارجريتا: "لم تكن لديَّ فكرة عما يشعر به... لقد شعرت بالأسف من أجله - لقد بدا خجولاً للغاية - وحيدًا للغاية. أعتقد أنه كان مصابًا بمرض عصابي، ثم كان هناك شخصان إيطاليان يقيمان مبارزة - لقد كان أمرًا سخيفًا. على أية حال، لم يمت أحد، لحسن الحظ... وللأمانة لم أكن لأهتم بأي منهما، ولم أتظاهر أبدًا بالاهتمام بأي منهما".قال بوارو: "لا، لقد كنت هناك. وحيثما وجدت وقعت المصائب، فلقد رأيت هذا من قبل خلال حياتي، وهذا لأنك لا تكترثين بمدى غضب الرجال؛ ولكن، بالنسبة للميجور ريتش، أنت تهتمين به، لذا، علينا أن نبذل قصارى وسعنا...".صمت بوارو للحظة.وجلست مارجريتا منتبهة تنظر إليه.قال بوارو: "دعينا نبتعد قليلاً عن الشخصيات، والتي أعتبرها أكثر الأمور المهمة، ونتناول الحقائق المجردة. أنا لا أعلم سوى ما ذُكر في الصحف، وطبقًا للحقائق المذكورة في الصحف، لم تسنح فرصة قتل زوجك إلا لشخصين فحسب - الميجور ريتش وخادمه".قالت بإصرار:" أعلم أن تشارلز لم يقتله".قال بوارو: "سيكون خادمه إذن، أليس كذلك؟".قالت متشككة:"أعلم ما تعنيه...".قال بوارو: "ولكنك لست واثقة، أليس كذلك؟".قالت مارجريتا: "إنه أمر خيالي".قال بوارو: "ولكنه لا يزال احتمالًا قائمًا. فلاشك في أن زوجك ذهب إلى الشقة، حيث إن جثته عُثر عليها هناك، وإن كانت رواية الخادم صحيحة، فإن الميجور ريتش هو من قتله، ولكن، إذا كانت روايته مزيفة، فسيكون الخادم هو من قتله وأخفى الجثة في الصندوق قبل عودة سيده، وكانت هذه طريقة ممتازة للتخلص من الجثة من وجهة نظره، وكان كل ما عليه فعله هو أن يلاحظ وجود بقعة الدماء تحت الصندوق، ومن ثم يكتشف الجثة، وستحوم الشبهات على الفور حول ريتش".قالت مارجريتا: "ولكن، لِمَ قد يرغب في قتل أرنولد؟".قال بوارو: "وما السبب؟ لا يمكن أن يكون الدافع واضحًا - وإلا لكانت الشرطة قد حققت معه، ومن المحتمل أن زوجك كان يعلم أمرًا ما يدين الخادم، وربما كان على وشك إخبار الميجور ريتش بالحقائق التي توصل إليها. هل أخبرك زوجك بأي شيء عن هذا الرجل المدعو بورجيس؟".هزت رأسها نفيًا.قال بوارو: "هل تعتقدين أنه قد يرتكب هذه الجريمة - إن كان الأمر على هذا المنوال؟".قطبت مارجريتا جبينها.وقالت: "من الصعب الجزم بذلك، فربما لا. لم يكن أرنولد يتحدث كثيرًا عن الناس، فلقد أخبرتك بأنه كان متحفظًا، وإن لم يكن رجلاً ثرثارًا على الإطلاق".قال بوارو: "لقد كان رجلاً يحب الاحتفاظ بأسراره لنفسه... نعم، والآن، ماذا تعتقدين حيال بورجيس؟".قالت مارجريتا: "إنه ليس من نوعية الرجال الذين يسترعون انتباهك. إنه خادم جيد، مهندم ولكنه ليس أنيقًا".قال بوارو: "كم عمره؟".قالت: "أعتقد أنه في السابعة والثلاثين أو الثامنة والثلاثين تقريبًا، فلقد كان جندي مراسلة خلال خدمته العسكرية، ولكنه لم يكن جنديًّا عاديًّا".قال بوارو: "ما الفترة التي قضاها في العمل مع الميجور ريتش؟".قالت مارجريتا: "ليست بالفترة الطويلة. حوالي عام ونصف العام، على ما أعتقد".قال بوارو: "ألم تلاحظي أي أمر مريب بشأن تعامله مع زوجك؟".قالت مارجريتا: "لم نكن نذهب إلى هناك كثيرًا. لا، لم ألاحظ أي شيء".قال بوارو: "أخبريني الآن بما حدث في تلك الليلة. متى وصلت إلى الحفل؟".قالت: "حوالي الثامنة والربع أو الثامنة والنصف".قال بوارو: "وما نوع الحفل؟".قالت: "حسنًا، كانت هناك مشروبات وعشاء - عشاء لذيذ كالعادة، مكون من كبد الإوز والخبز المحمص، والسلمون المدخن، وكان هناك في بعض الأحيان طبق من الأرز - كان تشارلز يمتلك وصفة خاصة حصل عليها من الشرق الأدنى - ولكنه كان يقدمه لنا في فصل الشتاء، ثم كنا معتادين الاستماع للموسيقى. كان تشارلز يمتلك جرامافونًا رائع الصوت، وكان كل من زوجي وجوك ماكلارين يعشقان الموسيقى الكلاسيكية، وكنا نشغل بعضًا من موسيقى الرقص - وكان الزوجان سبينس راقصين ماهرين. كان هذا هو الحفل - نوع من الأمسيات غير الرسمية. وكان تشارلز مضيفًا رائعًا".قال بوارو: "تلك الليلة بالذات - هل كانت مثل الأمسيات الأخرى؟ هل لاحظت أي شيء غير معتاد أو غريب؟".قالت مارجريتا: "غريب؟"، ثم قطبت حاجبيها للحظة وقالت: "أنا - لا، لا يمكنني التذكر. كان هناك أمر ما...". ثم هزت رأسها مرة أخرى، وقالت: "لا، لكي أجيب عن سؤالك، لم يكن هناك أمر غير معتاد بشأن هذه الأمسية، فلقد استمتعنا كثيرًا وكان الجميع يبدون مسترخين وسعداء"، ثم ارتجف بدنها وهي تقول: "وعندما أفكر أنه طوال هذا الوقت كان ـــــــــ".أمسك بوارو يدها بسرعة وقال:"لا تفكري في هذا الأمر. ماذا عن ذلك العمل الذي تطلب ذهاب زوجك إلى إسكتلندا؟ ما الذي تعرفينه عن هذا الأمر؟".قالت مارجريتا: "ليس الكثير، فلقد كان هناك نزاع حول قيود بيع قطعة من الأرض كان يملكها زوجي، ويبدو أن الصفقة كانت ستتم ولكن طرأ خطب ما".قال بوارو: "بم أخبرك زوجك بالضبط؟".قالت: "لقد حضر إليَّ حاملاً برقية في يده، على ما أتذكر، وقال لي: إنه أمر يبعث على الضيق. عليَّ أن أستقل قطار البريد الليلي إلى أدنبره لألتقي بـ جونستون في الصباح الباكر... من السيئ للغاية أن تتعقد الأمور التي ظن المرء أنها ستسير بسلاسة أخيرًا؛ ثم قال: هل أتصل بـ جوك وأدعه يأتي لاصطحابك، فقلت له: لا، سأستقل سيارة أجرة؛ فقال إن جوك أو أسرة سبينس سيمرون للاطمئنان عليَّ في المنزل. سألته هل يرغب في أن أعد له ثيابه، فقال إنه سيأخذ بعض الأشياء في حقيبته وسيتناول وجبة سريعة في النادي قبل أن يلحق بالقطار، ثم خرج من المنزل - وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي أراه فيها".ظهر الحزن على صوتها خلال الكلمات الأخيرة.نظر لها بوارو بحدة ثم قال:"هل رأيت ما كان في البرقية؟".قالت: "لا".قال بوارو: "يا للأسف".قالت مارجريتا: "لِمَ تقول ذلك؟".لم يجب بوارو عن سؤالها، ولكنه قال بحماس:"والآن، لنبدأ العمل. مَنِ المحامي الذي يمثل الميجور ريتش؟".أخبرته مارجريتا بالمحامي، ودوَّن بوارو عنوانه وقال:"هل تكتبين بعض الكلمات لهم وتعطينني إياها؟ سيكون عليَّ أن أقوم ببعض الترتيبات من أجل لقاء الميجور ريتش".قالت مارجريتا: "إنه محبوس حبسًا احتياطيًّا منذ أسبوع".قال بوارو: "هذا أمر طبيعي. إنها الإجراءات المتبعة. هل تكتبين أيضًا رسالة إلى القائد ماكلارين وصديقيك السيد والسيدة سبينس؟ أريد أن أراهم أيضًا، ومن المهم أن يتحدثوا معي لمدة كافية".بينما كانت تهم بالنهوض عن المكتب، قال بوارو:"هناك أمر آخر. سأسجل انطباعاتي عنهم، ولكني أريد انطباعاتك أنت أيضًا عن كل من القائد ماكلارين والسيد والسيدة سبينس".قالت مارجريتا: "إن جوك أحد أقدم أصدقائنا، فأنا أعرفه منذ كنت طفلة، فهو قد يبدو رجلاً صارمًا، ولكنه في الواقع شخص حنون ويمكن الاعتماد عليه دائمًا. إنه ليس تافهًا أو ثرثارًا، ولكنه رجل قوي كنا نعتمد - أنا وأرنولد - على دقة حكمه كثيرًا".لمعت عينا بوارو قليلاً وهو يقول: "وهو واقع في حبك أيضًا، أليس كذلك؟".قالت مارجريتا بجذل: "نعم، لقد كان يحبني دائمًا - والآن أصبح الأمر مجرد عادة".قال بوارو: "ماذا عن السيد والسيدة سبينس؟".قالت مارجريتا: "إنهما شخصان مسليان - صحبتهما ممتعة. إن ليندا سبينس فتاة ماهرة، وكان أرنولد يستمتع بالحديث معها، كما أنها جميلة".قال بوارو: "هل أنتما صديقتان؟".قالت مارجريتا: "أنا وهي؟ إلى حد ما. لا أعلم إذا ما كنت أحبها في الواقع أم لا. إنها امرأة خبيثة".قال بوارو: "وماذا عن زوجها؟".قالت مارجريتا: "جيريمي رجل رائع مولع بالموسيقى، كما أنه واسع الخبرة باللوحات، فلقد ذهبت معه إلى الكثير من المعارض الفنية...".قال بوارو: "آه، عليَّ أن أرى بنفسي"، ثم أمسك بيدها وقال: "أرجو يا سيدتي ألا تندمي على طلب مساعدتي".قالت وقد اتسعت عيناها عن آخرهما: "ولِمَ أندم على طلب مساعدتك؟".قال بوارو بغموض: "من يدري".قال بوارو محدثًا نفسه بينما كان يهبط الدرج: "وأنا - أنا لا أدري". كان الحفل لا يزال مكتظًّا بالحضور، ولكنه تجنب أن يراه أحد حتى وصل إلى الشارع.ثم كرر العبارة الأخيرة قائلاً: "لا، أنا لا أدري".كان لا يزال يفكر في مارجريتا كلايتون.هل كانت هذه الصراحة الطفولية، تلك البراءة الصريحة - حقيقية؟ أم أنها مجرد قناع تختفي خلفه شخصية أخرى؟ كانت هناك نساء مثلها في العصور الوسطى - نساء لم يتقبلهن التاريخ. كان يفكر في ماري استيوارت، الملكة الإسكتلندية. هل كانت تعلم ما سيحدث في تلك الليلة في كيرك أو فيلدز؟ أم أنها كانت بريئة؟ ألم يخبرها المتآمر بما سيحدث؟ هل كانت واحدة من أولئك النسوة البسيطات بساطة الأطفال، واللاتي يمكنهن القول لأنفسهن "لا أعلم" ويصدقن ما يقلنه؟ لقد شعر بفتنة مارجريتا كلايتون ولكنه لم يكن يثق بصدقها...النساء اللاتي على غرار هذه المرأة قد يكن - على الرغم من براءتهن - سببًا للكثير من الجرائم.النساء على غرار هذه المرأة قد يكن - عن سابق إصرار وترصد - مجرمات ولكن دون ارتكاب الجرائم.إنهن لا يكنَّ أبدًا اليد التي تحمل السكين -بالنسبة لـ مارجريتا كلايتون - لا - إنه لا يعلم!.3لم يساعد محامو الميجور ريتش هيركيول بوارو كثيرًا، كما توقع.وأشاروا، دون أن يقولوا ذلك - إلى أنه من الأفضل لمصلحة موكلهم ألا تُظهر السيدة كلايتون أي دلالة على اهتمامها به.كانت زيارته لهم هي ما تنص عليه "تقاليد المهنة"، وكان أمامه الكثير من الشد والجذب مع وزارة الداخلية وقسم التحقيق الجنائي ليسمحوا له بلقاء السجين.لم يكن المحقق ميلر - المسئول عن قضية كلايتون - أحد المحققين المفضلين لدى بوارو، ولكنه، رغم ذلك، لم يتصرف بعدائية في تلك الحالة ولكنه تصرف باستهزاء.فقد قال ميلر لمساعده الرقيب قبل أن يدخل بوارو مكتبه: "لا يمكنني إضاعة الكثير من الوقت مع ذلك العجوز الخرف، ولكن، يجب أن أظل مهذبًا".قال ميلر: "يجب عليك أن تكون بارعًا للغاية يا سيد بوارو لتتمكن من فعل أي شيء في هذه القضية، فمن المؤكد أن ريتش هو من قتل الضحية".قال بوارو: "عدا الخادم".قال ميلر: "حسنًا، سأتفق معك أنه من المحتمل أن يكون الخادم هو القاتل، ولكن ما الدافع"؟قال بوارو: "لا يمكنك أن تكون واثقًا من الأمر، حيث إن الدوافع عادة ما تكون غريبة".قال ميلر: "حسنًا، لم تكن هناك أية علاقة بينه وبين كلايتون، كما أنه ليس لديه سجل إجرامي، كما أنه لا يبدو مجنونًا. لا أعلم ماذا تريد غير ذلك".قال بوارو: "أريد أن أثبت أن ريتش ليس القاتل".قال المحقق ميلر وهو يبتسم بخبث: "لكي تسعد السيدة، أليس كذلك؟ أعتقد أنها قد أثرت فيك. إنها جميلة، أليس كذلك؟ ابحث دائمًا عن المرأة ذات الدافع الانتقامي. فلو كانت قد سنحت لها الفرصة، لكانت قتلته بنفسها".قال بوارو: " ليس هذا".قال ميلر: "قد يفاجئك الأمر. لقد عرفت امرأة من قبل على غرارها، ولقد تخلصت من زوجين لها دون أن يطرف لها جفن، وكانت تتظاهر بأنها مفطورة الفؤاد في كل مرة أيضًا. وكانت لجنة المحلفين ترغب بشدة في تبرئة ساحتها - إن واتتها الفرصة - ولكن لم يكن هذا ممكنًا، فقد كان الدليل دامغًا".قال بوارو: "حسنًا يا صديقي، دعنا من الجدال. كل ما أرغب فيه هو الحصول على بعض التفاصيل التي يمكنني الاعتماد عليها عن الحقائق. إن ما يُنشر في الصحف أخبار - ولكنه لا يكون الحقيقة دائمًا".قال ميلر: "لابد من أن يُمتعوا أنفسهم. ماذا تريد؟".قال بوارو: "وقت الوفاة الأقرب قدر الإمكان".قال ميلر: "لن يكون هذا محددًا للغاية لأن الجثة لم تُفحص إلا في صباح اليوم التالي، وقدر الطبيب الشرعي وقت الوفاة بأنه قد يكون وقع قبل فحصها بفترة تتراوح ما بين عشر وثلاث عشرة ساعة، أي ما بين السابعة والعاشرة من الليلة السابقة... لقد طُعن في الوريد الودجي - ولابد أنه مات خلال لحظات".قال بوارو: "وماذا عن سلاح الجريمة؟".قال ميلر: "كان خنجرًا إيطاليًّا صغيرًا وحادًّا. لم يره أحد من قبل أو يعلم من أين أتى، ولكننا سنكتشف ذلك في النهاية... الأمر يعتمد على الوقت والصبر".قال بوارو: "من غير الممكن أن يكون هذا الخنجر متواجدًا في أثناء الشجار والتقطه القاتل".قال ميلر: "لا، يقول الخادم إن هذا الخنجر لم يكن متواجدًا في الشقة".قال بوارو: "إن ما يثير اهتمامي البرقية. البرقية التي استدعت أرنولد كلايتون ليسافر إلى إسكتلندا... هل كان هذا الاستدعاء صحيحًا؟".قال ميلر: "لا، لم تكن هناك أية مشكلات. لقد كانت عملية نقل ملكية الأرض، أو أيًّا كان الأمر، تسير بصورة طبيعية".قال بوارو: "من أرسل البرقية إذن - أعتقد أنه كانت هناك برقية بالفعل، أليس كذلك؟".قال ميلر: "لابد من أنه كانت هناك برقية... ولا يعني هذا بالضرورة أننا نصدق السيدة كلايتون؛ ولكنه أخبر الخادم بأنه قد تم استدعاؤه إلى إسكتلندا بواسطة برقية، كما أنه أخبر القائد ماكلارين كذلك".قال بوارو: "في أي وقت كان قد التقى بالقائد ماكلارين؟".قال ميلر: "لقد تناولا الطعام معًا في النادي - نادي الخدمات المشتركة - في حوالي السابعة والربع، ثم استقل كلايتون سيارة أجرة متوجهًا إلى شقة ريتش، ووصل إليها في تمام الثامنة، وبعد ذلك"، صمت ميلر وفرد يديه في تعبير عن أنه لا يعلم ما حدث بعد ذلك.قال بوارو: "هل لاحظ أي شخص أية تصرفات غريبة من ريتش في تلك الليلة؟".قال ميلر: "حسنًا، أنت تعلم كيف يبدو الناس عادة، فبمجرد وقوع الحادث، يتوهم الناس أنهم لاحظوا الكثير من الأمور، ولكني واثق من أن أحدًا لم ير أي شيء على الإطلاق. تقول السيدة سبينس، الآن، إن ريتش كان شارد الفكر طوال الأمسية. إن هذا ليس دليلاً على أي شيء، فقد كان يبدو كما لو كان يفكر في أمر ما. أعتقد ذلك أيضًا، فلو كانت لديه جثة في الصندوق، لكان يفكر كيف سيتخلص منها".قال بوارو: "ولِمَ لم يتخلص منها؟".قال ميلر: "لا أعلم، ولكني أعتقد أنه فقد جرأته، ولكن كان من الجنون تركها حتى صباح اليوم التالي. لقد واتته فرصة ذهبية للتخلص منها في تلك الليلة، فلم يكن الخادم متواجدًا في أثناء الليل، وكان يمكنه إحضار سيارته ويضع الجثة في صندوق السيارة - السيارة بها صندوق كبير - ثم يقودها نحو الريف ويضعها في مكان ما. ربما فكر أن شخصًا ما سيراه وهو يضع الجثة في صندوق السيارة، ولكن شقته تقع في شارع جانبي كما أن هناك طريقًا ريفيًّا يمكن للمرء أن يقود سيارته عبره. يمكنك القول إن الفرصة كانت سانحة له في الثالثة صباحًا. وماذا فعل؟ ذهب إلى الفراش، ونام لوقت متأخر من اليوم التالي ثم استيقظ ليجد الشرطة في شقته".قال بوارو: "لقد ذهب للفراش ونام ملء جفنيه كما يفعل الرجل البريء".قال ميلر: "يمكنك أن تفسر الأمر كما يحلو لك، ولكن هل تصدق ذلك؟".قال بوارو: "سأرجئ الإجابة عن هذا السؤال حتى ألتقي الرجل بنفسي".قال ميلر: "هل تعتقد أنك قادر على معرفة إذا ما كان الرجل بريئًا بمجرد لقائه؟ إن الأمر ليس بهذه البساطة".قال بوارو: "أعلم أن الأمر ليس بهذه البساطة - ولكني لا أقول إنني قادر على ذلك؛ ولكني أرغب في رؤية إذا ما كان ذلك الرجل غبيًّا مثلما أعتقد".4لم يكن بوارو ينوي لقاء تشارلز ريتش قبل أن يلتقي الآخرين.بدأ بوارو بلقاء القائد ماكلارين.كان رجلاً طويل القامة أسمر البشرة متحفظًا، وكان يمتلك وجهًا صارمًا ولكنه محبب، وكان رجلاً خجولاً وليس من السهل التحدث معه؛ ولكن، أصر بوارو على التحدث معه.عندما عرض عليه بوارو رسالة مارجريتا، قال ماكلارين في تردد:"حسنًا، إن كانت مارجريتا ترغب في أن أخبرك بكل ما رأيت، فسأفعل؛ ولكني لا أعلم إذا ما كان ما سأخبرك به كافيًا أم لا. ربما تكون قد سمعت ما سأقوله من قبل ولكن - نزولاً على رغبة مارجريتا - وأنا أفعل دائمًا ما تريد - منذ أن كانت في السادسة عشرة من عمرها؛ حيث إن لها طريقة خاصة تجبر المرء على ذلك، كما تعلم".قال بوارو: "أعلم هذا. أولاً، أريدك أن تجيب عن سؤالي التالي بصراحة شديدة: هل تعتقد أن الميجور ريتش مذنب؟".قال ماكلارين: "نعم، أعتقد ذلك. لا يمكنني أن أقول هذالـ مارجريتا إن كانت ترغب في تصديق أنه برئ، ولكن لا يمكنني أن أرى الأمر من زاوية أخرى. لابد أنه مذنب".قال بوارو: "هل كانت هناك ضغينة بينه وبين السيد كلايتون؟".قال ماكلارين: "على الإطلاق. لقد كانا صديقين مقربين، وهذا ما يجعل الأمر غريبًا للغاية".قال بوارو: "ربما كانت الصداقة بين الميجور ريتش والسيدة كلايتون ــــــــــ".قوطع بوارو فجأة.حيث قال ماكلارين: "هراء. كل هذا هراء. إن الصحف هي ما صدرت هذه الفكرة بخبث... فكرة ملعونة! لقد كانت السيدة كلايتون والميجور ريتش صديقين مقربين وهذا كل ما في الأمر، فمارجريتا لديها الكثير من الأصدقاء، وأنا أحد أصدقائها طوال سنوات، ولا يوجد شيء في العالم لا أعلمه عنها. الأمر ذاته بين تشارلز ومارجريتا".قال بوارو: "أنت لا تعتقد إذن أنه كانت هناك علاقة بينهما؟".قال ماكلارين غاضبًا: "لا، بكل تأكيد. لا تستمع لما تقوله تلك المرأة سبينس الخبيثة، إنها قد تقول أي شيء".قال بوارو: "ولكن، لِمَ شك السيد كلايتون في وجود علاقة بين زوجته والميجور ريتش؟".قال ماكلارين: "ثق بي أنه لم يحدث شيء من هذا القبيل. كنت سأعلم إن كان هناك أمر كذلك. أنا وأرنولد كنا صديقين مقربين".قال بوارو: "أي نوع من الرجال كان؟ فأنت خير من يعلم".قال ماكلارين: "كان أرنولد رجلاً هادئًا، ولكنه كان ماهرًا - بل عبقريًّا، على ما أعتقد. كان ما يطلقون عليه عقلية اقتصادية من الطراز الأول، كما أنه كان يشغل منصبًا كبيرًا في الخزانة كما تعلم".قال بوارو: "لقد سمعت بهذا الأمر".قال ماكلارين: "كان كثير الاطلاع، وكان يجمع الطوابع، وكان يهوى الموسيقى، ولكنه لم يكن يرقص أو يكترث كثيرًا للخروج في نزهات".قال بوارو: "هل تعتقد أن زيجته كانت سعيدة؟".لم يجب القائد ماكلارين على الفور، فقد بدا كأنه يدير الأمر في عقله.قال ماكلارين أخيرًا: "هذا الأمر من نوعية الأمور التي من الصعب الحكم عليها... نعم، أعتقد أنهما كانا سعيدين، فلقد كان يكرس نفسه من أجلها بطريقته الهادئة، وأنا على يقين من أنها كانت مغرمة به، فلم يكن من المرجح أن ينفصلا، إن كان هذا ما تفكر فيه، ولكن، ربما لم تكن بينهما الكثير من القواسم المشتركة".أومأ بوارو برأسه، فلقد كان هذا كل ما يأمل في التوصل إليه. قال بوارو: "والآن، أخبرني بتلك الأمسية. لقد تناول السيد كلايتون الطعام معك في النادي. ما الذي أخبرك به؟".قال ماكلارين: "لقد أخبرني بأن عليه الذهاب إلى إسكتلندا، وكان يبدو غاضبًا لهذا السبب. بالمناسبة، إننا لم نتناول العشاء معًا، لم يكن هناك وقت لذلك، بل تناولنا بعض الشطائر والشراب، كان هذا بالنسبة له، أما أنا فقد تناولت الشراب فحسب. كنت على وشك الذهاب لتناول العشاء في الحفل".قال بوارو: "هل ذكر لك السيد كلايتون البرقية؟".قال ماكلارين: "نعم".قال بوارو: "ولكنه لم يرك إياها، أليس كذلك؟".قال ماكلارين: "لا".قال بوارو: "هل قال إنه بصدد الذهاب إلى شقة ريتش؟".قال ماكلارين: "ليس بالتحديد. لقد قال إنه لا يدري إن كان أمامه وقت كافٍ، وقال: يمكن أن تفسر أنت أو مارجريتا الأمر؛ ثم قال: هل توصلها إلى المنزل وتطمئن عليها؟؛ ثم رحل. لقد كان الأمر يبدو طبيعيًّا وعاديًّا".قال بوارو: "هل كان يشك للحظة في أن هذه البرقية ليست حقيقية؟".جفل القائد ماكلارين وقال: "هل كانت مزيفة؟".قال بوارو: "نعم".غمغم القائد ماكلارين وبدا كما لو أنه قد دخل في غيبوبة: "كم هذا غريب..."، ثم انتفض قائلاً:"ولكن هذا غريب بالفعل. أعني، ما الهدف من ذلك؟ لِمَ قد يرغب أي شخص كان في ذهابه إلى إسكتلندا؟".قال بوارو: "هذا هو السؤال الذي أحتاج إلى إجابته".غادر هيركيول بوارو منزل القائد ماكلارين تاركًا إياه غارقًا في التفكير في الأمر.5كانت أسرة سبينس تعيش في منزل صغير في تشيلسي.استقبلت ليندا سبينس بوارو بسعادة بالغة، حيث قالت:"أخبرني. أخبرني بكل شيء عن مارجريتا، أين هي؟".قال بوارو: "ليس مسموحًا لي بأن أخبرك يا سيدتي".قالت ليندا: "لقد اختبأت جيدًا، فهي بارعة في مثل هذه الأمور، ولكني أعتقد أنه سيتم استدعاؤها للشهادة في المحكمة، أليس كذلك؟ ولن يمكنها التهرب من ذلك".نظر إليها بوارو مقيِّما إياها، وقرر أنها امرأة جذابة بطريقتها العصرية (الطريقة كانت تماثل في ذلك الوقت جسم طفل يتيم مصاب بنقص التغذية). لم تكن من النوع الذي يعجبه، فقد كان شعرها متناثرًا دون نظام حول رأسها، وكانت تحدق إليه عينان ماكرتان من وجه متسخ قليلاً، مجرد من مساحيق التجميل التي وفرتها لتضعها بالكامل على فمها المصبوغ باللون الأحمر الزاهي. كانت ترتدي سترة ضخمة صفراء تصل حتى ركبتيها تقريبًا، وسروالًا ضيقًا أسود اللون.سألت السيدة سبينس: "ما علاقتك بالأمر؟ أن تخرج صديقها من هذه المشكلة بطريقة ما؟ هل هذا صحيح؟ إنه أمل بعيد المنال".قال بوارو: "أنت تعتقدين أنه مذنب إذن؟".قالت ليندا: "بالطبع، ومن غيره يفعلها؟".فكر بوارو أن هذا سؤال موجه إليه مباشرة، فتجنب الإجابة عنه عبر طرح سؤال آخر.قال بوارو: "كيف بدا لك الميجور ريتش في تلك الليلة المشئومة؟ كالعادة؟ أم كان هناك أمر غريب بشأنه؟".أدارت ليندا سبينس عينيها وقالت:"لا، لم يكن على طبيعته. لقد كان - مختلفًا".قال بوارو: "إلى أي مدى؟".قالت ليندا: "حسنًا، إن كنت قد طعنت للتو رجلاً بدمبارد -".قال بوارو: "ولكنك لم تكوني تعلمين في ذلك الوقت أنه طعن رجلاً بدم بارد، أليس كذلك؟".قالت ليندا: "لا، بالطبع".قال بوارو: "كيف إذن تقدرين كونه مختلفًا؟ بأية طريقة؟".قالت ليندا: "حسنًا، لقد كان شارد الفكر. لا أعلم؛ ولكن بعد التفكير في الأمر بعد معرفة ما حدث جعلني أعتقد أنه كان هناك خطب ما دون شك".تنهد بوارو.ثم قال: "مَنْ وصل أولاً؟".قالت ليندا: "نحن من فعل، أنا وجيم، ثم وصل جوك، وأخيرًا مارجريتا".قال بوارو: "متى ذُكر سفر السيد كلايتون إلى إسكتلندا للمرة الأولى؟".قالت ليندا: "عندما وصلت مارجريتا، فقد قالت لـ تشارلز: إن أرنولد يبلغك اعتذاره الشديد، فقد كان عليه السفر إلى أدنبره في قطار الليل... فقال تشارلز: أوه، يا للأسف... ثم قال جوك: أنا آسف، كنت أعتقد أنك تعلم ذلك... ثم تناولنا المشروبات".قال بوارو: "ألم يذكر الميجور ريتش أنه رأى السيد كلايتون خلال الحفل؟ ألم يذكر شيئًا عن حضور السيد كلايتون لشقته وهو في طريقه إلى محطة القطار؟".قالت ليندا: "لا، على ما أظن".قال بوارو: "هناك أمر غريب بشأن تلك البرقية، أليس كذلك؟".قالت ليندا: "وما الغريب بشأنها؟".قال بوارو: "لقد كانت مزيفة. لا أحد في أدنبره يعلم شيئًا عنها".قالت ليندا: "هذا هو الأمر إذن. لقد تساءلت في ذلك الوقت".قال بوارو: "هل لديك فكرة عن تلك البرقية؟".قالت ليندا: "يجدر بي القول إن ذلك جلي كضوء النهار".قال بوارو: "ماذا تعنين بالتحديد؟".قالت ليندا: "سيدي العزيز. لا تلعب دور الساذج: محتال مجهول يزيح الزوج عن طريقه، وفي تلك الليلة بالذات من بين كل الليالي، إنه أمر جلي".قال بوارو: "هل تعنين أن الميجور ريتش والسيدة كلايتون كانا قد خططا لقضاء الليلة معًا؟".بدت ليندا مستمتعة وهي تقول: "ألم تسمع بمثل هذه الأمور من قبل؟".قال بوارو: "وأحدهما من أرسل البرقية، أليس كذلك؟".قالت ليندا: "أتوقع هذا".قال بوارو: "هل تعتقدين أن الميجور ريتش والسيدة كلايتون كانا متورطين في علاقة معًا؟".قالت ليندا: "دعنا نقل إنني لن أشعر بالمفاجأة إن كانا كذلك، ولكني لا أعلم ما إذا كان هذا حقيقيًّا أم لا".قال بوارو: "هل كان السيد كلايتون يشك في الأمر؟".قالت ليندا: "كان أرنولد رجلًا استثنائيًّا، وكان كتومًا للغاية، إن كنت تدرك ما أعنيه. أعتقد أنه كان يعلم، ولكنه لم يكن من نوعية الرجال الذين يُخرِجون مكنونات صدورهم؛ كان الجميع يدركون أنه مثل العصا الجافة دون أية مشاعر على الإطلاق؛ ولكني واثقة أنه لم يكن كذلك في داخله، والغريب في الأمر أني لم أكن لأشعر بالغرابة لو أن أرنولد هو من طعن تشارلز وليس العكس. أعتقد أن أرنولد كان رجلاً يغار بجنون".قال بوارو: "هذا غريب".قالت ليندا: "ولكن الأمر الأكثر ترجيحًا أنه كان مفتونًا بمارجريتا، مثل عطيل - أو شيء من هذا القبيل. إن لـ مارجريتا تأثيرًا استثنائيًّا على الرجال".قال بوارو بصوت خفيض: "إنها امرأة جميلة".قالت ليندا: "لقد كانت أكثر من مجرد جميلة؛ حيث إن هناك أمرًا ما بشأنها. إنها قادرة على جعل جميع الرجال يفتتنون بها، ومن ثم تستدير إليهم وتنظر لهم بعينيها الواسعتين المتفاجئتين، ما يجعلهم يزدادون جنونًا".قال بوارو: "امرأة قاتلة".قالت ليندا: "ربما كانت كذلك".قال بوارو: "هل تعرفينها جيدًا؟".قال بوارو: "عزيزي، إنها واحدة من صديقاتي المقربات - ولكني لا أثق بها على الإطلاق".قال بوارو: "آه"، ثم أدار دفة الحديث نحو القائد ماكلارين.قالت ليندا: "جوك؟ الصديق الوفي؟ إنه لعبة في يدها. لقد ولد ليكون صديق العائلة، فلقد كان هو وأرنولد صديقين مقربين للغاية. أعتقد أن أرنولد كان يستريح معه أكثر من أي شخص آخر، ولاشك في أنه كان حيوان مارجريتا الأليف. لقد كرس نفسه لها طوال سنوات".قال بوارو: "وهل كان السيد كلايتون يغار منه أيضًا؟".قالت ليندا: "يغار من جوك؟ يا لها من فكرةّ، فلقد كانت مارجريتا مغرمة بـ جوك دائمًا، ولكنها لم تبح له بهذا الأمر أبدًا. لا أعلم في الحقيقة أن هذه العلاقة... لا أعلم السبب... يبدو الأمر مشينًا. إنه رجل رائع".بعد ذلك، حول بوارو مسار الحديث إلى الخادم، ولكن ، عدا كونه يمتلك سيارة صغيرة رائعة، بدا أن ليندا لا تعلم أي شيء عنه، وبدا أنها كانت تلحظ وجوده بالكاد.ولكنها استوعبت الهدف من الحديث عنه بسرعة، حيث قالت:"أعتقد أنك تظن أنه يمكنه قتل أرنولد بنفس سهولة قتل تشارلز له، أليس كذلك؟ ولكن، يبدو هذا لي غير مرجح على الإطلاق".قال بوارو: "إن ما تقولينه يحبطني كثيرًا يا سيدتي، ولكن، يبدو لي أيضًا أنه من غير المرجح على الإطلاق (على الرغم من عدم اتفاقك معي) أن يقتل الميجور ريتش أرنولد كلايتون - بل أن يقتله بهذه الطريقة".قالت ليندا: "مستخدمًا الخنجر الصغير؟ نعم، لاشك في أن هذا ليس من طبعه. ربما كان سيضربه بشيء صلب أو كان سيخنقه، أليس كذلك؟".تنهد بوارو، وقال:"فلنعد إلى عطيل. نعم عطيل... لقد أوحيت لي بفكرة...".قالت ليندا: "هل فعلت؟ ما هي -"، ثم سمعا صوت دوران مفتاح في مزلاج الباب ثم صوت فتحه، فقالت ليندا: "لقد وصل جيريمي. هل ترغب في التحدث معه أيضًا؟".كان جيريمي سبينس رجلاً حسن المظهر في الثلاثينات من عمره، أنيقًا ومتحفظًا بوقاره. قالت السيدة سبينس إنها ستذهب لتلقي نظرة على الطعام الذي تطهوه، وغادرت تاركة الرجلين معًا.لم يكن جيريمي سبينس يبدو صريحًا مثل زوجته، كما بدا عليه أنه لا يحب أن يشارك في القضية على الإطلاق، كما أن تعليقاته لم تحتو على أية معلومات. لقد تعرف هو وزوجته على أسرة كلايتون منذ فترة، ولم يكن ريتش على ما يرام. كان يبدو رجلاً جيدًا، وعلى ما يتذكر، كان ريتش على طبيعته تمامًا خلال الحفل، وكان كلايتون وريتش يبدوان على وفاق دائمًا، والأمر برمته يبدو غير محتمل على الإطلاق.خلال المحادثة، كان جيريمي سبينس يلمح إلى أنه يتوقع أن يغادر بوارو، فقد كان رجلاً متحضرًا، ولكنه كان على طبيعته.قال بوارو: "أظن أنك لا تحب الأسئلة التي أطرحها عليك".قال جيريمي: "لقد عقدنا مثل هذه الجلسة مع الشرطة، وأشعر بأنها كانت كافية، فقد أخبرت الشرطة بكل ما أعرفه أو رأيته، والآن، أود أن أنسى الأمر برمته".قال بوارو: "أنا متعاطف معك. من غير المحبب أن تتورط في مثل هذا الأمر، وألا تُسأل عما تعلم أو عما رأيت فحسب، بل عما تعتقد أيضًا؟".قال جيريمي: "من الأفضل ألا أعتقد شيئًا".قال بوارو: "ولكن، هل يمكننا تجنب الأمر؟ هل تعتقد للحظة أن السيدة كلايتون متورطة في الجريمة؟ هل خططت لأن يقتل ريتش زوجها؟".بدا سبينس مصدومًا مما سمع حيث قال: "يا إلهي، لا. لم تكن لديَّ أدنى فكرة أن مثل هذه الفكرة مطروحة".قال بوارو: "ألم تقترح عليك زوجتك هذا الاحتمال؟".قال جيريمي: "ليندا. أنت تعلم ما عليه النساء - دائمًا ما يتحدثن عن بعضهن البعض. جميع النسوة لا يحببن مارجريتا - فهي جذابة بدرجة كبيرة. ولكن لاشك في أن تلك الفكرة عن تخطيط ريتش ومارجريتا للقتل خيالية".قال بوارو: "هناك بعض الأمور التي تشير إلى ذلك. فسلاح الجريمة، على سبيل المثال، من نوعية الأسلحة التي قد تحملها امرأة لا رجل".قال جيريمي: "هل تعني أن الشرطة قد تتبعت السلاح وصولاً إليها. لا يمكن، أعني ــــــــــ".قال بوارو بصدق: "أنا لا أعلم شيئًا"، ثم غادر المنزل.ترك بوارو للرجل الشاب شيئًا ليفكر فيه.6"أستميحك عذرًا يا سيد بوارو، ولكني لا أرى أنك قادر على مساعدتي على الإطلاق".لم يجب بوارو لأنه كان ينظر بإمعان للرجل الذي اتهم بقتل صديقه أرنولد كلايتون.كان بوارو ينظر إلى فكه القاسي ورأسه المستدق فقد كان رجلاً نحيفًا أسمر البشرة رياضي القوام وعصبيًّا، وكان يشبه الذئب الرمادي إلى حد ما. لم يكن وجهه يحمل أية تعبيرات، ولم يستقبل ضيفه بأية مودة تُذكر.قال ريتش: "أعي جيدًا أن السيدة كلايتون قد أرسلتك لرؤيتي بنية سليمة؛ ولكني، وبكل صراحة، أرى أنها لم تفكر في الأمر جيدًا. إنها لم تكن حكيمة فيما يتعلق بمصلحتها ومصلحتي".قال بوارو: "ماذا تعني؟".نظر ريتش خلفه ولكن الحارس المنوط بحراسته كان يقف بعيدًا، فخفض صوته وقال:"إنهم يرغبون في العثور على دافع ليثبتوا عليّ هذه التهمة السخيفة، وسيحاولون إثبات وجود علاقة بيني وبين السيدة كلايتون. وهذا الأمر - كما أعتقد أن السيدة كلايتون قد أخبرتك - غير صحيح. إننا صديقان ولا شيء غير هذا؛ ولكن من الأفضل ألا تقوم بأي بفعل نيابة عني".تجاهل بوارو ما يعنيه، والتقط كلمة مما قاله ريتش وقال:"لقد قلت إن التهمة السخيفة، ولكنها ليست كذلك كما تعلم".قال ريتش: "أنا لم أقتل أرنولد كلايتون".قال بوارو: "سَمِّها إذن التهمة الزائفة. قل إن الاتهام ليس صائبًا، ولكنه ليس سخيفًا، بل على النقيض، إنه منطقي للغاية. عليك أن تدرك هذا جيدًا".قال ريتش: "لا يمكنني إلا أن أقول لك إنه خيالي بالنسبة لي".قال بوارو: "لن يفيدك هذا القول كثيرًا، وعلينا أن نفكر في أمر ما مفيد بالنسبة لك".قال ريتش: "لقد وكلت محامين للدفاع عني، وقد كلفوا مستشارًا بارزًا بذلك ولا يمكنني تقبل استخدامك كلمة نحن".ابتسم بوارو فجأة وقال بلكنته الأجنبية: "آه، أرى أنك ترفض مساعدتي إياك. لا بأس، سأرحل، فكل ما أردته هو أن أراك، وقد رأيتك. لقد بحثت في مسيرتك المهنية وأعلم أنك تخرجت بتفوق من أكاديمية ساندهيرست، وتخرجت من كلية أركان الحرب، وغيرها وغيرها، وقد توصلت إلى تقييمي لك اليوم. إنك لست بالرجل الغبي".قال ريتش: "وما علاقة هذا بما أنا فيه؟".قال بوارو: "علاقة وثيقة، فمن المستحيل على رجل يمتلك قدراتك أن يرتكب جريمة قتل كتلك التي وقعت. حسنًا. إنك بريء. أخبرني الآن عن خادمك بورجيس".قال ريتش: "بورجيس؟".قال بوارو: "نعم، إن لم تكن قد قتلت كلايتون، فلابد من أن بورجيس هو من فعلها، فهنا استنتاج لا يمكن تجاهله؛ ولكن لماذا؟ لابد من وجود سبب. إنك الشخص الوحيد الذي يعرف بورجيس بالقدر الكافي ليخمن السبب. لماذا أيها الميجور ريتش، لماذا؟".قال ريتش: "لا يمكنني تخيل الأمر، لا أفهم. لقد تتبعت خط التفكير نفسه الذي تتبعته أنت. نعم، بورجيس امتلك الفرصة لقتله - الشخص الوحيد الذي سنحت له الفرصة عداي. المشكلة هي أنني لا يمكنني تصديق الأمر. إن بورجيس ليس من نوعية الأشخاص الذين يمكنك تخيل أن يقتلوا أي شخص كان".قال بوارو: "ماذا قال لك مستشارك القانوني؟".ضم ريتش شفتيه وقال:"يسألني مستشاري القانوني طوال الوقت، بطريقة مقنعة، إن كنت تعرضت لنوبات من فقدان الوعي طوال حياتي لا أدري معها ما أفعله".قال بوارو: "بئس التفكير. حسنًا، ربما علينا أن نكتشف ما إذا كان بورجيس هو من يتعرض لهذه النوبات. إنها دومًا فكرة مطروحة، والآن، لنتحدث عن سلاح الجريمة، هل عرضوه عليك وسألوك إن كان يخصك؟".قال ريتش: "إنه ليس ملكي، ولم أره من قبل في حياتي".قال بوارو: "إنه ليس ملكك، ولكن، هل أنت واثق من أنك لم تره من قبل في حياتك؟".تردد ريتش قليلاً ثم قال: "لا، لست واثقًا. إنه نوع من التحف - حقًّا - تلك التي يراها المرء في منازل الناس".قال بوارو: "في غرفة استقبال امرأة، ربما، وربما كان في غرفة استقبال السيدة كلايتون؟".قال ريتش: "بالطبع لا".صدرت منه الكلمة الأخيرة بصوت عالٍ، فالتفت له الحارس.قال بوارو: "حسنًا، بالطبع لا، ولا حاجة بك للصياح؛ ولكنك رأيت شيئًا يشبهه كثيرًا في مكان ما وفي وقت ما، أليس كذلك؟".قال ريتش: "لا أعلم... ربما في متجر للتحف".نهض بوارو وهو يقول: "أمر محتمل للغاية. سأرحل الآن".7قال هيركيول بوارو: "والآن، بالنسبة لـ بورجيس، نعم، وأخيرًا بورجيس".كان قد عرف أمورًا عن الأشخاص المتورطين في القضية، منهم شخصيًّا ومن بعضهم البعض؛ ولكن، لم يخبره أي منهم بأي شيء عن بورجيس، أية إشارة أو معلومة عن أي نوع من الرجال هو.عندما رأى بوارو بورجيس أدرك السبب.كان الخادم ينتظر بوارو في شقة الميجور ريتش بعدما أخبره القائد ماكلارين بحضوره عبر الهاتف.قال بوارو: "أنا هيركيول بوارو".قال بورجيس: "نعم يا سيدي، أنا كنت أنتظر حضورك".أمسك بورجيس بالباب في احترام وسمح لـ بوارو بالدخول. كان مدخل المنزل عبارة عن ردهة صغيرة مربعة بها باب على اليسار - وكان مفتوحًا - يؤدي إلى غرفة الجلوس. أخذ بورجيس قبعة بوارو ومعطفه ثم تبعه إلى غرفة الجلوس.قال بوارو وهو ينظر حوله: "آه. لقد وقعت الجريمة هنا، أليس كذلك؟".قال بورجيس: "نعم يا سيدي".كان بورجيس رجلاً هادئًا أبيض البشرة نحيلًا، وكانت كتفاه وكوعاه غريبة الشكل، وكان صوته جافًّا يحمل لكنة لم يميزها بوارو. ربما كان من الساحل الشرقي، وكان رجلاً عصبيًّا، ربما - ولكنه لا يحمل أية سمات أخرى. كان من الصعب ربطه بأي فعل إيجابي من أي نوع. هل يمكن للمرء أن يفترض كونه قاتلاً سلبيًّا؟.كانت عيناه زرقاوين ماكرتين. إن هؤلاء الأشخاص غير الجديرين بالملاحظة عادة ما يتسمون بالكذب، أو أنهم نوع من الكذابين الذين ينظرون في وجهك بعينين جريئتين وواثقتين.سأله بوارو: "ماذا سيحل بالشقة؟".قال بورجيس: "ما زلت أعتني بها يا سيدي. لقد رتب الميجور ريتش لأن أحصل على راتبي وأن أراعي الشقة حتى - حتى -".دارت عيناه بطريقة غير مريحة.جاراه بوارو قائلاً: "حتى -".أضاف بوارو بطريقة صريحة ومباشرة: "يجدر بي القول إن الميجور ريتش سيخضع للمحاكمة، وسيكون هذا في خلال ثلاثة أشهر".هز بورجيس رأسه، ليس بإنكار، بل بارتباك.قال بورجيس: "إن هذا الأمر ليس محتملاً".قال بوارو: "إن الميجور ريتش هو القاتل؟".قال بورجيس: "الأمر برمته. ذلك الصندوق - ".نظر بعينيه عبر الغرفة.قال بوارو: "هذا هو الصندوق الشهير إذن؟".كان صندوقًا ضخمًا مصنوعًا من خشب داكن لامع، وكان مزينًا بالنحاس، وكان مشبك الغطاء من النحاس أيضًا والقفل كان شديد الأناقة.توجه بوارو نحوه وقال: "قطعة أثاث أنيقة".كان الصندوق موضوعًا أمام حائط بالقرب من النافذة بجوار خزانة عصرية لأسطوانات الموسيقى، وعلى الجانب الآخر منه، كان يوجد باب مفتوح جزئيًّا. وكان الباب مختفيًا جزئيًّا خلف ستارة جلدية كبيرة ملونة.قال بورجيس: "هذا الباب يؤدي إلى غرفة نوم الميجور ريتش".أومأ بوارو برأسه، وانتقلت عيناه إلى الجانب الآخر من الغرفة؛ حيث كان هناك جهازان لتشغيل الموسيقى، وكان كل منهما موضوعًا على طاولة صغيرة وتخرج منهما أسلاك تشبه الثعابين، وكانت هناك أيضًا مقاعد وثيرة - وطاولة كبيرة، وكانت هناك لوحات يابانية معلقة على الحائط. لقد كانت غرفة أنيقة ومريحة، ولكنها ليست فاخرة.عاد بوارو لينظر إلى ويليام بورجيس.قال بوارو بلطف: "لابد من أنك صُدمت عندما اكتشفت الجثة".قال بورجيس بسرعة: "نعم يا سيدي. لن أنسى هذا الموقف ما حييت"، ثم بدأ يسترسل في الحديث وربما شعر بأنه عبر رواية ما حدث لعدد كافٍ من المرات، سيتمكن من نسيانها.قال بورجيس: "كنت قد دخلت الغرفة يا سيدي لترتيبها، وإزالة الأكواب وغيرها، وكنت قد توقفت لألتقط حبتين من الزيتون من على الأرض - ورأيتها - على السجادة، بقعة داكنة. لا، السجادة ليست هنا الآن. لقد أخذتها للتنظيف بعدما انتهت الشرطة من تنظيفها. حينها فكرت، ما هذا؟ ثم حدثت نفسي قائلاً دون أن أصدق: إن هذا دم، ولكن ما مصدره؟ من أين؟... ثم وجدت أنه يتسرب من الصندوق - من أحد جوانبه، هنا، حيث يوجد الشق. فقلت لنفسي دون أن أدرك ما يحدث: حسنًا، أيًّا كان -؟... ورفعت الغطاء هكذا (وطابق الفعل بالكلمات)، وكانت هناك - جثة رجل راقد على جنبه كما لو كان نائمًا، وكان هذا الخنجر مغروسًا في عنقه. لن أنسى الأمر ما حييت - أبدًا. لقد صُدمت - لم أكن أتوقع الأمر...".ثم التقط نفسًا عميقًا، ثم واصل حديثه قائلاً:"تركت الغطاء لينغلق وعدوت إلى خارج الشقة نحو الشارع بحثًا عن رجل شرطة - ولحسن الحظ، عثرت على أحدهم - على ناصية الشارع".نظر له بوارو مدققًا، فقد كان أداؤه التمثيلي - إن كان ما يراه أداءً تمثيليًّا - جيدًا للغاية، وكان بوارو قد بدأ يخشى ألا يكون هذا أداءً تمثيليًّا وأن هذا ما حدث بالفعل.قال بوارو: "ألم تفكر في إيقاظ الميجور ريتش أولاً؟".قال بورجيس: "لم أفكر في الأمر يا سيدي، فمع تأثير الصدمة كان كل ما أريده هو الخروج من هنا ــــــــــ"، ابتلع ريقه ثم قال: "وإحضار المساعدة".أومأ بوارو برأسه.ثم سأله: "هل أدركت في حينها أنه السيد كلايتون؟".قال بورجيس: "كان يجدر بي ذلك يا سيدي، ولكني لم أفعل، ولكن عندما عدت مع رجل الشرطة قلت: يا إلهي إنه السيد كلايتون... فقال لي الشرطي: ومن يكون السيد كلايتون؟... فقلت له: لقد كان هنا ليلة أمس".قال بوارو: "آه، ليلة أمس... هل تتذكر متى وصل السيد كلايتون إلى هنا بالتحديد؟".قال بورجيس: "ليس بالتحديد يا سيدي، ولكن في حوالي الثامنة والربع، ربما...".قال بوارو: "هل كنت تعرفه حق المعرفة؟".قال بورجيس: "كان هو وزوجته السيدة كلايتون يترددان كثيرًا على الشقة خلال العام ونصف العام الذي عملت فيه هنا".قال بوارو: "هل كان يبدو هادئًا كالعادة؟".قال بورجيس: "أعتقد ذلك. كان متقطع الأنفاس قليلاً - ولكني اعتقدت أنه في عجلة من أمره. كان عليه اللحاق بالقطار، أو هكذا قال".قال بوارو: "هل كان يحمل حقيبة - على ما أعتقد - لأنه كان ذاهبًا إلى إسكتلندا؟".قال بورجيس: "لا يا سيدي، ولكن كانت هناك سيارة أجرة في انتظاره".قال بوارو: "هل خاب أمله عندما لم يجد الميجور ريتش في المنزل؟".قال بورجيس: "لا يا سيدي، ولكنه قال إنه سيترك له رسالة، ثم دخل الشقة وتوجه إلى المكتب، فذهبت أنا إلى المطبخ. لقد كنت متأخرًا قليلاً عن موعد إعداد الطعام، ويقع المطبخ في نهاية الرواق ولا يمكن للمرء أن يسمع جيدًا ما يحدث في الشقة من هناك، لذا، لم أسمعه يغادر ولم أسمع السيد يدخل - ولم أكن أتوقع أن أسمع أي شيء".قال بوارو: "ماذا حدث بعد ذلك؟".قال بورجيس: "دخل عليَّ الميجور ريتش، وكان واقفًا على الباب هنا، وقال إنه نسي شراء السجائر التركية التي تفضلها السيدة سبينس، وكان عليَّ الإسراع والذهاب لشرائها. وقد فعلت، فأحضرت السجائر ووضعتها على الطاولة هنا، ولاشك في أني اعتقدت حينها أن السيد كلايتون قد غادر ليلحق بقطاره".قال بوارو: "هل دخل أي شخص آخر الشقة عندما لم يكن الميجور ريتش موجودًا، بينما كنت أنت في المطبخ؟".قال بورجيس: "لا يا سيدي - لا أحد".قال بوارو: "هل أنت واثق من ذلك؟".قال بورجيس: "لا أحد سيمكنه الدخول - سيكون عليه قرع الجرس أولاً".هز بوارو رأسه مفكرًا. كيف يمكن لأي شخص؟ إنه يعلم أنه كان بمقدور كل من أسرة سبينس وماكلارين والسيدة كلايتون أن يتذكروا كل دقيقة من حياتهم. كان ماكلارين جالسًا مع بعض معارفه في النادي، وكانت أسرة سبينس تستضيف صديقين لهما لتناول الشراب قبل الانطلاق، وتحدثت مارجريتا كلايتون في وقت وقوع الجريمة مع أحد أصدقائها. لا يعني هذا أنه فكر في أن أيا منهم هو القاتل، وكانت هناك طرق لقتل أرنولد كلايتون أفضل من تتبعه إلى شقة يوجد بها الخادم وسيعود صاحب البيت في أية لحظة. لا، لقد فكر في أمل أخير وهو "الغريب الغامض"، ربما شخص من ماضي كلايتون، تعرف عليه في الشارع وتبعه إلى هنا، ثم طعنه بالخنجر ووضع جثته في الصندوق ثم فر. يا لها من أحداث مثيرة خالية من المنطق أو الاحتمالات، مصطبغة بالخيال التاريخي الرومانسي - بما يتفق مع الصندوق الإسباني.توجه بوارو مرة أخرى نحو الصندوق، ورفع غطاءه الذي انفتح بسلاسة ودون أي صوت.قال بورجيس بصوت خافت: "لقد غسلته جيدًا يا سيدي".انحنى بوارو إلى داخل الصندوق، وانحنى أكثر وتفحص الصندوق بأصابعه.قال بوارو: "هذه الفتحات - في ظهر الصندوق وأحد جانبيه - يبدو أنها قد شُقت حديثًا".قال الخادم بينما كان ينحني ليراها: "فتحات؟ لا أعلم. أنا لم ألحظ وجودها من قبل".قال بوارو: "إنها ليست ظاهرة، ولكنها موجودة. ما الهدف منها؟ ما رأيك؟".قال بورجيس: "لا أعلم يا سيدي. ربما حشرة ما، ربما - أعني خنفساء أو شيئًا من هذا القبيل، أو ربما شيء ما يأكل الخشب؟".قال بوارو: "حشرة ما، عجبًا".سار بوارو إلى الطرف الآخر من الغرفة ثم قال:"عندما عدت حاملاً السجائر، هل كان هناك شيء في هذه الغرفة يبدو مختلفًا؟ أي شيء على الإطلاق؟ هل تحركت المقاعد أو الطاولة أو أي شيء من هذا القبيل؟".قال بورجيس: "غريب أنك ذكرت هذا الأمر يا سيدي، فقد حدث هذا بالفعل. لقد تحركت هذه الستارة التي تحجب الهواء عن غرفة النوم نحو اليسار قليلاً".تحرك بوارو بسرعة وقال: "هكذا؟".قال بورجيس: "أكثر قليلاً... نعم هكذا".كانت الستارة تغطي نصف الصندوق، أما الآن، وبعدما عدل بوارو من وضعها، أصبحت تغطي الصندوق بأكمله.قال بوارو: "لِمَ اعتقدت أن هناك من حركها؟".قال بورجيس: "لم أعتقد ذلك يا سيدي".(مثل الآنسة ليمون تمامًا).أضاف بورجيس في تردد:"أعتقد أنها تظهر الطريق نحو غرفة النوم أكثر - إن كانت السيدات يرغبن في تعديل زينتهن".قال بوارو: "ربما، ولكن، ربما كان هناك سبب آخر"، نظر له بورجيس متسائلاً، فتابع بوارو: "إن الستارة تخفي الصندوق الآن، كما أنها تخفي السجادة من تحته. إن كان الميجور ريتش قد طعن السيد كلايتون، فإن الدماء ستبدأ بالتسرب من الصندوق على السجادة على الفور، وربما كان سيلاحظها شخص ما - كما فعلت أنت في صباح اليوم التالي. لذا - تم تحريك الستارة".قال بورجيس: "لم أفكر في هذا الأمر من قبل".قال بوارو: "كيف هي الأنوار في الغرفة، هل هي قوية أم معتمة؟".قال بورجيس: "سأريك يا سيدي".وبسرعة، أغلق الخادم الستائر وأضاء بضعة مصابيح أعطت ضوءا أبيض ناعمًا يكفي بالكاد لأن تقرأ كتابًا، وألقى بوارو نظرة على مصباح في السقف.قال بورجيس: "إنه لم يكن مضاءً يا سيدي، إننا لا نستخدمه كثيرًا".نظر بوارو حوله في ذلك الضوء الناعم.قال الخادم:"لا أعتقد أنه يمكن لأحد رؤية بقعة الدماء يا سيدي، إن الضوء خافت للغاية".قال بوارو: "إنك محق، لماذا إذن تم تحريك الستارة؟".ارتعد بورجيس، وقال:"من المرعب أن أفكر في أن رجلاً مهذبًا مثل الميجور ريتش قد يرتكب جريمة مثل تلك".قال بوارو: "إنك واثق تمامًا من أنه فعلها، أليس كذلك؟ لِمَ فعلها في رأيك يا بورجيس؟".قال بورجيس: "لقد كان في الحرب، وربما أصيب في رأسه، أليس كذلك؟ يُقال إن ذكريات الحرب تعود أحيانًا من جديد بكل قوة وبعد سنوات، وحينها لا يصبح المرء على طبيعته ولا يدري ما يفعله، ويقولون إنهم عادة ما يهاجمون أقرب وأعز الناس إليهم. هل تعتقد أن هذا ما حدث هنا؟".حدق إليه بوارو للحظة، ثم تنهد والتفت إلى الجهة الأخرى.قال بوارو: "لا، ليس هذا ما حدث هنا".وبسرعة كبيرة، وضع بوارو عملة نقدية في يد بورجيس.قال بورجيس: "شكرًا لك يا سيدي، ولكن لا يمكنني أن -".قال بوارو: "لقد ساعدتني كثيرًا، عبر إدخالي هذه الغرفة، وعبر جعلي أرى ما بها، وعبر إخباري بما حدث تلك الليلة. لا يوجد شيء مستحيل، تذكر هذه العبارة. لقد قلت إن هناك احتمالين فحسب - ولكني كنت مخطئًا. إن هناك احتمالًا ثالثًا". نظر بوارو حوله واقشعر بدنه وقال: "أزح هذه الستائر، ودع الضوء والهواء يدخلا، فإن هذه الغرفة تحتاج إليهما، كما أنها تحتاج إلى تطهير، وسيمر وقت طويل قبل أن تتطهر مما ألم بها - الذكرى القاتمة للكراهية".ناول بورجيس المشدوه بوارو قبعته ومعطفه، وكانت تبدو عليه الحيرة الشديدة، أما بوارو الذي كان يستمتع بقول العبارات غير المفهومة، فقد هبط الدرج نحو الشارع بخطى نشطة.8عندما وصل بوارو إلى منزله، اتصل بالمحقق ميلر هاتفيًّا.قال بوارو: "ماذا حل بحقيبة كلايتون؟ لقد قالت زوجته إنه أعد واحدة".قال ميلر: "لقد كانت في النادي، حيث تركها مع الحمال، ولابد أنه نسيها ورحل من دونها".قال بوارو: "ماذا كان بداخلها؟".قال ميلر: "المعتاد، منامات وقميص إضافي وأدوات نظافة".قال بوارو: "هل هذا كل شيء؟".قال ميلر: "وماذا كنت تظن أنه سيكون بداخلها؟".تجاهل بوارو هذا السؤال وقال:"بشأن الخنجر، أقترح أن تعرف المرأة التي تنظف منزل السيدة سبينس، وأن تسألها عما إذا كانت قد رأت أي شيء يشبهه هناك".أطلق ميلر صفيرًا ثم قال: "السيدة سبينس؟ هل هكذا يعمل عقلك؟ لقد عرضت الخنجر على السيد والسيدة سبينس ولم يتعرفا عليه".قال بوارو: "اسألهما مرة أخرى".قال ميلر: "هل تعني -؟".قال بوارو: "ثم أخبرني بما أخبراك به -".قال ميلر: "لا يمكنني تخيل ما تفكر فيه".قال بوارو: "اقرأ رواية عطيل يا ميلر، وتأمل جيدًا شخصياتها، لقد فاتتنا إحداها".ثم أغلق سماعة الهاتف، وبعدها اتصل بالليدي تشاترتون، ولكن الخط كان مشغولاً.حاول مرة أخرى الاتصال بها بعد قليل، ولكنه لم ينجح. فاتصل بـ جورج، خادمه، وأخبره بأن يواصل الاتصال بالليدي تشاترتون حتى يحصل على رد، فقد كانت تهوى التحدث عبر الهاتف.جلس بوارو على أحد المقاعد، وأخرج قدميه من حذائه الجلدي برفق ومدد أصابعهما ثم أسند ظهره إلى ظهر المقعد.قال هيركيول بوارو: "أنا عجوز، وأصبحت أُنهك بسهولة"، ثم ابتسم لنفسه وقال: "ولكن خلايا المخ - لا تزال تعمل. ببطء، ولكنها تعمل... عطيل، نعم، من ذكرها لي؟ نعم، السيدة سبينس. الحقيبة... الستارة... الجثة راقدة هناك كما لو كان رجلًا نائمًا. جريمة قتل ماهرة، متعمدة ومخطط لها... أعتقد أن القاتل استمتع بها...".أخبره جورج بأن الليدي تشاترتون على الهاتف.قال بوارو: "هيركيول بوارو يتحدث يا سيدتي. هل يمكنني التحدث مع ضيفتك؟".قالت الليدي تشارتون: "بالطبع. سيد روارو، هل توصلت لشيء ما؟".قال بوارو: "ليس بعد، ولكن هناك احتمالات أحقق فيها".بعد ذلك، سمع صوت مارجريتا عبر الهاتف فقال لها:"سيدتي، عندما سألتك عما إذا كنت قد لاحظت أي شيء غريب في الغرفة خلال الحفل، قطبت جبينك كما لو كنت قد تذكرت أمرًا ما - ثم لم تتمكني من تذكره بالشكل الكافي. هل كان هذا وضع الستارة خلال تلك الليلة؟".قالت مارجريتا: "الستارة؟ نعم بالطبع. لم تكن في مكانها المعتاد".قال بوارو: "هل رقصت تلك الليلة؟".قالت: "لبعض الوقت".قال بوارو: "من أكثر شخص راقصته؟".قالت مارجريتا: "جيريمي سبينس. إنه راقص رائع، وكذلك تشارلز راقص جيد ولكنه ليس بارعًا. كان يراقص ليندا ثم تبادلنا الأدوار، أما جوك ماكلارين فلا يرقص، ولكنه كان من يخرج أسطوانات الموسيقى ويصنفها ويرتب ما علينا سماعه".قال بوارو: "هل استمعتم لموسيقى غير راقصة فيما بعد؟".قالت: "نعم".صمتت قليلاً ثم قالت:"سيد بوارو، ما الأمر؟ هل توصلت إلى شيء؟ هل هناك أمل؟".قال بوارو: "هل تعلمين يا سيدتي ما يشعر به من حولك؟".قالت بصوت حمل نبرة الدهشة:"أعتقد ذلك".قال بوارو: "أنا لا أعتقد ذلك، أعتقد أن هذا هو مأساة حياتك، ولكنها تصيب الآخرين ولا تصيبك أنت".تابع بوارو حديثه: "ذكر لي شخص ما اليوم رواية عطيل، وكنت قد سألتك عما إذا كان زوجك رجلًا غيورًا، وقلت إنك تعتقدين أنه لابد أنه كذلك، ولكنك قلتها باستخفاف. قلتها كما لو كنت ديزموندا عندما لم تستشعر الخطر، فقد أدركت هي الأخرى الغيرة ولكنها لم تستوعبها، لأنها لم تكن هي نفسها تغار. أعتقد أنها لم تكن تعي مدى قوة الشغف. لقد أحبت زوجها حبًّا رومانسيًّا، وكانت تحب صديقها كاسيو، حبًّا بريئًا، كصديق مقرب منها... أعتقد أن هذا كان بسبب مناعتها ضد الشغف، وكانت هي من دفع الرجال للجنون... هل تفهمين ما أقول يا سيدتي؟".مرت لحظة من الصمت - ثم أجابه صوت مارجريتا العذب الرقيق، بنبرة من الحيرة:"لا، أنا لا أفهم ما تقول...".تنهد بوارو، ثم قال بشكل مباشر:"سأزورك الليلة".9كان المحقق ميلر صعب المراس، ولكن هيركيول بوارو كان من الصعب أن يتنازل حتى يحصل على مراده، فلقد تذمر المحقق ميلر ولكنه استسلم في النهاية.قال ميلر: "- وما شأن الليدي تشاترتون بالأمر - ".قال بوارو: "لا شيء عدا أنها منحت مأوى لواحدة من صديقاتها".قال ميلر: "كيف علمت بأمر السيد والسيدة سبينس؟".قال بوارو: "هل كان الخنجر يخصهما؟ كان هذا محض استنتاج، فقد كان هناك شيء قاله لي جيريمي سبينس هو ما أوحى لي بالفكرة: كنت قد اقترحت أن الخنجر ربما يخص مارجريتا كلايتون، ولكنه أكد أن الخنجر لا يخصها"، ثم صمت للحظة، ثم سأل بفضول: "ماذا قالا؟".قال ميلر: "لقد أقرا بأنه يشبه كثيرًا خنجرًا صغيرًا كانا يمتلكانه، ولكنه مفقود منذ بضعة أسابيع، وكانا قد نسيا كل شيء عنه. أعتقد أن ريتش سرقه من منزلهما".قال بوارو: "إن جيريمي سبينس رجل لا يحب ترك أي شيء للمصادفة، ثم غمغم لنفسه قائلاً: "منذ بضعة أسابيع... آه، نعم، لقد بدأ التخطيط للأمر منذ وقت طويل".قال ميلر: "ما هذا الأمر؟".قال بوارو: "لقد وصلنا"، توقفت سيارة الأجرة أمام منزل الليدي تشاترتون، ودفع بوارو الأجرة.كانت مارجريتا كلايتون تنتظرهما على قمة الدرج، وامتقع وجهها عندما رأت ميلر.قالت مارجريتا: "لم أكن أعلم -".قال بوارو: "إنك لم تعلمي من الصديق الذي سأحضره معي، أليس كذلك؟".قالت مارجريتا: "إن المحقق ميلر ليس صديقي".قال ميلر: "هذا يعتمد على ما إذا كنت ترغبين في رؤية العدالة تأخذ مجراها أم لا يا سيدة كلايتون، لقد قُتلزوجك -".قال بوارو بسرعة: "وعلينا الآن أن نتحدث عمن قتله. هل يمكننا أن نجلس يا سيدتي؟".جلست مارجريتا ببطء على مقعد عالي الظهر في مواجهة الرجلين.قال بوارو موجهًا الحديث لمستمعيه: "أرجو منكما أن تستمعا لما سأقوله بصبر. أعتقد أني أصبحت أعلم الآن ما حدث في شقة الميجور ريتش في تلك الليلة... لقد بدأنا جميعا الأمر بفرضية لم تكن صحيحة - فرضية أن هناك شخصين فحسب توافرت لهما فرصة وضع الجثة في الصندوق - أي الميجور ريتش، أو ويليام بورجيس؛ ولكننا كنا مخطئين؛ فقد كان هناك شخص ثالث في الشقة في تلك الليلة توافرت له فرصة مساوية لكل منهما لفعل ذلك".قال ميلر متشككًا: "من؟ فتى المصعد؟".قال بوارو: "لا، أرنولد كلايتون نفسه".قال ميلر: "ماذا؟ هل أخفى جثته بنفسه؟ أنت مجنون".قال بوارو: "ليس جثته بالطبع - بل جسده الحي، بمعنى أصح، لقد أخفى نفسه داخل الصندوق. إنه أمر تكرر كثيرًا على مدار التاريخ، العروس القتيلة في قصة ميستلتو بو، خطة إياشيمو للنيل من شرف إيموجين وغيرها الكثير. لقد فكرت في الأمر بمجرد أن وجدت فتحات حديثة شُقت في الصندوق. لماذا؟ لقد شُقت حتى يدخل كم كافٍ من الهواء إلى داخل الصندوق. لماذا تحركت الستارة من مكانها الطبيعي في تلك الليلة؟ حتى تخفي الصندوق عن أعين الحاضرين في الغرفة، حتى يتمكن الرجل المختبئ من فتح الصندوق بين الحين والآخر ليمدد جسده أو ليسمع ما يُقال بشكل أفضل".سألت مارجريتا وقد اتسعت عيناها في دهشة: "ولكن، لماذا؟ لم قد يرغب أرنولد في الاختباء داخل الصندوق؟".قال بوارو: "هل أنت من تطرحين هذا السؤال يا سيدتي؟ لقد كان زوجك رجلًا غيورًا، ولكنه كان أيضًا رجلًا يعجز عن التعبير عن مكنونات نفسه - منغلقًا على نفسه كما وصفته صديقتك السيدة سبينس. وقد تزايدت الغيرة في داخله وعذبته. هل كنت عشيقة الميجور ريتش أم لا؟ لم يكن يعلم، وكان عليه أن يعلم. لذا تصل برقية من إسكتلندا، برقية لم يرسلها أحد ولم يرها أحد. فيعد حقيبته للسفر ثم ينساها في النادي، ثم يتوجه إلى الشقة في وقت يعلم جيدًا أن الميجور ريتش ليس فيها - ثم يخبر الخادم بأنه سيترك رسالة، وبمجرد أن يتركه الخادم بمفرده، يشق الفتحات في الصندوق ويجذب الستارة لتخفي الصندوق ثم يقفز داخله. الليلة سيعلم الحقيقة، فربما ستظل زوجته مع ريتش بعدما يرحل الآخرون، وربما ستغادر معهم ثم تعود مرة أخرى. الليلة سيعرف الرجل المحبط الذي دمرته الغيرة...".قال ميلر بعصبية: "هل تعني أنه من طعن نفسه؟ هراء".قال بوارو: "أوه، لا، هناك شخص آخر طعنه، شخص كان يعلم أنه هناك. إنها بالفعل جريمة قتل خُطط لها جيدًا وتم التفكير فيها لوقت طويل. فكر في شخصيات رواية عطيل الأخرى. علينا التفكير في شخصية إياجو الذي سمم تفكير أرنولد كلايتون بالتلميحات والشكوك. إياجو الأمين، الصديق المخلص، الرجل الذي يصدقه دائمًا. لقد صدقه أرنولد كلايتون، وسمح للغيرة بأن تتلاعب به وتتحول إلى حمى. هل كانت فكرة الاختباء في الصندوق فكرة أرنولد؟ ربما اعتقد أنها كذلك، وهكذا، تم إعداد المشهد. الخنجر الذي تم اختلاسه من أصحابه منذ بضعة أسابيع جاهز، وتحل الليلة، والأنوار خافتة والجرامافون يعزف الموسيقى، وهناك رجل وامرأة يرقصان، والرجل الغريب منشغل بخزانة أسطوانات الموسيقى، بالقرب من الصندوق الإسباني والستارة التي تخفيه. ثم ينسل خلف الستارة ويرفع الصندوق ويضرب ضربته - جرأة كبيرة ولكنها بسيطة للغاية".قال ميلر: "كان كلايتون سيصرخ".قال بوارو: "ليس إن كان مخدرًا. فطبقًا للخادم، كانت الجثة كما لو أن الرجل نائم. لقد كان كلايتون نائمًا، وقد خدره الرجل الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك، الرجل الذي تناول معه الشراب في النادي".صاحت مارجريتا في دهشة: "جوك؟ جوك؟ ليس عزيزي جوك. لقد عرفت جوك طوال حياتي. لِمَ قد يفعل جوك...؟".التفت إليها بوارو وقال:"لمِ َيتبارز رجلان إيطاليان؟ لِمَ يطلق شاب النار على نفسه؟ إن جوك ماكلارين رجل لا يحسن البوح بما في صدره، ربما كان قد ارتضى لنفسه أن يكون الصديق الوفي لك ولزوجك، ولكن ظهر فجأة الميجور ريتش. فلم يعد يتحمل الأمر، وفي خضم ظلمة الكراهية والرغبة، يخطط لما سيصبح الجريمة الكاملة - جريمة قتل مزدوجة، فلاشك في أن ريتش هو من سيُتهم بها. ومع إزاحة زوجك وريتش من طريقه - يعتقد أنك ربما تلجئين إليه، وربما كنت ستفعلين يا سيدتي، أليس كذلك؟".كانت تحدق إليه وعيناها جاحظتان من الرعب...قالت دون أن تدري:"ربما... لا أعلم...".تحدث المحقق ميلر فجأة بصوت آمر وقال:"حسنًا يا بوارو. إنها مجرد فرضية لا أكثر، لا يوجد أي دليل عليها، وربما يكون كل ما قلته خطأ".قال بوارو: "ذلك صحيح".قال ميلر: "ولكن، لا يوجد دليل. لا يوجد ما يمكننا التحرك بناءً عليه".قال بوارو: "أنت مخطئ، أعتقد أن ماكلارين - إن تم عرض هذه القصة عليه - سيقر بكل شيء، إن علم أن مارجريتا كلايتون تعلم ما حدث...".صمت بوارو للحظة ثم قال:"لأنه في تلك اللحظة، سيعلم أنه خسرها، وستكون الجريمة الكاملة قد وقعت دون طائل".المستضعف1وضعت ليلي مارجريف قفازيها على ركبتيها بحركة تنم عن العصبية، ونظرت بحدة للشخص الجالس على المقعد أمامها.كانت قد سمعت بالسيد هيركيول بوارو، المحقق الشهير، ولكنها كانت المرة الأولى التي تلتقيه شخصيًّا.كان المظهر الكوميدي، السخيف إلى حد ما، الذي بدا عليه قد أربك فكرتها عنه. هل يمكن لهذا الرجل الغريب الضئيل، ذي الرأس البيضاوي والشارب الكث أن يحقق جميع تلك الإنجازات التي يُقال إنه حققها؟ كان النشاط الطفولي الذي يشغله في تلك اللحظة هو ما صدمها، فقد كان بوارو يكوم كتلاً صغيرة من الأخشاب الملونة الواحدة فوق الأخرى، وكان يبدو عليه أنه مهتم بالنتيجة التي سيتوصل إليها من هذا النشاط أكثر من القصة التي ترويها.عندما صمتت فجأة، رفع بصره بحدة نحوها.وقال: "تابعي من فضلك يا آنسة، قد يبدو عليَّ أني لست منتبهًا، ولكني منتبه تمامًا، أؤكد لك هذا".بدأ مرة أخرى في تكديس الكتل الخشبية الصغيرة الواحدة فوق الأخرى، في حين بدأت الفتاة تحكي قصتها مرة أخرى، فلقد كانت القصة شنيعة، قصة عن العنف والمأساة، ولكن صوتها كان هادئًا ولم يحمل أية انفعالات، وكان سردها ملخصًا لدرجة تشعر معها بعدم وجود أية لمحة إنسانية فيها.انتهت من قصتها أخيرًا.وقالت بتوتر: "أرجو أن أكون قد أوضحت كل شيء".أومأ بوارو برأسه عدة مرات في دلالة على القبول، ثم مرر يده بين الكتل الخشبية الصغيرة مبعثرًا إياها على الطاولة، ثم أسند ظهره إلى ظهر المقعد، وضم أطراف أصابعه معًا ناظرًا إلى السقف، وبدأ يلخص للفتاة ما فهمه من قصتها، حيث قال:"قُتل السير رويبين أستويل منذ عشرة أيام. وفي يوم الأربعاء، قبل الأمس، ألقت الشرطة القبض على ابن أخته تشارلز ليفرسون، والتهم الموجهة نحوه، كما تبادر إلى علمك كالتالي - وستصححين ما أقول إن أخطأت يا آنسة: كان السير رويبين ساهرًا يكتب في مكتبه الخصوصي، غرفة البرج، وكان السيد ليفرسون قد عاد من الخارج في وقت متأخر ودخل المنزل مستخدمًا مفتاح المنزل، وسمعه رئيس الخدم يتشاجر مع خاله، حيث كانت غرفته تقع أسفل غرفة البرج مباشرة. انتهى الشجار بخبطة شديدة بدت كما لو أن مقعدًا قد أُلقي، وصحبته صرخة مكتومة."فزع رئيس الخدم وفكر أن يصعد ليرى ما حدث، ولكن، لم تمر ثوان حتى سمع السيد ليفرسون يغادر الغرفة وهو يدندن نغمة أغنية ما في سعادة، ولم يول الأمر الكثير من الأهمية. في صباح اليوم التالي، عثرت الخادمة على السير رويبين ميتًا بجوار مكتبه، وكان قد ضُرب على رأسه بشيء ثقيل، إلا أن رئيس الخدم - كما فهمت - لم يرو قصة ما سمعه على الفور للشرطة. هذا أمر طبيعي، أليس كذلك يا آنسة؟".جفلت ليلي مارجريف عندما طُرح عليها هذا السؤال المفاجئ.فقالت: "أستميحك عذرًا؟".قال بوارو: "إن المرء يبحث عن الطبيعة البشرية في مثل هذه الأمور، أليس كذلك؟ فكما رويت لي القصة - بكل روعة واختصار - فقد جعلت من أبطالها مجرد آلات - عرائس متحركة. أما بالنسبة لي، فأنا أبحث دائمًا عن الطبيعة البشرية. أقول لنفسي، رئيس الخدم هذا - ماذا كان اسمه؟".قالت ليلي: "اسمه بارسونز".قال بوارو: "سيتصرف بارسونز كما كان سيتصرف أي شخص من طبقته، كان سيعترض بشدة على الشرطة ولن يقول لهم إلا أقل القليل، والأمر الأهم هو أنه لن يقول أي شيء قد يدين أحد أفراد العائلة، وقد يقترح أن لصًّا هو من فعلها بعناد شديد. نعم، إن ولاء طبقة الخدم أمر يستحق الدراسة".أرجع بوارو ظهره للخلف وهو يبتسم.ثم قال: "في الوقت ذاته، قص جميع من في المنزل قصته، ومن بينهم السيد ليفرسون الذي قال إنه دخل المنزل في وقت متأخر، وذهب للنوم دون أن يرى خاله".قالت ليلي: "هذا ما قاله".قال بوارو: "ولم ير أي شخص بدًّا من التشكك في هذه القصة، عدا بارسونز بلا شك. ثم يحضر ذلك المحقق من سكوتلانديارد - تقولين إنه المحقق ميلر، أليس كذلك؟ أعرفه جيدًا، فقد تعاملت معه مرة أو مرتين فيما مضى، وهو من النوعية التي يطلقون عليها الرجل الحاد."نعم، أعرفه حق المعرفة، فلقد تمكن المحقق ميلر من رؤية ما لم يره المحقق المحلي، وكان بارسونز يشعر بتأنيب الضمير، فقد كان يعلم أمرًا ما لم يقله، وتمكن من بث الرعب في نفس بارسونز، والآن اتضح جليًّا أنه لم يقتحم أحد المنزل في تلك الليلة، وأنه يجب البحث عن القاتل من بين الساكنين في المنزل وليس خارجه، وكان بارسونز مرتعبًا وسيشعر براحة كبيرة إن أفضى بالسر الذي يحتفظ به."لقد بذل قصارى وسعه ليتجنب الفضيحة، ولكن لكل شيء حدودًا، ومن ثم استمع المحقق ميلر لقصة بارسونز وطرح عليه بضعة أسئلة ثم أجرى بعض التحريات، وكان الاتهام الذي وجهه قويًّا، قويًّا للغاية"."كانت هناك آثار بصمات ملطخة بالدماء وجدوها على أحد أركان صندوق كان موجودًا في غرفة البرج، وكانت هذه البصمات لتشارلز ليفرسون، وقالت الخادمة إنها أفرغت وعاءً كان ممتلئًا بالماء الممزوج بالدماء من غرفة السيد ليفرسون في الصباح التالي للحادث، وكان ليفرسون قد أخبر الخادمة بأنه جرح أصبعه، وكان بالفعل لديه جرح صغير في أصبعه، نعم، ولكنه جرح صغير للغاية، كما أنه غسل سوار كم قميصه المسائي، ولكنهم عثروا على آثار دماء على كم معطفه، فلقد كان في حاجة ماسة للمال، وكان سيرث الكثير منه في حال موت السير رويبين. نعم، إنه اتهام قوي يا آنسة"، ثم توقف عن الحديث.ثم قال: "ولكنك جئت لرؤيتي اليوم".هزت ليلي مارجريف كتفيها النحيلتين.وقالت: "لقد أخبرتك يا سيد بوارو بأن الليدي أستويل أرسلتني".قال بوارو: "لم تكوني لتحضري من تلقاء نفسك، أليس كذلك؟".نظر لها الرجل الضئيل نظرة ثاقبة، ولم تجبه الفتاة.قال بوارو: "إنك لا تجيبين عن أسئلتي".بدأت ليلي مارجريف تداعب قفازيها.وقالت: "إن الأمر شديد الصعوبة بالنسبة لي يا سيد بوارو؛ حيث إنني شديدة الولاء لليدي أستويل، ولا يمكنني البوح بالكثير، فأنا مجرد رفيقة أحصل على راتب منها، ولكنها عاملتني دائمًا كما لو كنت ابنتها أو ابنة أحد أشقائها. لقد كانت عطوفة معي للغايًّة، وأيًا كانت أخطاؤها، فلا يجب عليَّ أن أبدو كأني أنتقد أفعالها أو - حسنًا، أن أحملك على رفض التحقيق في القضية".قال بوارو: "لا يمكن لأحد أن يحمل هيركيول بوارو على شيء، هذا مستحيل. أعتقد أنك تظنين أن الليدي أستويل تهتم بالأمر أكثر من المطلوب، أليس كذلك؟".قالت ليلي: "إن كان عليَّ أن أقول -".قال بوارو: "تحدثي يا آنسة".قالت ليلي: "أعتقد أن الأمر برمته سخيف".قال بوارو: "هذا ما تعتقدين، أليس كذلك؟".قالت ليلي: "لا أرغب في قول أي شيء ضد الليديأستويل -".غمغم بوارو بلطف: "أعي هذا، أعي هذا تمامًا"، وحثتها عيناه على مواصلة الحديث.قالت ليلي: "إنها امرأة طيبة للغاية، وعطوفة للغاية، ولكنها ليست - كيف يمكنني صياغة هذا؟ إنها ليست امرأة مثقفة. أنت تعلم أنها كانت تعمل ممثلة عندما تزوجها السير رويبين، كما أنها تعتقد في جميع أنواع الأحكام المسبقة والخرافات، فإن قالت أمرًا ما، فيجب أن يكون صحيحًا، وهي لا تستمع أبدًا لصوت العقل. لم يكن المحقق لبقًا معها على الإطلاق، الأمر الذي أغضبها كثيرًا، وهي تقول إنه من الهراء أن يتم اتهام السيد ليفرسون وأن الشرطة اعتادت ارتكاب مثل هذه الأخطاء الحمقاء، وأن عزيزها تشارلز لم يرتكب تلك الجريمة".قال بوارو: "ولكن كلامها لا يعتمد على المنطق".قالت ليلي: "على الإطلاق".قال بوارو: "هل هذا صحيح؟ حقًّا, الآن".قالت ليلي: "لقد أخبرتها بأنه لن يكون من الجيد أن أحضر إليك حاملة فرضيات فحسب دون أي دليل".قال بوارو: "هل أخبرتها بذلك، حقًّا؟ هذا أمر مثير للاهتمام".نظر بوارو إلى ليلي مارجريف متفحصًا بدقة مخزنًا في ذاكرته تفاصيل بدلتها السوداء، ورقبتها البيضاء وقبعتها السوداء الصغيرة، فلقد رأى أنها أنيقة بوجهها الجميل وذقنها المدبب وعينيها الزرقاوين ذواتي الرموش الكثيفة. غير بوارو من سلوكه تجاهها، فقد أصبح أكثر اهتمامًا الآن، وكان الاهتمام بالفتاة الجالسة أمامه أكثر من اهتمامه بالقضية ذاتها.قال بوارو: "أعتقد أن الليدي أستويل يا آنسة تميل إلى التصرفات الهيستيرية غير المتوازنة، أليس كذلك؟".أومأت ليلي برأسها أن نعم.قالت ليلي: "لقد وفقت في وصفها، إنها كما أخبرتك، امرأة عطوفة للغاية، ولكن من المستحيل الجدال معها أو حملها على رؤية الأمور من منظور منطقي".قال بوارو: "ربما كانت تشك في شخص ما، شخص من المستحيل أن يشك فيه أحد".صاحت ليلي قائلة: "هذا بالضبط ما تعتقده، فلقد كانت تكره سكرتير السير رويبين كثيرًا؛ حيث إنها تقول إن السكرتير يعرف من فعلها، ولكن أثبتت التحريات بعد تدقيق شديد أن أوين تريفوسيس المسكين لا يمكن أن يكون هو من ارتكب الجريمة".قال بوارو: "ولكنها لا تمتلك أية أدلة، أليس كذلك؟".قالت ليلي: "لا، إنه حدسها" - قالتها ليلي مارجريف بسخرية.قال بوارو مبتسمًا: "أعتقد يا آنسة أنك لا تثقين بالحدس؟".قالت ليلي: "أعتقد أنه محض هراء".اضطجع بوارو في مقعده وغمغم:"يا للنساء، إنهن يحببن أن يعتقدن أن حدسهن سلاح خاص يمتلكنه، وأنه قادر على أن يريهن الحقيقة في كل مرة، ولكنه يضللهن في الحقيقة في تسع من كل عشر مرات".قالت ليلي: "أعلم ذلك، ولكني أخبرتك بأن الليدي أستويل مثل هؤلاء النسوة، ولا يمكنك الجدال معها على الإطلاق".قال بوارو: "ولكنك يا آنسة حكيمة ومتحفظة، وقد حضرت لرؤيتي كما أُمرت، وتمكنت من تعريفي بالموقف بأكمله".كانت هناك نبرة في صوت بوارو جعلت الفتاة تنظر له بحدة.قال ليلي بطريقة تنم عن أسفها: "أعلم - دون شك - كم وقتك ثمين!".قال بوارو: "إنك فتاة مجاملة يا آنسة - ولكن، نعم، في الوقت الحالي، لديَّ الكثير من القضايا لأحقق فيها".قالت ليلي وهي تنهض من مقعدها: "كنت أعتقد هذا، سأخبر الليدي أستويل -".ولكن، لم ينهض بوارو من مقعده، بل اضطجع أكثر في مقعده وهو ينظر للفتاة.قال بوارو: "إنك في عجلة من أمرك يا آنسة، أليس كذلك؟ أرجوك أن تجلسي لبعض الوقت".رأى بوارو الدم يندفع إلى وجنتي الفتاة ثم يختفي مرة أخرى، ثم جلست الفتاة ببطء ودون رغبة حقيقية في ذلك.قال بوارو: "إن الآنسة سريعة وحاسمة، ويجب أن تترفق بعجوز مثلي يتخذ قراراته ببطء. لقد أسأت فهمي يا آنسة، فأنا لم أقل إني سأقبل قضية الليدي أستويل".قالت ليلي: "هل ستأتي إذن؟".كانت نبرة صوت الفتاة خالية من أي انفعال، ولم تكن تنظر لـ بوارو، بل كانت تنظر إلى الأرض، لذا، لم تر النظرة المتفحصة التي رمقها بها.قال بوارو: "أخبري الليدي أستويل، يا آنسة، أني في خدمتها، وسأكون في منزل مون ريبوس، أليس هذا اسمه؟ - عصر هذا اليوم".نهض بوارو من مقعده وفعلت الفتاة مثلما فعل.قالت ليلي: "سأخبرها بذلك، إنه لطف كبير منك أن تأتي يا سيد بوارو، ولكني أخشى أن تكتشف أنك ستواجه الكثير من الفوضى".قال بوارو: "هذا أمر محتمل للغاية، ولكن - من يدري؟".أرشدها لطريق الخروج بمراعاة جمة، ثم عاد إلى غرفة جلوسه، وجلس على مقعده مقطبًا حاجبيه وهو يفكر بعمق، وهز رأسه مرة أو مرتين، ثم فتح باب الغرفة واستدعى خادمه.قال بوارو: "عزيزي جورج، أعد لي من فضلك حقيبة سفر صغيرة، سأذهب إلى الريف عصر اليوم".قال جورج: "حسنًا يا سيدي".كان جورج يبدو إنجليزيًّا حتى النخاع، فقد كان طويل القامة وشاحب البشرة وجامد الملامح.قال بوارو بينما كان يجلس في مقعده من جديد ويشعل سيجارة: "إن هذه الفتاة مثيرة للاهتمام للغاية يا جورج، خاصة عندما تكتشف أنها ذكية، فكونك تطلب من شخص ما فعل أمر ما وفي الوقت ذاته تجعله يعزف عن فعله، إنه لأمر بالغ الدقة، ويتطلب براعة كبيرة. لقد كانت بارعة للغاية - بارعة للغاية - ولكن، يا عزيزي، هيركيول بوارو يمتلك براعة منقطعة النظير".قال جورج: "لقد سمعتك تقول هذا يا سيدي".قال بوارو: "ليس السكرتير هو من تفكر فيه، إنها تحتقر اتهام الليدي أستويل له، كما أنها ترغب بشدة في ألا يكتشف أحد الأسرار الكامنة، ولكني، يا عزيزي جورج، سأكتشفها، وسأجعلها تظهر جلية كضوء الشمس. هناك دراما تحدث هناك في مون ريبوس، دراما إنسانية، وهي ما يثير اهتمامي بشدة. لقد كانت بارعة، تلك الفتاة الصغيرة، ولكنها لم تكن بارعة بالقدر الكافي. إني أتساءل - أتساءل عما قد أكتشفه هناك؟".خلال الصمت المفاجئ الذي تلا هذه الكلمات، قال جورج بصوت متهدج:"هل أجهز ملابسك يا سيدي؟".نظر له بوارو بحزن.ثم قال: "إنك تركز وتنتبه لعملك فحسب دائمًا، وهذا يناسبني تمامًا يا جورج".2عندما وصل قطار الساعة الخامسة إلا خمس دقائق إلى محطة أبوتس كروس، هبط منه السيد هيركيول بوارو مرتديًا ثيابًا أنيقة للغاية، وكان قد لفَّ شاربه بشكل أنيق. سلم بوارو تذاكره وعبر الحواجز، ثم بادره أحد السائقين قائلاً:"هل أنت السيد بوارو؟".ابتسم له وقال:"هذا اسمي".قال السائق: "من هنا سيدي إن سمحت".فتح السائق باب السيارة الرولز رويس الضخمة.كان المنزل يبعد ثلاث دقائق فحسب عن محطة القطار، وخرج السائق مرة أخرى من السيارة وفتح الباب المجاورلـ بوارو ليتمكن الأخير من النزول من السيارة، وكان رئيس الخدم قد فتح الباب بالفعل في انتظار بوارو ليدخل المنزل.ألقى بوارو على المنزل من الخارج نظرة متفحصة قبل أن يدخل عبر الباب المفتوح، فلقد كان المنزل عبارة عن مبنى ضخم متماسك البناء مبني بالطوب الأحمر، دون أن يحمل أية لمسة جمالية، ولكنه كان يبدو مريحًا للغاية.دخل بوارو الردهة، وأخذ منه رئيس الخدم قبعته ومعطفه بسرعة، ثم غمغم بتلك النبرة الخافتة التي تنم عن الاحترام الشديد والتي تميز أفضل الخدم:"إن السيدة النبيلة في انتظارك يا سيدي".تبع بوارو رئيس الخدم صاعدًا الدرج المغطى بالسجاد الناعم، وكان هذا بلا شك بارسونز الخادم المدرب جيدًا، فقد كانت تصرفاته خالية من أية انفعالات. عندما وصل إلى قمة الدرج، انحرف ناحية اليمين وسار على طول رواق، ودلف عبر أحد الأبواب داخلاً غرفة انتظار، والتي كان بها بابان آخران. فتح رئيس الخدم الباب الأيسر وقال:"السيد بوارو يا سيدتي".لم تكن الغرفة كبيرة للغاية، وكانت مزدحمة بالأثاث والتحف الصغيرة، فنهضت امرأة متشحة بالسواد من على الأريكة وتوجهت مسرعة نحو بوارو.قالت المرأة مادة يدها إليه لتصافحه: "سيد بوارو". ومرت بعينيها بسرعة على مظهره الأنيق، وصمتت للحظة متجاهلة انحناء بوارو ليقبل يدها مغمغمًا: "سيدتي"، ثم أطلقت يد بوارو بعد أن ضغطت عليها ضغطة قوية مفاجئة، وقالت:"أنا أثق بالرجال ضئيلي الحجم. إنهم ماهرون".غمغم بوارو: "أعتقد أن المحقق ميلر رجل طويل القامة، أليس كذلك؟".قالت الليدي أستويل: "إنه رجل أحمق. اجلس هنا بجواري إن سمحت يا سيد بوارو".ثم أشارت إلى الأريكة وتوجهت نحوها وهي تتابع حديثها قائلة:"لقد حاولت ليلي بقوة أن تثنيني عن طلبك، ولكن لم يحملني أحد على فعل ما لا أريد طوال حياتي".قال بوارو وهو يتبعها نحو الأريكة: "إنه إنجاز نادر الحدوث".جلست الليدي أستويل وأراحت نفسها بين الوسادات ثم التفتت ناحية بوارو لتواجهه.قالت الليدي أستويل: "ليلي عزيزة عليَّ للغاية، ولكنها تعتقد أنها تعلم كل شيء، ومن خبرتي في الحياة، مثل هؤلاء الناس عادة ما يكونون مخطئين. أنا لست امرأة ماهرة يا سيد بوارو، ولم أكن كذلك في حياتي، ولكني أكون مصيبة عندما يخطئ الأغبياء. أنا أؤمن بالدلالات، والآن، هل تريد أن أخبرك من القاتل، أم لا؟ إن النساء دائمًا ما يعرفن يا سيد بوارو".قال بوارو: "هل تعلم ذلك الآنسة مارجريف؟".سألته الليدي أستويل بحدة: "بم أخبرتك؟".قال بوارو: "لقد روت لي جميع الحقائق التي تعرفها عن القضية".قالت الليدي أستويل: "الحقائق؟ لا شك في أن جميع الدلائل تشير إلى تشارلز، ولكني أقول لك يا سيد بوارو، إنه ليس القاتل. أعلم أنه لم يفعلها". ثم اقتربت منه بحدة جعلته يشعر بعدم الراحة.قال بوارو: "هل أنت واثقة يا ليدي أستويل؟".قالت الليدي أستويل: "تريفوسيس هو من قتل زوجي يا سيد بوارو. أنا واثقة من هذا".قال بوارو: "لماذا؟".قالت الليدي أستويل: "هل تقصد لم قد يقتل زوجي، أم لماذا أنا واثقة؟ أقول لك إني أعلم. ينتابني شعور غريب حيال تلك الأمور. أنا أتخذ قراري على الفور، وأتمسك به".قال بوارو: "هل سيستفيد السيد تريفوسيس بأية طريقة كانت من موت السير رويبين؟".التفتت له الليدي أستويل بحدة وقالت: "لم يترك له بنسًا واحدًا، وهذا يخبرك بأن عزيزي رويبين لم يحبه ولم يثق به".قال بوارو: "هل عمل مع السير رويبين لفترة طويلة؟".قالت الليدي أستويل: "قرابة تسعة أعوام".قال بوارو بلطف: "إنها فترة طويلة، فترة طويلة يقضيها المرء في العمل مع شخص واحد. لابد أن السيد تريفوسيس كان يعرف رب عمله جيدًا".حدقت به الليدي أستويل، ثم قالت:"ما الذي ترمي إليه؟ لا أرى أن هذا الأمر له أية علاقة بموضوعنا".قال بوارو: "إني أتتبع فكرة صغيرة طرأت عليَّ، فكرة صغيرة قد لا تكون مثيرة للاهتمام، ولكنها جديدة، عن تأثير الخدمة".ظلت الليدي أستويل تحدق إليه وقالت متشككة:"إنك ماهر، أليس كذلك؟ إن الجميع يقولون عنك ذلك".ضحك هيركيول بوارو.ثم قال: "أعتقد أنه يجدر بك أن تقولي المثل عليَّ يا سيدتي، إنها الموضة السائدة هذه الأيام؛ ولكن، دعينا نعد لنتحدث عن الدافع. أخبريني بالأشخاص الذين كانوا متواجدين في المنزل عند وقوع الحادث".قالت الليدي أستويل: "كان هناك تشارلز بالطبع".قال بوارو: "إنه ابن شقيقة زوجك وليس ابن شقيقتك أنت، أليس كذلك؟".قالت الليدي أستويل: "نعم، كان تشارلز الابن الوحيد لشقيقة رويبين، فلقد كانت قد تزوجت من رجل ثري إلى حد ما، ولكن وقع لهم حادث - مثل تلك الحوادث التي تحدث في المدينة طوال الوقت - وتوفي هو وزوجته، وجاء تشارلز ليعيش معنا. كان في الثالثة والعشرين من عمره في ذلك الحين، وكان يدرس ليكون محاميًا؛ ولكن، عندما وقع الحادث، أخذه رويبين ليعمل معه في مكتبه".قال بوارو: "هل كان السيد تشارلز ماهرًا في عمله؟".قالت الليدي أستويل وهي تومئ برأسها في رضا: "يعجبني الرجل سريع الفهم. لا، لقد كانت هذه هي المشكلة، لم يكن تشارلز كذلك في عمله، وكان دائم الشجار مع خاله بسبب الأخطاء التي كان يرتكبها، ولم يكن رويبين المسكين ممن يتجاهلون الأخطاء أو يتساهلون مع المخطئين، ولقد أخبرته عدة مرات بأنه نسي كيف كان عندما كان شابًّا، لقد كان مختلفًا للغاية في تلك الفترة يا سيد بوارو".تنهدت الليدي أستويل متذكرة الماضي.قال بوارو: "إن الناس يتغيرون يا سيدتي، هذه هي سنة الحياة".قالت الليدي أستويل: "ولكنه لم يكن وقحًا أبدًا معي. على الأقل عندما كان يعاملني بوقاحة، كان يأتي ليعتذر - عزيزي رويبين المسكين".قال بوارو: "هل كان رجلاً صعب المراس؟".قالت الليدي أستويل كما لو كانت مدرب أسود ناجحًا: "لقد تمكنت من السيطرة عليه، ولكني لم أكن أتمكن من ذلك عندما يفقد أعصابه مع الخدم، فهناك عدة طرق للتعامل مع الأمور، ولم يكن رويبين يتبع الطريقة الصحيحة".قال بوارو: "كيف كان توزيع المال في وصية السير رويبين يا ليدي أستويل؟".ردت الليدي أستويل بسرعة: "النصف لي والنصف الآخرلـ تشارلز. إن المحامين لم يشرحوا الأمر بهذه البساطة، ولكني ذكرت لك الإجمالي".أومأ بوارو برأسه.ثم غمغم: "لقد فهمت، والآن يا ليدي أستويل، أريدك أن تخبريني بمن كان في المنزل، فلقد كنت أنت متواجدة وابن شقيقة السير رويبين، السيد تشارلز ليفرسون، والسكرتير، السيد أوين تريفوسيس، وكانت هناك الآنسة ليلي مارجريف. أرجو أن تخبريني عن هذه الشابة".قالت الليدي أستويل: "هل تريدني أن أخبرك عن ليلي؟".قال بوارو: "نعم، هل تعمل عندك منذ وقت طويل؟".قالت الليدي أستويل: "منذ عام تقريبًا. لقد عينت الكثير من السكرتيرات، ولكنهن كن، جميعهن، يثرن أعصابي. أما ليلي، فمختلفة، فلقد كانت مهذبة وذات منطق سليم، كما أنها جميلة. إني أحب وجود وجه جميل ليمثلني يا سيد بوارو. أنا شخص من نوع غريب، إني أقرر ما يعجبني وما لا يعجبني على الفور. وبمجرد أن رأيت هذه الفتاة، قلت لنفسي: ستصلح للعمل معي".قال بوارو: "هل حضرت للعمل معك عبر توصية من أحد أصدقائك يا ليدي أستويل؟".قالت: "أعتقد أنها حضرت للعمل بعدما قرأت إعلانًا عن الوظيفة في الجريدة. نعم - هذا ما حدث".قال بوارو: "هل تعلمين أي شيء عن أهلها، ومن أين أتت؟".قالت الليدي أستويل: "والدها ووالدتها يعيشان في الهند كما أعتقد، ولا أعلم الكثير عنهما، ولكن، يمكنك أن تخمن للوهلة الأولى أنها امرأة نبيلة، أليس كذلك يا سيد بوارو؟".قال بوارو: "بالفعل، بالفعل".تابعت الليدي أستويل حديثها قائلة: "بالطبع. أنا لست امرأة نبيلة في الأساس، وأنا أعلم ذلك، والخدم يعلمون ذلك، ولكني لا أضمر في قلبي أي شيء، ويمكنني أن أقدر الشخص النبيل بمجرد رؤيته، ولا يمكن أن يكون أحد أكثر لطفًا معي من ليلي. إني أعتبرها كابنتي يا سيد بوارو، دون شك".مد بوارو يده وعدل من وضعية بعض من التحف الموضوعة على الطاولة بالقرب منه.قال بوارو: "هل كان السير رويبين يشعر بمثل ذلك نحوها؟".كانت عيناه مثبتتين على التحف، ولكنه لاحظ فترة الصمت القصيرة التي سبقت إجابة الليدي أستويل، حيث قالت:"بالنسبة للرجال، الأمر مختلف. لا شك في أنهم يتعاملون مع الآخرين بصورة رائعة".قال بوارو: "شكرًا جزيلاً لك يا سيدتي"، ثم ابتسم لنفسه.سألها بوارو: "وهل كان هؤلاء هم الأشخاص الوحيدين المتواجدين في المنزل في تلك الليلة؟ عدا الخدم بالطبع".قالت الليدي أستويل: "كان هناك فيكتور".قال بوارو: "فيكتور؟".قالت الليدي أستويل: "نعم، شقيق زوجي، وشريكه".قال بوارو: "هل يعيش معكم؟".قالت: "لا، لقد أتى للتو في زيارة لنا، فلقد كان مسافرًا إلى غرب إفريقيا طوال السنوات القليلة الماضية".غمغم بوارو: "غرب إفريقيا".كان بوارو يعلم أن الليدي أستويل يمكنها الاسترسال في قص أي موضوع إن مُنحت الوقت الكافي.قالت الليدي أستويل: "يُقال إنها بلاد رائعة، ولكني أعتقد أن لها تأثيرًا سيئًا على الإنسان. إنهم هناك يعيشون دون هدف ولا يمكن السيطرة عليهم، وليس من المعروف عن عائلة أستويل أن أخلاقهم حميدة، وقد صدمتني رؤية فيكتور كثيرًا منذ عودته من إفريقيا. لقد أصابني بالخوف لمرة أو مرتين".غمغم بوارو بصوت خافت: "وهل أخاف الآنسة مارجريف أيضًا؟".قالت الليدي أستويل: "ليلي؟ لا أعتقد أنه رآها كثيرًا".دوَّن بوارو بضع ملاحظات في مفكرته الصغيرة، ثم أعاد قلمه الرصاص إلى المكان المخصص له في بدلته، وأعاد المفكرة مرة أخرى إلى جيبه.قال بوارو: "شكرًا جزيلاً لك يا ليدي أستويل، وإن سمحت أريد أن ألتقي بارسونز الآن".قالت الليدي أستويل: "هل ستجعله يأتي إلى هنا؟".ثم مدت يدها نحو الجرس، ولكن بوارو فهم ما تشير إليه فقال:"لا، لا بالطبع، سأهبط أنا إليه".قالت الليدي أستويل: "إن كنت تعتقد أنه من الأفضل أن -".كان يبدو على الليدي أستويل خيبة الأمل لأنها لن تشاهد اللقاء بينهما، إلا أن بوارو تصرف بشيء من التكتم.قال بوارو بغموض: "هذا ضروري"، ثم ترك الليدي أستويل تشعر بالإحباط وغادر الغرفة.عثر بوارو على بارسونز في غرفة الخدم يلمع أدوات المائدة، وافتتح بوارو اللقاء بإحدى انحناءاته الصغيرة الغريبة.وقال: "أود أن أعرفك بنفسي. أنا محقق خاص".قال بارسونز: "نعم يا سيدي. أعتقد أننا توقعنا ذلك".كانت نبرة صوته تنم عن الاحترام المتحفظ.تابع بوارو حديثه قائلاً: "لقد أرسلت الليدي أستويل في طلبي، وهي ليست راضية، ليست راضية على الإطلاق".قال بارسونز: "لقد سمعتها تقول هذا عدة مرات".قال بوارو: "في واقع الأمر. لن أعيد عليك من جديد أمورًا تعرفها بالفعل، حسنًا؟ دعنا إذن لا نضيع وقتنا في مثل هذه الأمور التافهة. اصطحبني، إن سمحت، إلى غرفة نومك، وأخبرني بالضبط بما سمعته ليلة الحادث".كانت غرفة نوم الخادم تقع في الطابق الأرضي بجوار ردهة الخدم، وكانت ذات نوافذ قديمة، وكانت هناك حجرة محصنة في أحد أركانها. أشار بارسونز إلى فراشه الضيق وقال:"لقد ذهبت للفراش يا سيدي في تمام الساعة الحادية عشرة مساءً، وكانت الآنسة مارجريف قد ذهبت لغرفتها، وكانت الليدي أستويل مع السير رويبين في غرفة البرج".قال بوارو: "هل كانت الليدي أستويل مع السير رويبين؟ حسنًا، أكمل".قال بارسونز: "تقع غرفة البرج فوق غرفتي تمامًا يا سيدي، وإن تحدث من فيها، يمكنني سماع همهماتهم، ولكن لا يمكنني تبين أي مما يُقال. لابد من أني قد نمت حوالي الحادية عشرة والنصف، وكانت الساعة حوالي الثانية عشرة عندما أيقظني صوت إغلاق الباب الرئيسي للمنزل وأدركت أن السيد ليفرسون قد عاد. ثم سمعت صوت خطوات في الغرفة في الأعلى، وبعد دقيقة أو دقيقتين، سمعت صوت السيد ليفرسون يتحدث مع السير رويبين."تخيلت حينها يا سيدي أن السيد ليفرسون - لا يجدر بي قول إنه لم يكن في وعيه، ولكنه كان صاخبًا ويصدر الكثير من الضوضاء. كان يصرخ في خاله بأعلى صوته، وقد تمكنت من سماع كلمة أو اثنتين ولكنهما لا تكفيان لأن أستوعب ما يحدث، ثم سمعت صرخة حادة وصوت سقوط شيء على الأرض".ثم صمت قليلاً وكرر الجملة الأخيرة التي قالها."صوت سقوط شيء على الأرض".غمغم بوارو: "إن لم أكن مخطئًا، لقد كان صوت السقوط خفيفًا مثلما يُكتب في الروايات".قال بارسونز بحدة: "لقد كان صوتًا قويًّا ذلك الذي سمعته".قال بوارو: "ماذا قلت؟".قال بارسونز: "لا تعر الأمر اهتمامًا يا سيدي. بعد صوت السقطة، وفي ظل الهدوء الذي حل، سمعت السيد ليفرسون يقول: يا إلهي، يا إلهي، وكان صوته واضحًا وعاليًا يا سيدي".منذ تردد بارسونز الأول ليروي القصة إلى روايته لها، أصبح الآن يستمتع بروايتها. لقد بدأ يتخيل نفسه راوي قصص، فجاراه بوارو.غمغم بوارو: "يا إلهي. لقد مررت بوقت عصيب".قال بارسونز: "بالفعل يا سيدي، أنت محق؛ ولكني لم أفكر في الأمر كثيرًا في حينه، ولكني تساءلت عما إذا كان قد حل خطب ما، وإذا ما كان عليَّ أن أصعد للأعلى لأستطلع الأمر. ذهبت لأضيء الأنوار، ولكني تعثرت في المقعد."فتحت الباب، ومررت بردهة الخدم، وفتحت الباب الآخر الذي يؤدي للرواق، حيث يوجد الدرج الخلفي المؤدي للأعلى، وعندما وقفت عند قاعدة الدرج مترددًا، سمعت صوت السيد ليفرسون آتيًا من الأعلى يقول بصوت مبتهج: لم يقع أي ضرر لحسن الحظ. تصبح على خير... ثم سمعته يسير على طول الرواق نحو غرفته وهو يدندن."وبالطبع، عدت لفراشي على الفور، وفكرت أنه ربما سقط شيء ما. هل لي أن أسألك يا سيدي، هل كان عليَّ أن أفكر في أن السير رويبين قد قُتل بعدما سمعت السيد ليفرسون يقول له تصبح على خير؟".قال بوارو: "هل أنت واثق من أن الصوت الذي سمعته كان صوت السيد ليفرسون؟".نظر بارسونز للرجل البلجيكي الضئيل في حيرة، وبدا جليًّا أمام عيني بوارو أن عقل بارسونز مقتنع بهذه النقطة سواء كانت صحيحة أم خاطئة.قال بارسونز: "هل هناك شيء آخر تود أن تسألني عنه يا سيدي؟".قال بوارو: "هناك أمر آخر. هل تحب السيد ليفرسون؟".قال بارسونز: "أستميحك عذرًا يا سيدي؟".قال بوارو: "إنه سؤال بسيط. هل تحب السيد ليفرسون؟".جفل بارسونز في البداية ولكنه بدا الآن محرجًا.قال بارسونز: "إن رأينا جميعًا كخدم يا سيدي"، ثم صمت.قال بوارو: "صغ الأمر كما يحلو لك".قال بارسونز: "رأينا يا سيدي أن السيد ليفرسون شاب سخي، ولكنه لا يتمتع بالكثير من الذكاء يا سيدي".قال بوارو: "هل تدري أن هذا رأيي فيه أيضًا دون حتى أن أراه".قال بارسونز: "لا شك في هذا يا سيدي".قال بوارو: "إن سمحت لي، هل يمكنك أن تخبرني برأي الخدم في السكرتير؟".قال بارسونز: "إنه رجل هادئ وصبور، وحريص على ألا يسبب أية مشكلات".قال بوارو: "حقًّا!".سعل الخادم.ثم غمغم: "إن السيدة تتسرع كثيرًا في أحكامها".قال بوارو: "إن رأي الخدم إذن أن السيد ليفرسون هو من ارتكب الجريمة، أليس كذلك؟".قال بارسونز: "إن أحدًا منا لا يتمنى التفكير في أن السيد ليفرسون هو القاتل، إننا لم نتخيل أنه قادر على ذلك".سأله بوارو: "ولكنه يفقد أعصابه أحيانًا، أليس كذلك؟".اقترب منه بارسونز.ثم قال: "إن سألتني عن الشخص الأكثر عنفًا في هذا المنزل -".أمسك بوارو بيده.ثم قال: "ولكن، ليس هذا هو السؤال الذي من المفترض أن أطرحه. سأسألك عن أهدأ شخص في المنزل؟"، نظر إليه بارسونز فاغرًا فاه.3لم يضيع بوارو المزيد من الوقت معه، وبانحناءة ودودة - ولقد كان ودودًا دائمًا - غادر بوارو الغرفة متوجهًا إلى الردهة المربعة الكبيرة لمنزل مون ريبوس، حيث وقف هناك لدقيقة أو دقيقتين مفكرًا، ومع أول صوت سمعه، وضع يده جانبه وانسل بخفة متوجهًا إلى أحد الأبواب التي تؤدي إلى خارج الردهة.وقف بوارو على عتبة الباب متفحصًا الغرفة التي كانت مفروشة مثل المكتبة، وعلى المكتب الذي يقع على الطرف البعيد من الغرفة، جلس شاب نحيف شاحب البشرة منشغلاً بكتابة شيء ما، وكان يمتلك ذقنًا طويلاً وكان يضع نظارة تثبيت على الأنف.وقف بوارو يراقبه لبضع دقائق، ثم كسر حاجز الصمت عبر إطلاق سعال مصطنع وبطريقة تمثيلية.سعل السيد هيركيول بوارو: "إحم".توقف الشاب الجالس إلى المكتب عن الكتابة والتفت نحو بوارو. لم يبد على الشاب أنه جفل ولكن ظهر تعبير ينم عن الحيرة بينما كان ينظر إلى بوارو.تقدم الأخير نحو الأمام وانحنى أمام الشاب وقال:"هل أنت السيد تريفوسيس؟ اسمي بوارو، هيركيول بوارو. ربما تكون قد سمعت بي".قال الشاب: "نعم بالطبع".نظر له بوارو باهتمام.كان أوين تريفوسيس يبلغ من العمر حوالي ثلاثة وثلاثين عامًا، وأدرك بوارو على الفور لماذا لم يأخذ الجميع اتهام الليدي أستويل له على محمل الجد، فلقد كان شابًّا مهذبًا وأنيقًا، وديعًا وهادئًا، من نوعية الرجال الذين من السهل التنمر عليهم، وقد كان كذلك بالفعل. كان يمكن للمرء أن يثق بأن أوين لن يظهر الامتعاض أبدًا.قال السكرتير: "لاشك في أن الليدي أستويل قد أرسلت في طلبك، لقد قالت إنها ستفعل. كيف يمكنني مساعدتك؟".كان أسلوبه مهذبًا دون إسراف ، فجلس بوارو على أحد المقاعد وغمغم بصوت خافت:"هل أخبرتك الليدي أستويل بأي شيء عن معتقداتها وشكوكها؟".ابتسم أوين تريفوسيس ابتسامة صغيرة وقال:"كما تبادر إلى علمي، إنها تشك في أني القاتل. إنه أمر مستحيل، ولكنه الواقع؛ حيث إنها لم تتحدث معي على الإطلاق منذ وفاة السير رويبين، كما أنها تلتصق بالحائط كلما مررت بجوارها".كان أسلوبه طبيعيًّا، بل كانت هناك نبرة استمتاع في صوته أكثر من نبرة الامتعاض، فأومأ بوارو برأسه في تقدير لصراحته.قال بوارو مفسرًا: "أصدقك القول، لقد فعلت الأمر ذاته معي، ولم أجادلها - لقد وضعت لنفسي قاعدة ألا أجادل النسوة اللاتي يتمسكن بآرائهن، لأنها مضيعة للوقت كما تعلم".قال أوين: "بالفعل".قال بوارو: "أقول دائمًا، نعم يا سيدتي - بالطبع يا سيدتي - هذا أمر مؤكد يا سيدتي. إن هذه الكلمات لا تعني شيئًا، ولكنها ترضيهن، فلقد قمت بتحرياتي، ويبدو أنه لا يمكن لأي شخص عدا السيد ليفرسون أن يرتكب الجريمة، ولكن، لقد تحقق المستحيل من قبل".قال السكرتير: "يمكنني فهم موقفك تمامًا. من فضلك، اعتبر أني في خدمتك في أي وقت".قال بوارو: "رائع. إننا نفهم بعضنا بعضًا، والآن، قص عليَّ ما حدث في تلك الليلة. من الأفضل أن تبدأ بالعشاء".قال أوين: "لم يحضر ليفرسون العشاء، كما تعلم دون شك، فلقد كان بينه وبين خاله خلاف كبير، وذهب لتناول العشاء في نادي الجولف. وكان السير رويبين متكدرًا للغاية لهذا السبب".علق بوارو بلطف: "إنه لم يكن رجلاً لطيفًا، أليس كذلك يا سيدي؟".ضحك تريفوسيس.ثم قال: "لقد كان رجلًا سريع الغضب، ولم أتمكن من معرفة أغلب أساليبه برغم عملى معه لتسعة أعوام، لقد كان رجلًا صعب المراس بشكل كبير يا سيد بوارو. وكان يدخل في نوبات غضب طفولية ويهين أي شخص يقترب منه."كنت قد تعودت أسلوبه، وعودت نفسي عدم الالتفات لأي مما يقوله. لم يكن رجلاً سيئًا في الحقيقة، ولكنه كان في بعض الأحيان يصبح رجلًا شديد الحماقة ومثيرًا للأعصاب بسبب أسلوبه. كان أفضل شيء ألا ترد عليه".قال بوارو: "هل كان الآخرون يتصرفون مثلما تتصرف؟".هز تريفوسيس كتفيه.ثم قال: "كانت الليدي أستويل تتمتع بحالة خاصة، فلم تكن تخشى السير رويبين، وكانت عادة ما تواجهه وترد عليه بمثل ما يقول لها، وكانا دائمًا ما يتصالحان بعد ذلك، وكان السير رويبين يحبها كثيرًا".قال بوارو: "هل تعاركا تلك الليلة؟".نظر له السكرتير شزرًا، وتردد لدقيقة ثم قال:"أعتقد هذا. ما الذي دفعك لطرح هذا السؤال؟".قال بوارو: "مجرد فكرة طرأت عليَّ".قال السكرتير شارحًا: "لا أعلم بالطبع ما دار بينهما، ولكن كان تعاملهما معًا ينم على أنهما على خلاف".لم يواصل بوارو الحديث في الأمر.قال بوارو: "من حضر العشاء أيضًا؟".قال أوين: "الآنسة مارجريف، والسيد فيكتور أستويل وأنا".قال بوارو: "وماذا حدث بعد ذلك؟".قال أوين: "ذهبنا إلى غرفة الاستقبال، ولكن، لم يصحبنا السير رويبين، وبعد حوالي عشر دقائق، حضر السير رويبين وبدأ يوبخني بشدة بشأن أمر تافه يتعلق بأحد الخطابات، فصعدت معه إلى غرفة البرج لأصلح الأمر، ثم دخل علينا السيد فيكتور أستويل وقال إن هناك أمرًا ما يرغب في أن يتحدث مع أخيه عنه، لذا، هبطت إلى الطابق السفلي وانضممت للسيدتين هناك."بعد حوالي ربع الساعة، سمعت جرس السير رويبين يدق بعنف، وحضر إليَّ بارسونز وقال إنه يجب عليّ الصعود للسير رويبين في الحال. عندما دخلت الغرفة، كان السيد فيكتور أستويل يخرج منها، وكاد يصطدم بي، وكان يبدو أن هناك أمرًا حدث جعله مستاءً. لقد كانت طباعه عنيفة للغاية، وأعتقد بالفعل أنه لم يرني".قال بوارو: "هل تحدث معك السير رويبين حيال ما حدث بينهما؟".قال أوين: "قال لي السير رويبين: فيكتور مجنون، أعتقد أنه سيؤذي شخصًا ما ذات يوم خلال واحدة من نوبات غضبه تلك".قال بوارو: "آه، هل لديك أية فكرة عن المشكلة بينهما؟".قال أوين: "لا، على الإطلاق".أدار بوارو رأسه نحو أوين ببطء شديد ونظر له، وكان قد تفوه بتلك الكلمات الأخيرة بسرعة كبيرة، وتكون لديه انطباع أن تريفوسيس قد قال أكثر مما يرغب في قوله؛ ولكن، مرة أخرى لم يُعِد بوارو السؤال مرة أخرى.قال بوارو: "ماذا حدث بعد ذلك؟ واصل الحديث من فضلك".قال أوين: "عملت مع السير رويبين طوال ساعة ونصف أخرى تقريبًا، وفي تمام الحادية عشرة، دخلت علينا الليدي أستويل، وأخبرني السير رويبين بأنه يمكنني الذهاب للفراش".قال بوارو: "وهل فعلت؟".قال أوين: "نعم".قال بوارو: "هل لديك أية فكرة عن فترة بقائها معه؟".قال أوين: "كلا، على الإطلاق؛ حيث إن غرفتها تقع في الطابق الأول وغرفتي تقع في الطابق الثاني، لذا، لم يكن من الممكن سماعها وهي ذاهبة لغرفتها".قال بوارو: "لقد فهمت".أومأ بوارو برأسه لمرة أو مرتين ثم نهض واقفًا.وقال: "والآن، يا سيدي، خذني إلى غرفة البرج".تبع بوارو السكرتير وهما يصعدان الدرج وصولاً إلى الطابق الأول، فسبقه تريفوسيس سائرًا على طوال الرواق ودخل عبر باب مخملي أخضر اللون في نهايته ليدخل ممرًّا يؤدي إلى درج الخدم ومن بعده ممر قصير ينتهي بباب، وعبرا ذلك الباب ليجدا نفسيهما في مسرح الجريمة.كانت الغرفة فخمة للغاية ويبلغ ارتفاع سقفها ضعف ارتفاع أسقف الغرف الأخرى، وكانت مساحتها تبلغ حوالي عشرة أمتار مربعة، وكانت هنا سيوف ورماح تزين الحوائط، وكانت هناك الكثير من التحف موضوعة بنظام على الطاولات، وفي الطرف الآخر من الغرفة، بجوار النافذة، كانت هناك طاولة كتابة كبيرة، فتوجه بوارو نحوها مباشرة.قال بوارو: "هل عُثر على السير رويبين هنا؟".أومأ تريفوسيس برأسه بالموافقة.قال بوارو: "هل تلقى الضربة من الخلف؟".أومأ السكرتير برأسه مرة أخرى.قال السكرتير: "لقد ارتُكبت الجريمة باستخدام واحدة من تلك الهراوات. شيء ثقيل للغاية، ولابد من أنه قد توفي على الفور".قال بوارو: "وهذا يُثبت أن الجريمة لم تكن متعمدة، فلقد وقع شجار عنيف ومن ثم جذب القاتل سلاح الجريمة دون أن يشعر".قال أوين: "نعم، إن هذا الأمر لا يصب في صالح ليفرسون المسكين".قال بوارو: "هل كانت الجثة ساقطة على المكتب؟".قال أوين: "لا، لقد عُثر على الجثة على الأرض بجوار المكتب".قال بوارو: "آه، هذا أمر مثير للفضول".سأل أوين: "ولم؟".قال بوارو:" بسبب هذا".أشار بوارو إلى بقعة صغيرة مستديرة من الدماء ظاهرة على سطح طاولة الكتابة.قال بوارو: "إنها بقعة دماء يا صديقي".قال تريفوسيس: "ربما تناثرت الدماء لتسقط هنا، وربما حدثت في وقت لاحق بينما كانوا ينقلون الجثة".قال بوارو: "هذا أمر محتمل للغاية. هل هذا الباب هو المدخل الوحيد للغرفة؟".قال أوين: "هناك درج هنا".ثم أزاح ستارًا مخمليًّا يقع في أحد أركان الغرفة القريب من الباب حيث كان يوجد درج أسطواني يؤدي إلى الأعلى.قال أوين: "لقد بنى هذا المنزل عالم فلك، والدرج يؤدي إلى البرج الذي كان يضع به منظاره، ولكن السير رويبين رتب لتكون هذه الغرفة غرفة نوم، وكان ينام فيها في بعض الأحيان عندما يواصل العمل حتى وقت متأخر".بدأ بوارو يصعد الدرج، وكانت الغرفة المستديرة في الأعلى لا تحتوي على الكثير من الأثاث، فقد كان بها فراش صغير ومقعد وطاولة زينة، واطمأن بوارو إلى عدم وجود مخرج آخر، ثم هبط الدرج مرة أخرى إلى حيث وقف تريفوسيس في انتظاره.سأل بوارو: "هل سمعت السيد ليفرسون يدخل الغرفة؟".هز تريفوسيس رأسه نفيًا.وقال: "لقد نمت بسرعة في تلك الليلة".أومأ بوارو برأسه، ونظر ببطء في أنحاء الغرفة.ثم قال في النهاية: "حسنًا، لا أعتقد أن هناك أي شيء آخر هنا، إلا - هل يمكنك أن تسدل الستائر، من فضلك؟".أطاعه تريفوسيس، وأسدل الستائر الثقيلة السوداء على النافذة المتواجدة في الطرف البعيد من الغرفة، وأضاء بوارو الأنوار - التي كانت تصدر من خلف وعاء مرمري يتدلى من السقف.سأل بوارو: "هل توجد أنوار للمكتب؟".وردًّا على سؤاله، ضغط السكرتير على مصباح أخضر اللون يُصدر ضوءًا قويًّا يقع على سطح طاولة الكتابة. أطفأ بوارو الضوء الآخر، ثم أضاءه، ثم أطفأه مرة أخرى.قال بوارو: "حسنًا، لقد انتهيت هنا".قال السكرتير: "سيكون العشاء جاهزًا في السابعة والنصف".قال بوارو: "شكرًا لك يا سيد تريفوسيس على خدماتك الجليلة".قال أوين: "لا شكر على واجب".سار بوارو مطرقًا على طول الرواق متوجهًا إلى الغرفة المخصصة له، وكان خادمه جورج واقفًا هناك يؤدي بعض المهام المكلف بها.قال بوارو: "عزيزي جورج. أريد أن ألتقي على العشاء برجل بدأ يثير اهتمامي، رجل جاء من المناطق الاستوائية يا جورج. والذي يُقال عنه إن سلوكياته أصبحت استوائية أيضًا. الرجل الذي يحاول بارسونز أن يخبرني به، والذي لم تذكره الآنسة مارجريف على الإطلاق. لقد كان السير رويبين رجلًا غضوبًا يا جورج، ولكن ماذا لو اصطدم برجل آخر يفوقه غضبًا - كيف سيكون الأمر في رأيك؟ ستحدث مشكلة كبيرة، أليس كذلك؟".قال جورج: "ربما يا سيدي، ولكن الحال ليست على هذا المنوال دائمًا".قال بوارو: "كيف هذا؟".قال جورج: "كانت عمتي جيميما امرأة سيئة الطباع إلى حد كبير، وكانت تتنمر على واحدة من شقيقاتها كانت تعيش معها، وكان أمرًا صادمًا أن تفعل ذلك. لقد كانت ترعبها كثيرًا، ولكن، إن مسها أحد بأذى، كان الوضع يختلف تمامًا. لم تكن تتحمل أن يؤذي أحد شقيقتها".قال بوارو: "أها، يوحي إليَّ هذا الأمر - بأن".سعل جورج بطريقة اعتذارية وقال:"هل هناك ما يمكنني فعله، لمساعدتك يا سيدي؟".قال بوارو بسرعة: "بالطبع، يمكنك أن تكتشف لون الثوب الذي ارتدته الآنسة ليلي مارجريف في تلك الليلة، ومن الخادمة التي تخدمها".تقبل جورج تلك الأوامر بثباته المعتاد، وقال:"حسنًا يا سيدي. ستصلك هذه المعلومات في الصباح".نهض بوارو من مقعده ووقف يحدق إلى النار.وغمغم قائلاً: "إنك مفيد كثيرًا بالنسبة لي يا جورج. أتعلم، لن يمكنني نسيان عمتك جيميما؟".4لم يتمكن بوارو من لقاء فيكتور أستويل تلك الليلة، فقد تلقى مكالمة هاتفية تدعوه للذهاب إلى لندن.سأل بوارو الليدي أستويل: "هل اضطلع فيكتور بأعمال زوجك الراحل؟".قالت الليدي أستويل موضحة الأمر: "إن فيكتور أحد شركائنا، وكان قد ذهب إلى إفريقيا من أجل البحث في كيفية الحصول على أحد امتيازات التعدين لصالح شركتنا، فلقد كان الأمر متعلقًا بالتعدين، أليس كذلك يا ليلي؟".قالت ليلي: "بلى".قالت الليدي أستويل: "مناجم ذهب على ما أظن، أم كانت نحاسًا أو قصديرًا؟ إنك من تعلمين هذا الأمر يا ليلي، فأنت من كان يسأل رويبين باستمرار عن مثل هذه الأمور. احترسي يا عزيزتي، ستسقطين تلك الزهرية".قالت الفتاة: "إن الجو خانق هنا بفعل نار المدفأة. هل يمكنني فتح النافذة قليلاً؟".قالت الليدي أستويل بهدوء: "كما تحبين يا عزيزتي".راقب بوارو الفتاة بينما توجهت نحو النافذة وفتحتها، ووقفت في مكانها لدقيقة أو أكثر تستنشق الهواء البارد، وعندما عادت لتجلس مكانها مرة أخرى، سألها بوارو في أدب:"هل الآنسة مهتمة بالمناجم؟".قالت الفتاة في لا مبالاة: "ليس بالضبط، كنت أستمع للسير رويبين؛ ولكني لا أفقه أي شيء عن تلك الأمور".قالت الليدي أستويل: "لقد كنت تتظاهرين بشكل رائع إذن. لقد كان رويبين المسكين يعتقد وجود دافع قوي وراء طرحك كل هذه الأسئلة".لم تبارح عينا المحقق نيران المدفأة، وظل يحدق إليها دون أن يطرف له جفن، ولكن لم تفته لمحة الغيظ التي بدت على وجه ليلي مارجريف. وبمهارة، غير مسار الحديث، وعندما حان موعد النوم، قال بوارو لمضيفته:"هل يمكنني التحدث معك قليلاً يا سيدتي؟".غادرت ليلي مارجريف الغرفة في صمت، ونظرت الليدي أستويل بتساؤل إلى المحقق.قال بوارو: "هل كنت آخر شخص رأى السير رويبين على قيد الحياة في تلك الليلة؟".أومأت الليدي أستويل برأسها بالموافقة، واغرورقت عيناها بالدموع، وبدأت تمسحهما بمنديلها على الفور.قال بوارو: "لا تبكي، أرجوك لا تبكي".قالت الليدي أستويل: "إني أحاول جاهدة يا سيد بوارو، ولكن ما باليد حيلة".قال بوارو: "أنا رجل غبي للغاية لأني جعلتك تستائين".قالت الليدي أستويل: "لا بأس. ما الذي تريد قوله؟".قال بوارو: "كانت الساعة حوالي الحادية عشرة تمامًا عندما دخلت غرفة البرج، وطلب السير رويبين من السيد تريفوسيس الرحيل، أليس كذلك؟".قالت الليدي أستويل: "أعتقد هذا".قال بوارو: "لكم من الوقت بقيت معه؟".قالت الليدي أستويل: "لقد ذهبت إلى غرفتي في حوالي الثانية عشرة إلا الربع، لقد تذكرت أني نظرت للساعة حينها".قال بوارو: "ليدي أستويل، هل يمكنك أن تخبريني بالحديث الذي دار بينك وبين زوجك؟".سقطت الليدي أستويل على الأريكة بمهارة وكان تنتحب بصوت عالٍ.وقالت: "لقد تشا - تشا - تشاجرنا".قال بوارو بصوت ناعم: "بشأن ماذا؟".قالت الليدي أستويل: "بشأن الكثير من الأمور. لقد بدأتها بـ ليلي، فلم يكن رويبين يحبها - دون سبب وجيه، كما قال إنه ضبطها تعبث بأوراقه، وكان يرغب في طردها، فقلت له إني أحب الفتاة، وأني لن أسمح بذلك، ثم بدأ يصرخ في وجهي، ولم أتحمل ذلك، لذا، فقد أخبرته برأيي فيه."لم أكن أعني ما قلت يا سيد بوارو، فلقد قال لي إنه انتشلني من الحضيض ليتزوجني، فقلت له، وما الفائدة من كل هذا الآن؟ لن أسامح نفسي أبدًا. أنت تعلم كيف تسير تلك الأمور يا سيد بوارو، فلقد كنت أقول أمورًا لطيفة تلطف الأجواء، ولكن، كيف كنت سأعلم أن هناك من سيقتله في تلك الليلة بالذات؟ عزيزي المسكين رويبين".استمع بوارو في تعاطف لكل ما قالته المرأة.قال بوارو: "لقد سببت لك الاستياء. أعتذر عن هذا. دعينا الآن نكن عمليين ودقيقين. هل ما زلت متمسكة بفكرتك عن أن السيد تريفوسيس قد قتل زوجك؟".اعتدلت الليدي أستويل في جلستها وقالت:"إن حدس المرأة يا سيد بوارو لا يكذب أبدًا".قال بوارو: "بالضبط، بالضبط. ولكن، متى فعل ذلك؟".قالت الليدي أستويل: "متى؟ بعدما تركته بالطبع".قال بوارو: "لقد تركت السير رويبين في الثانية عشرة إلا الربع، وفي الثانية عشرة إلا خمس دقائق، دخل عليه السيد ليفرسون، أتقولين إن السكرتير قد دخل غرفة السير رويبين وقتله في خلال الدقائق العشر تلك؟".قالت الليدي أستويل: "هذا أمر محتمل".قال بوارو: "هناك الكثير من الأمور المحتملة التي يمكن أن تحدث في خلال عشر دقائق، نعم، ولكن، هل هذا ما حدث بالفعل؟".قالت الليدي أستويل: "بالطبع، لقد قال إنه خلد إلى الفراش وغط سريعًا في النوم، ولكن، من يدري إن كان قد نام أم لا؟".قال بوارو مذكرًا إياها: "ولكن، لم يره أحد".قالت الليدي أستويل بنبرة منتصرة: "لقد خلد الجميع للفراش وناموا على الفور، بالطبع لم يره أحد".قال بوارو لنفسه: "إني أتساءل".ثم صمت للحظة، وقال:"حسنًا يا ليدي أستويل، تصبحين على خير".5وضع جورج صينية عليها قهوة الصباح على طاولة صغيرة بجوار فراش سيده.قال جورج: "سيدي، كانت الآنسة مارجريف ترتدي ثوبًا شفافًا أخضر اللون في الليلة المذكورة".قال بوارو: "شكرًا لك يا جورج، فلقد أمكنني الاعتماد عليك".قال جورج: "الخادمة الثالثة هي التي تخدم الآنسة مارجريف يا سيدي، واسمها جلاديس".قال بوارو: "شكرًا جزيلاً لك يا جورج، إنك لا غنى عنك".قال جورج: "لا شكر على واجب يا سيدي".قال بوارو وهو ينظر إلى خارج النافذة: "إنه صباح جميل، ويبدو أنه لم يستيقظ أحد بعد. أعتقد يا عزيزي جورج أنه يجدر بنا الذهاب إلى غرفة البرج لنجري تجربة هناك بمفردنا".قال جورج: "هل تحتاج إليَّ معك يا سيدي؟".قال بوارو: "لن تكون التجربة مؤلمة".كانت الستائر لا تزال مسدلة عندما وصلا إلى غرفة البرج، وكان جورج على وشك إزاحتها عندما منعه بوارو من ذلك.قال بوارو: "سنترك الغرفة على حالها، كل ما سنفعله هو إضاءة مصباح المكتب".أطاعه خادمه.قال بوارو: "والآن يا عزيزي جورج، اجلس على هذا المقعد، اجلس كما لو كنت تكتب شيئًا. جيد جدًّا. والآن، سأمسك بالهراوة ثم أنسل خلفك حتى أتمكن من ضربك على مؤخرة رأسك".قال جورج: "حسنًا يا سيدي".قال بوارو: "آه، ولكن، عندما أضربك على رأسك لا يجب أن تواصل الكتابة. أنت تعلم أنه لا يمكنني أن أضربك بنفس القوة التي ضرب بها القاتل السير رويبين. عندما نصل إلى تلك النقطة، علينا أن نتظاهر بأن الضربة حقيقية. أضربك على رأسك، فتسقط، وسترتخي ذراعاك ويتيبس جسدك. اسمح لي بمساعدتك، ولكن، لا، لا ترخي عضلاتك".تنهد بوارو غاضبًا.وقال: "إنك بارع في كي الملابس، ولكنك لا تملك أية مخيلة. انهض ودعني أحل محلك".جلس بوارو إلى طاولة الكتابة.وقال: "هاأنذا أكتب، منهمك في الكتابة. وتنسل أنت من خلفي، وتضربني على رأسي بالهراوة. وفجأة، ينسل القلم من بين أصابعي، وأسقط نحو الأمام، ولكن ليس للأمام كثيرًا، حيث إن المقعد منخفض، والمكتب عال، هذا إلى جانب أن ذراعيَّ يدعمان جسدي. من فضلك يا جورج، عد إلى الباب وقف هناك وأخبرني بما ترى".قال جورج: "إحم".قال بوارو مشجعًا: "نعم يا جورج".قال جورج: "أراك يا سيدي جالسًا إلى المكتب".قال بوارو: "جالسًا إلى المكتب؟".شرح له جورج ما يرى قائلاً: "من الصعب الرؤية بوضوح يا سيدي، حيث إنك تجلس بعيدًا، والضوء يلقي بظلال حادة. هل أضيء المصباح الآخر يا سيدي؟".ومد جورج يده نحو القابس.قال بوارو بحدة: "لا تفعل. إننا على ما يرام. فأنا الآن أنحني على المكتب، وأنت الآن واقف عند الباب. تقدم الآن يا جورج، تقدم، وضع يدك على كتفي".أطاعه جورج.قال بوارو: "انحنِ عليَّ قليلاً يا جورج حتى تتمكن من الوقوف منتصبًا كما كنت. بالضبط".انزلق جسد هيركيول بوارو المتيبس على الجانبين.قال بوارو: "أنا أسقط - لقد تخيلت الأمر جيدًا إذن. هناك الآن أمر على قدر كبير من الأهمية يجب فعله".قال الخادم: "وما هو يا سيدي؟".قال بوارو: "من المهم أن أتناول إفطارًا جيدًا".ضحك بوارو من قلبه على دعابته، ثم قال:"المعدة يا جورج، لا يجب تجاهلها".واصل جورج صمته، وهبط بوارو الدرج وهو يقهقه لنفسه بسعادة، فلقد كان مسرورًا بمجرى الأمور من حوله، وبعد تناول الإفطار، تعرف على جلاديس، الخادمة الثالثة، وكان مهتمًّا للغاية بما قد تخبره به عن الجريمة. كانت تشعر بالحزن تجاه تشارلز، على الرغم من أنها كانت مقتنعة بأنه المذنب.قالت جلاديس: "الشاب المسكين! إن الأمر يبدو شاقًّا، لابد أنه لم يكن في وعيه عندما وقع الحادث".قال بوارو: "هل كان على وفاق مع الآنسة مارجريف، حيث إنهما الشابان الوحيدان في المنزل؟".هزت جلاديس رأسها نفيًا.وقالت: "لقد كانت الآنسة ليلي تنفر منه دائمًا ولم تكن ترغب في الدخول في علاقة معه، وقد قالت له ذلك صراحة".قال بوارو: "هل كان يحبها؟".قالت جلاديس: "بصورة عابرة فقط، إن صح التعبير، ولا ضير من ذلك يا سيدي. والآن، أعتقد أن السيد فيكتور أستويل قد بدأ يلقي بشباكه حول الآنسة ليلي".ثم ضحكت.قال بوارو: "آه، لقد فهمت".ضحكت جلاديس مرة أخرى.وقالت: "لقد أعجب بها على الفور؛ حيث إن الآنسة ليلي زهرة جميلة، أليس كذلك يا سيدي؟ طويلة للغاية وذات شعر ذهبي طويل".قال بوارو: "يجدر بها أن ترتدي ثيابًا خضراء اللون للمساء، فهناك خيال من اللون الأخضر في - ".قالت جلاديس: "إنها تمتلك ثوبًا أخضر بالفعل يا سيدي. لا شك في أنها لا تستطيع ارتداءه الآن في الصباح، ولكنها كانت ترتديه في تلك الليلة التي مات فيها السير رويبين".قال بوارو: "يجب أن يكون لونه أخضر فاتحًا وليس داكنًا".قالت جلاديس: "إنه أخضر فاتح يا سيدي. إن انتظرت لدقيقة، سأريك إياه. لقد خرجت الآنسة ليلي للتو مع الكلاب".أومأ بوارو برأسه، فقد كان يدرك هذا الأمر مثلما أدركته جلاديس، ففي واقع الأمر، لم يبدأ بوارو البحث عن الخادمة إلا بعد أن رأى ليلي تخرج من المنزل. اختفت جلاديس مسرعة ثم عادت بعد بضع دقائق حاملة ثوب سهرة أخضر اللون معلقًا على شماعة.قال بوارو وهو يضم يديه في إعجاب: "رائع، اسمحي لي بأن أحمله لأراه في الضوء بشكل أفضل".أخذ بوارو الثوب من جلاديس، وأعطاها ظهره وأسرع نحو النافذة، وانحني فوقه، ثم فرده بطول ذراعه.قال بوارو: "إنه رائع. فاتن. شكرًا جزيلاً لك على أنك جعلتني أراه".قالت جلاديس: "لا شكر على واجب يا سيدي، إننا نعلم جميعًا أن الرجال الفرنسيين يهتمون بثياب النساء".غمغم بوارو: "إنك عطوفة للغاية".راقبها وهي تسرع مرة أخرى حاملة الثوب، ثم نظر بعد ذلك إلى يديه وابتسم، ففي يده اليمنى كان يحمل قصافة أظافر وفي يده اليسرى كان يحمل قطعة صغيرة من الثوب الأخضر كان قد اقتطعها باستخدام القصافة.غمغم بوارو: "والآن، يجب أن أكون شجاعًا".عاد بوارو إلى غرفته واستدعى خادمه جورج.قال بوارو: "على طاولة الزينة ستجد دبوس رابطة عنق ذهبيًّا".قال جورج: "نعم يا سيدي".قال بوارو: "ستجد على الحوض قنينة بها محلول حمض الكربوليك، من فضلك اغمس طرف المشبك فيه".فعل جورج كما أُمر، فقد اعتاد منذ زمن بعيد نزوات سيده الغريبة.قال جورج: "لقد فعلت مثلما أمرتني يا سيدي".قال بوارو: "رائع، والآن اقترب. هاك أصبعي، اغرس طرف المشبك فيه".قال جورج: "عذرًا يا سيدي، هل تريدني أن أجرحك؟".قال بوارو: "نعم، هذا صحيح. أريدك أن تريق بعضًا من دمائي، ولكن ليس الكثير".أمسك جورج بأصبع سيده، وأغمض بوارو عينيه وانحنى للخلف، وغرس الخادم المشبك في أصبع بوارو الذي أطلق شهقة ألم.قال بوارو: "شكرًا جزيلاً لك يا جورج، لقد أبليت حسنًا".أخرج بوارو قطعة من القماش الأخضر من جيبه ولف بها أصبعه في ألم.قال بوارو ناظرًا إلى نتيجة ما فعل: "لقد نجحت العملية نجاحًا مبهرًا. ألن تسألني عن سبب ما فعلت؟ هذا أمر مثير للإعجاب".كان الخادم قد ألقى نظرة عبر النافذة نحو الخارج.ثم قال: "اعذرني يا سيدي، هناك رجل دخل حديقة المنزل للتو في سيارة كبيرة".قال بوارو: "آه"، ثم نهض واقفًا على قدميه في نشاط واستطرد قائلاً: "السيد المراوغ فيكتور أستويل. سأهبط للطابق السفلي للتعرف عليه".قُدر لـ بوارو أن يسمع الكثير عن السيد فيكتور أستويل قبل أن يلتقيه، وسمع صوتًا عاليًا يرن في أرجاء الردهة يقول:"انتبه لما تفعل أيها الأحمق، إن هذه الحقيبة تحتوي على أشياء زجاجية. اللعنة عليك يا بارسونز، ابتعد عن طريقي. ضعها على الأرض أيها الغبي".هبط بوارو الدرج بخفة، فقد كان فيكتور أستويل رجلًا ضخم الجثة. انحنى بوارو أمامه بأدب.قال فيكتور بصوت عالٍ: "من أنت بحق السماء؟".انحنى بوارو أمامه مرة أخرى، وقال:"اسمي هيركيول بوارو".قال فيكتور أستويل: "يا إلهي، لقد أرسلت نانسي في طلبك بالفعل، أليس كذلك؟".وضع فيكتور يده على كتف بوارو ووجهه نحو المكتبة.قال فيكتور متفحصًا بوارو بدقة: "أنت إذن الرجل الذي يتحدث الجميع عنه. اعذرني على كلماتي التي سمعتها منذ قليل؛ حيث إن سائقي رجل أحمق، ودائمًا ما يثير بارسونز أعصابي، ذلك العجوز الأحمق".ثم قال بلهجة نصف اعتذارية: "لا يمكنني تحمل الحمقى، ولكنك لست رجلًا أحمق على الإطلاق، أليس كذلك يا سيد بوارو؟".ثم ضحك بجذل.قال بوارو بهدوء: "إن من اعتقدوا أني أحمق كانوا مخطئين إلى حد كبير".قال فيكتور: "هل هذا صحيح؟ حسنًا، لقد أحضرتك نانسي إلى هنا إذن - إنها لا تفكر إلا في السكرتير؛ ولكنها مخطئة في اعتقادها؛ حيث إن تريفوسيس قلبه أبيض مثل الحليب - ويشرب الحليب أيضًا على ما أظن. إن هذا الرجل يراعي صحته كثيرًا. لقد أضاعت الكثير من وقتك، أليس كذلك؟".قال بوارو بهدوء: "إن توافرت للمرء الفرصة ليراقب الطبيعة البشرية، فإنه لا يضيع وقته".قال فيكتور: "الطبيعة البشرية إذن؟".حدق إليه فيكتور أستويل، ثم ألقى بجسده على أحد المقاعد، وقال:"هل هناك ما يمكنني تقديمه لك؟".قال بوارو: "نعم، يمكنك أن تخبرني بسبب شجارك مع أخيك في تلك الليلة المشئومة".هز فيكتور أستويل رأسه وقال بحزم:"لا علاقة للأمر بالقضية".قال بوارو: "من يدري!".قال فيكتور: "إن الأمر لا يتعلق بـ تشارلز ليفرسون".قال بوارو: "إن الليدي أستويل تعتقد أن تشارلز لم يرتكب الجريمة".قال فيكتور: "أوه، نانسي".قال بوارو: "إن بارسونز يعتقد أن السيد تشارلز ليفرسون هو من دخل الغرفة في تلك الليلة، ولكنه لم يره. تذكر، لا أحد رآه".قال فيكتور: "الأمر بسيط. كان رويبين يضغط على تشارلز الصغير - دون سبب وجيه، على ما أعتقد، وبعد ذلك حاول أن يتنمر عليَّ، ولكني أخبرته ببعض الحقائق السيئة عن نفسه، من أجل مضايقته فحسب، وكنت قد اتخذت قراري بدعم الفتى الصغير، وكنت أريد رؤيته في تلك الليلة لأخبره بالمسار الجديد للأمور، فعندما عدت لغرفتي، لم أخلد للنوم، ولكني تركت الباب مواربًا وجلست على مقعد لأدخن سيجارة؛ حيث تقع غرفتي في الطابق الثاني، وتقع غرفة تشارلز بجوارها".قال بوارو: "اعذرني على مقاطعتي إياك - هل تقع غرفة السيد تريفوسيس في الطابق نفسه؟".أومأ أستويل برأسه بالموافقة.وقال: "نعم، تقع غرفته خلف غرفتي تمامًا".قال بوارو: "هل هي بالقرب من الدرج؟".قال فيكتور: "لا، بل على الجانب الآخر".أشرق وجه بوارو للحظة، ولكن الرجل الآخر لم يلحظ ذلك، وتابع حديثه قائلاً:"كما كنت أقول لك، كنت جالسًا في انتظار تشارلز، وسمعت الباب الرئيسي يُغلق، في الثانية عشرة إلا خمس دقائق كما أعتقد، ولكن لم يظهر تشارلز لعشر دقائق كاملة، وعندما صعد الدرج، وجدت أنه لا طائل من الحديث معه في تلك الليلة".ثم رفع ذراعه عاليًا.غمغم بوارو: "فهمت".قال فيكتور: "كان الشاب مترنحًا كما أنه كان يبدو فظيعًا، ولم أدرك سبب الحالة التي كان عليها في ذلك الوقت، ولكني أدركت الآن أنه كان قد ارتكب جريمة للتو".طرح بوارو سؤالاً سريعًا، حيث قال:"ألم تسمع أي صوت صادر من غرفة البرج؟".قال فيكتور: "لا، ولكنك تعلم أني كنت على الجانب الآخر من المبنى، والحوائط سميكة، ولا أعتقد أنك كنت ستسمع طلقة رصاص تنطلق هناك".أومأ بوارو برأسه.قال فيكتور: "سألته عما إذا كان بحاجة للمساعدة ليخلد للنوم، ولكنه قال إنه على ما يرام، ودخل غرفته وصفق الباب، فخلعت ملابسي وخلدت للنوم".كان بوارو يحدق إلى السجادة مطرقًا.ثم قال أخيرًا: "هل تعلم يا سيد أستويل، أن دليلك هذا على قدر كبير من الأهمية؟".قال فيكتور: "أعتقد هذا، على الأقل - ما الذي تعنيه؟".قال بوارو: "دليلك على مرور عشر دقائق ما بين سماعك الباب الرئيسي ينغلق وظهور ليفرسون في الطابق العلوي، فلقد قال بنفسه إنه دخل المنزل ثم صعد مباشرة لينام. كما يجب عليَّ أن أقر أن اتهام الليدي أستويل للسكرتير غير محتمل، ولكنه ليس مستحيلًا، ولكن، الدليل الذي قدمته لي يعتبر حجة غياب".قال فيكتور: "كيف هذا؟".قال بوارو: "قالت الليدي أستويل إنها تركت زوجها الساعة الثانية عشرة إلا الربع، بينما كان السكرتير قد ذهب للنوم في تمام الحادية عشرة، وكان الوقت الوحيد الذي يمكن للسكرتير ارتكاب الجريمة خلاله هي الفترة ما بين الثانية عشرة إلا الربع وعودة تشارلز ليفرسون، والآن، إن كنت كما تقول - جالسًا وباب غرفتك مفتوح، فلم يكن ليخرج من غرفته دون أن تراه".وافق فيكتور قائلاً: "هذا صحيح".قال بوارو: "أهناك درج آخر؟".قال فيكتور: "لا، فلكي يتمكن من الوصول لغرفة البرج، عليه أن يمر من أمام غرفتي، ولكنه لم يفعل، وأنا على يقين من هذا. وعلى أية حال، كما قلت لك يا سيد بوارو، إنه رجل وديع للغاية، أؤكد هذا".قال بوارو مطمئنًا: "نعم، نعم. لقد استوعبت الأمر"، ثم صمت للحظة وعاد يقول: "ألن تخبرني بسبب شجارك مع السير وريبين؟".احمر وجه الرجل الآخر وقال:"لن أبوح لك بشيء".نظر بوارو نحو السقف.ثم قال: "يمكنني أن أكتم السر عن الليدي".قفز فيكتور أستويل واقفًا على قدميه وقال:"اللعنة عليك، كيف أمكنك أن - ما الذي تعنيه؟".قال بوارو: "لقد كنت أفكر في الآنسة ليلي مارجريف".وقف فيكتور أستويل متحيرًا لدقيقة أو اثنتين، ثم خف غضبه وعاد ليجلس مرة أخرى.ثم قال: "إنك رجل ماهر للغاية يا سيد بوارو. نعم، لقد تشاجرنا بسبب ليلي، فلقد كان رويبين يضطهدها، فقد كان يشعر بالقلق من شيء ما بشأن الفتاة - إشارات زائفة، أو شيء من هذا القبيل، ولكني لم أصدق أيًّا منها."ثم تمادى إلى حيث لا حق له في ذلك، وتحدث عن كونها تسرق في أثناء الليل، ثم تخرج في أثناء الليل لتلتقي شخصًا ما. يا إلهي، ثم واجهته، وقلت له إن رجالًا أفضل منه حالاً قُتلوا بسبب قولهم مثل هذه الأمور، فأخرسته تلك الكلمات. كان رويبين يخشاني عندما أغضب".غمغم بوارو بأدب: "لاشك في هذا".قال فيكتور بنبرة مختلفة: "إني أفكر كثيرًا في ليلي مارجريف. إنها فتاة رائعة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ".لم يجبه بوارو، فقد كان يحدق أمامه وبدا عليه أنه مستغرق في التفكير، ثم أنهى تفكيره منتفضًا.قال بوارو: "أعتقد أنه يجدر بي الترويح عن نفسي قليلاً، هل يوجد فندق بالقرب من هنا؟".قال فيكتور: "هناك فندقان: فندق الجولف بجوار ملاعب الجولف، وفندق ميتر تاون بجوار محطة القطار".قال بوارو: "شكرًا لك. يجب عليَّ أن أروح عن نفسي قليلاً دون شك".كان فندق الجولف - كما يوحي اسمه - قريبًا من مقر النادي، وكانت الوجهة الأولى لـ بوارو - خلال فترة "الترويح" عن نفسه التي بصدد القيام بها - هي ترتيب مكان لإقامته، وكانت لذلك الرجل ضئيل الحجم طريقته في القيام بالأمور، وبعد ثلاث دقائق من دخوله فندق الجولف، كان يجلس في اجتماع مغلق مع الآنسة لونجدون، المديرة.قال بوارو: "اعذريني على إزعاجي يا آنسة، ولكني كما تعلمين محقق".لقد كان بوارو معجبًا بالأسلوب البسيط المباشر دائمًا، وفي هذه الحالة، أثبت هذا الأسلوب فعاليته على الفور.قالت الآنسة لونجدون وهي تنظر له بتشكك: "محقق!".قال بوارو مطمئنًا إياها: "لست محققًا من محققي سكوتلانديارد. ربما لاحظت ذلك بالفعل. فأنا لست إنجليزيًّا من الأساس، بل أحقق بشكل خاص في وفاة السير رويبين أستويل".حدقت إليه الآنسة لونجدون في ترقب وقالت: "أتعني الآن؟".قال بوارو وهو يبتسم: "بالتأكيد، بالنسبة لشخص يمتلك فطنتك، سأكشف لك جميع الحقائق. أعتقد يا آنسة أنك قادرة على مساعدتي. هل يمكنك أن تخبريني بشأن رجل يقيم في الفندق وتغيب عنه في ليلة مقتل السير رويبين؛ ولكنه عاد في الثانية عشرة أو الثانية عشرة والنصف؟".جحظت عينا الآنسة لونجدون.وشهقت قائلة: "أتظن أنه -؟".قال بوارو: "أن القاتل يقيم هنا؟ لا، ولكني أعتقد أن أحد نزلاء فندقك قد توجه إلى منزل مون ريبوس تلك الليلة، وإن كان هذا صحيحًا، فربما يكون قد رأى شيئًا - على الرغم من أنه قد لا يعني له شيئًا - قد يكون مهمًّا للغاية بالنسبة لي".أومأت المديرة برأسها متفهمة، وبدت على قناعة تامة بمنطق المحقق.قالت المديرة: "لقد فهمت ما تعنيه. والآن، دعني أر، من يقيم عندنا؟".قطبت المديرة حاجبيها، وبدا أنها تراجع الأسماء في ذاكرتها، وكانت تساعد ذاكرتها عبر العد على أطراف أصابعها.قالت الآنسة لونجدون: "النقيب سوان، السيد إلكينز، الرائد بليانت، السيد بنسون المسن. لا، لا أعتقد أيًّا منهم قد خرج من الفندق في تلك الليلة".قال بوارو: "وهل كنت ستلاحظين إن فعل أي منهم ذلك؟".قالت الآنسة لونجدون: "نعم يا سيدي، إنه أمر غير معتاد كما ترى. قد يخرج هؤلاء الرجال لتناول العشاء أو شيء من هذا القبيل، ولكنهم لا يخرجون بعد العشاء لأنه لا يوجد مكان ليذهبوا إليه".كان مصدر الجذب الوحيد في أبوتس كروس هو رياضة الجولف ولا شيء غيرها.وافقها بوارو قائلاً: "هذا صحيح، ولكن، لم يخرج أحد من الفندق تلك الليلة على ما تتذكرين، أليس كذلك؟".قالت الآنسة لونجدون: "لقد خرج النقيب إنجلاند وزوجته لتناول العشاء".هز بوارو رأسه نفيًا.وقال: "ليس هذا ما أعنيه. سأجرب الفندق الآخر، فندق ميتر، أليس كذلك؟".قالت الآنسة لونجدون: "نعم فندق ميتر، يمكن لأي أحد أن يخرج من هناك دون أن يلحظه أحد".بدا الاحتقار واضحًا في نبرة صوتها، على الرغم من غموضها، ثم انسحب بوارو في أدب.6بعد عشر دقائق، أعاد بوارو المشهد مرة أخرى ولكن مع الآنسة كول هذه المرة، مديرة فندق ميتر القاسية، فقد كان الفندق أقل فخامة من فندق الجولف وكانت أسعاره أقل، وكان يقع بجوار محطة القطار مباشرة.قالت الآنسة كول: "هناك رجل واحد فقط هو من غادر الفندق في تلك الليلة، وعاد في حوالي الثانية عشرة والنصف على ما أتذكر، وهو معتاد ذلك، حيث إنه يخرج للتنزه سيرًا في ذلك الوقت من المساء. لقد فعل هذا مرة أو مرتين من قبل. دعنى أتذكر، ما اسمه؟ لا يمكنني تذكره".ثم سحبت نحوها سجلًّا كبيرًا وبدأت تقلب صفحاته.قالت الآنسة كول: "تسعة عشر، عشرون، واحد وعشرون، اثنان وعشرون. آه، ها هو ذا. نايلور، النقيب هامفري نايلور".قال بوارو: "هل أقام هنا من قبل؟ هل تعرفينه جيدًا؟".قالت الآنسة كول: "مرة واحدة من قبل، منذ حوالي أسبوعين، وقد خرج في المساء أيضًا حينها، يمكنني تذكر هذا".قال بوارو: "هل حضر لممارسة رياضة الجولف؟".قالت الآنسة كول: "أعتقد هذا، فهذا هو سبب حضور الكثير من الرجال النبلاء إلى هنا".قال بوارو: "هذا صحيح. حسنًا يا آنسة. شكرًا جزيلاً لك، وأتمنى لك يومًا سعيدًا".عاد بوارو إلى منزل مون ريبوس وبدا على وجهه أنه غارق في التفكير، ولمرة أو مرتين أخرج شيئًا ما من جيبه ونظر إليه ثم أعاده مرة أخرى.غمغم بوارو لنفسه: "يجب كشف الحقيقة، وبسرعة، وبمجرد أن تتوافر لي الفرصة لذلك".كان أول شيء فعله بعد العودة للمنزل أن سأل بارسونز عن مكان الآنسة مارجريف، فأخبره بأنها موجودة في غرفة المكتب الصغيرة تتولى مراسلات الليدي أستويل، وبدا أن هذه المعلومات قد أسعدته.عثر بوارو على غرفة المكتب الصغيرة دون عناء، وكانت ليلي مارجريف تجلس على مكتب مجاور للنافذة، وكانت تكتب، ولم يكن هناك أحد آخر بالغرفة. دخل بوارو الغرفة بهدوء وأغلق الباب خلفه وتوجه نحو الفتاة.قال بوارو: "هل يمكنني أن آخذ دقيقة من وقتك يا آنسة إن سمحت؟".أزاحت ليلي مارجريف الأوراق جانبًا والتفتت نحوه.وقالت: "كيف يمكنني مساعدتك؟".قال بوارو: "في ليلة الحادث، بعدما تركتك الليدي أستويل وذهبت لزوجها، هل ذهبت إلى الفراش على الفور؟".أومأت ليلي مارجريف برأسها بالموافقة.قال بوارو: "ألم تهبطي من غرفتك لأي سبب؟".هزت الفتاة رأسها نفيًا.قال بوارو: "أعتقد أنك قلت يا آنسة إنك لم تدخلي غرفة البرج على الإطلاق تلك الليلة، أليس كذلك؟".قالت ليلي: "لا أتذكر أني قلت هذا، ولكنه صحيح، فأنا لم أذهب لغرفة البرج في تلك الليلة".رفع بوارو حاجبيه.وغمغم: "أمر غريب".قالت ليلي: "ماذا تعني؟".غمغم بوارو مرة أخرى: "أمر غريب للغاية. كيف تفسرين هذا إذن؟".أخرج من جيبه قطعة من القماش الأخضر ملطخة بالدماء، ورفعها أمام عيني الفتاة لتراها.لم يتغير التعبير على وجهها، ولكنه شعر بأن أنفاسها قد تسارعت.قالت ليلي: "لا أفهم يا سيد بوارو".قال بوارو: "أعلم أنك قد ارتديت ثوبًا أخضر اللون في تلك الليلة، وهذه القطعة منه"، وأخذ يداعب قصاصة القماش بين أصابعه.سألته الفتاة بحدة: "وهل عثرت عليها في غرفة البرج؟ أين بالضبط؟".حدق بوارو في السقف.ثم قال: "دعينا نقل الآن إني وجدتها في غرفة البرج".للمرة الأولى، ظهر الخوف على وجه الفتاة، وحاولت أن تتحدث ولكنها عزفت عن ذلك. راقب بوارو يديها الصغيرتين اللتين كانت تفركهما معًا بقوة على حافة المكتب.قالت ليلي: " أحاول تذكر ما إذا كنت قد دخلت غرفة البرج في تلك الليلة؟ أعني، قبل العشاء. لا أعتقد هذا. أنا على يقين بأني لم أفعل. إن كانت هذه القطعة من ثوبي بقيت في غرفة البرج طوال هذا الوقت، فأنا أتعجب من عدم عثور الشرطة عليها على الفور".قال بوارو: "إن الشرطة لا تفكر في الأمور التي يمكنلـ هيركيول بوارو التفكير فيها".قالت ليلي مارجريف: "ربما دخلت الغرفة لوقت قصير قبل العشاء، أو في الليلة السابقة لليلة الحادث، فقد ارتديت الثوب نفسه في تلك الليلة أيضًا. نعم، أنا على يقين من أنها الليلة السابقة لليلة الحادث".قال بوارو: "لا أعتقد هذا".قالت: "ولِمَ؟".هز بوارو رأسه يمينًا ويسارًا.همست الفتاة: "ماذا تعني؟".كانت الفتاة قد مالت للأمام وهي تحدق إليه وقد احمر وجهها بشدة.قال بوارو: "ألم تلاحظي يا آنسة أن هذه القطعة من القماش ملطخة بالدماء؟ ولا شك في أنها دماء بشرية".قالت ليلي: "أتعني -".قال بوارو: "أعني يا آنسة أنك كنت متواجدة في غرفة البرج بعد ارتكاب الجريمة، وليس قبلها، وأعتقد أنه سيكون من الأفضل أن تخبريني بالحقيقة كاملة، وإلا سيحدث ما لا يُحمد عقباه".وقف بوارو بقامته القصيرة، وأشار بأصبعه نحو الفتاة في إشارة تنم عن الاتهام.شهقت ليلي وقالت: "كيف اكتشفت الأمر؟".قال بوارو: "هذا لا يهم، فأنا أقول لك إن هيركيول بوارو يعلم الكثير، وأنا أعلم بشأن النقيب هامفري نايلور وأعلم أنك خرجت من المنزل في تلك الليلة للقائه".وفجأة، دفنت ليلي وجهها بين ذراعيها وانفجرت بالبكاء، وعلى الفور تخلى بوارو عن نبرته الاتهامية وقال مسندًا رأس الفتاة إلى كتفه:"اهدئي يا صغيرتي، ولا تستائي، فمن المستحيل خداع هيركيول بوارو، وبمجرد أن تدركي هذا لن تقعي في المشاكل أبدًا. والآن، هل ستخبرينني بالقصة بأكملها؟ هل ستخبرين بوارو العجوز؟".قالت ليلي: "ليس الأمر كما تظن، لم يلمس شقيقي هامفري شعرة من رأسه".قال بوارو: "شقيقك؟ إذن هذه هي الحقيقة. إن كنت ترغبين في إبعاد الشبهات عنه، فيجب أن تقصي عليَّ القصة كاملة ودون إخفاء أية تفاصيل".جلست ليلي مرة أخرى، وأزاحت شعرها خلف رأسها، وبدأت تتحدث بعد وهلة بصوت خافت ولكنه واضح.قالت: "سأقص عليك الحقيقة بأكملها يا سيد بوارو، فأنا أعلم الآن أنه ليس من الجيد ألا أفعل. إن اسمي الحقيقي هو ليلي نايلور، وهامفري هو شقيقي الوحيد، وعندما كان في إفريقيا منذ عدة سنوات، اكتشف منجم ذهب، أو على الأقل، اكتشف وجود ذهب. لا يمكنني أن أخبرك بهذا الجزء بالشكل الصحيح لأني لست ملمة بالتفاصيل الفنية، ولكن ما حدث كالتالي:"بدا أن المنجم ضخم للغاية، فعاد هامفري للوطن حاملاً خطابًا إلى السير رويبين أستويل على أمل أن يجعله يهتم بالأمر، أؤكد لك أني لست ملمة بكل التفاصيل، ولكني أعتقد أن السير رويبين أرسل خبيرًا إلى هناك ليعد له تقريرًا، ثم أخبر شقيقي بأن تقرير الخبير ليس في صالحه وأن شقيقي، هامفري، مخطئ. عاد شقيقي هامفري إلى إفريقيا وبدأ الحفر في المنجم، ثم اختفى، وقيل إنه مات هناك."لم يمر وقت طويل حتى ظهرت شركة مناجم ذهب مابالا. عندما عاد شقيقي إلى إنجلترا، استنتج على الفور أن مناجم الذهب هذه مطابقة لتلك التي اكتشفها، ولم يبد أن هناك علاقة بين السير رويبين أستويل وبين تلك الشركة، وبدا أن هذه الشركة قد اكتشفت مناجم الذهب بنفسها، إلا أن أخي لم يعجبه الأمر، وكان على قناعة بأن السير رويبين قد خدعه متعمدًا."بدأ يتصاعد غضبه وعدم رضاه عن الأمر؛ حيث إننا وحيدان في العالم يا سيد بوارو، ولأنه كان من الضروري أن أخرج إلى العالم من أجل الحصول على قوت يومي، أقنعت شقيقي بفكرة العمل في المنزل واكتشاف ما إذا كانت هناك علاقة بين السير رويبين وبين شركة مناجم ذهب مابالا. ولهذا، أخفيت اسمي الحقيقي وعليَّ أن أقر بأني استخدمت توصية مزيفة."كان هناك الكثير من المتقدمين للوظيفة، وكان أغلبهم يحملون مؤهلات أعلى مني، لذا - كتبت خطابًا جميلاً من دوقة بيرثشاير، والتي أعلم أنها سافرت إلى أمريكا، وظننت أن الدوقة سيكون لها تأثير كبير على الليدي أستويل، وكنت محقة، فقد عينتني في الوظيفة."ومنذ ذلك الحين، بدأت أقوم بذلك العمل الكريه، التجسس، ولم يحالفني الحظ حتى وقت قريب، فلم يكن السير رويبين ممن يبوحون بأسرار عملهم، ولكن، عندما عاد فيكتور أستويل من إفريقيا، لم يكن حريصًا في كلامه، وبدأت أصدق في نهاية المطاف أن هامفري لم يكن مخطئًا، ولقد حضر شقيقي إلى هنا قبل وقوع الجريمة بأسبوعين تقريبًا، وخرجت من المنزل خلسة لألتقيه ليلاً، وأخبرته بكل ما قاله فيكتور أستويل، وشعر بحماسة كبيرة وطمأنني على أنني في المسار الصحيح."ولكن، بعد هذا، بدأت الأمور تخرج عن مسارها الصحيح، فقد رآني شخص ما أتسلل خارج المنزل في الليل خفية وأخبر السير رويبين بالأمر، وأصبح السير رويبين متشككًا، وبدأ يتقصى عن التوصيات التي قدمتها إليهم، ولم يمر وقت طويل حتى اكتشف أنها مزيفة، وحلت الكارثة في اليوم الذي وقعت فيه الجريمة. أعتقد أنه ظن أني أسعى لسرقة مجوهرات زوجته. وأيًّا كانت شكوكه، لم يكن ينوي أن يبقيني لفترة أطول في مون ريبوس، ولكنه وافق على ألا يقدمني للمحاكمة بتهمة تزوير التوصيات. وقد وقفت الليدي أستويل إلى جانبي وواجهت السير رويبين بشجاعة".صمتت الفتاة للحظة وبدت الجدية الشديدة على وجه بوارو.ثم قال: "والآن يا آنسة، لقد وصلنا إلى ليلة الحادث".ازدردت ليلي ريقها بصعوبة وأومأت برأسها وقالت:"بادئ ذي بدء، يجب أن أخبرك بأن شقيقي قد حضر مرة أخرى، وكان عليَّ أن أتسلل إلى خارج المنزل للقائه. كنت قد صعدت لغرفتي كما أخبرتك، ولكني لم أنم، بل انتظرت حتى أوى الجميع للفراش وتسللت هابطة الدرج وخرجت من الباب الجانبي. والتقيت هامفري، وقصصت له بكلمات سريعة ما جرى، وأخبرته بأني أعتقد أن الأوراق التي يريدها موجودة في خزانة السير رويبين في غرفة البرج، واتفقنا على مغامرة يائسة أخيرة، وهي أن نحاول الحصول عليها الليلة."كان عليَّ أن أعود للمنزل أولاً وأرى إن كان الطريق خاليًا أم لا. وسمعت الساعة تدق الثانية عشرة بينما كنت أدخل من الباب الجانبي. كنت في منتصف الدرج المؤدي صعودًا إلى غرفة البرج عندما سمعت صوت شيء يسقط وصوتًا يقول: يا إلهي... وبعد دقيقة أو دقيقتين، انفتح باب غرفة البرج، وخرج منه تشارلز ليفرسون، وكنت قادرة على رؤية وجهه بوضوح في ضوء القمر، ولكني اختبأت في مكان مظلم تحت الدرج، ولم يتمكن من رؤيتي."وقف مكانه قليلاً ليمدد قدميه وبدا شكله فظيعًا، وبدا عليه أنه يتسمع، ثم بذل جهدًا ليجمع شتات نفسه، وفتح باب غرفة البرج مرة أخرى، وقال شيئًا ما عن أنه لم يقع أي ضرر، وكان صوته يحمل نبرة جذلة ومرحة، ولكن كان التعبير على وجهه مناقضًا لها تمامًا. فانتظر لدقيقة أخرى، ثم صعد الدرج نحو الطابق الأعلى وخرج من نطاق رؤيتي."بعدما اختفى، انتظرت لبضع دقائق، ثم تسللت نحو باب غرفة البرج، وكان ينتابني شعور بأن أمرًا مأساويًّا قد حدث. كان الضوء الرئيسي للغرفة مطفأ، ولكن، كان مصباح المكتب مضاءً، وعلى ضوئه، رأيت السير رويبين راقدًا على الأرض بجوار المكتب. لا أعلم كيف تمكنت من فعل ذلك، ولكني استجمعت شجاعتي في النهاية وجلست على ركبتيَّ بجواره. وأدركت على الفور أنه ميت بفعل ضربه بشيء ما على مؤخرة رأسه، وأنه لم يمت منذ وقت طويل، فقد لمست يديه وكانتا لا تزالان دافئتين. لقد كان الأمر رهيبًا يا سيد بوارو، رهيبًا".ارتعدت مرة أخرى عندما تذكرت الموقف.قال بوارو وهو ينظر إليها مطمئنًا: "وماذا حدث بعد ذلك؟".أومأت ليلي مارجريف برأسها.وقالت: "نعم يا سيد بوارو، أعلم ما تفكر فيه. لماذا لم أقرع الجرس وأوقظ كل من في المنزل؟ كان عليّ فعل ذلك، أعلم هذا، ولكن الفكرة راودتني على الفور بينما كنت جالسة بجوار جثته أن شجاري معه وتسللي إلى الخارج للقاء هامفري، وحقيقة أني كنت سأغادر المنزل في الغد، سيكون لها عواقب وخيمة. سيُقال إني سمحت لـ هامفري بالدخول، وأن هامفري هو من قتله انتقامًا منه، وإن قلت إني رأيت تشارلز ليفرسون يغادر الغرفة، لم يكن ليصدقني أحد."كان الأمر رهيبًا يا سيد بوارو، جلست هناك وظللت أفكر وأفكر، وكلما فكرت أكثر، خانتني أعصابي أكثر، ثم رأيت مفاتيح السير رويبين التي سقطت من جيبه عندما سقط على الأرض، ومن بينها رأيت مفاتيح الخزانة، وكنت أعلم كلمة السر، فقد ذكرتها الليدي أستويل ذات مرة في أثناء وجودي. توجهت نحو الخزانة يا سيد بوارو، وفتحتها وفتشت في الأوراق التي وجدتها بداخلها."وجدت في النهاية ما كنت أبحث عنه، ولقد كان هامفري محقًّا. فقد كان السير رويبين هو العقل المدبر لشركة مناجم ذهب مابالا، وكان قد خدع هامفري متعمدًا، وهذا ما زاد الطين بلة، فقد كان هذا سيمثل دافعًا قويًّا لأن يرتكب هامفري الجريمة. أعدت الأوراق مرة أخرى إلى الخزانة، وتركت المفاتيح في بابها، وصعدت على الفور إلى غرفتي. وفي صباح اليوم التالي، تظاهرت بالصدمة والرعب مثل الباقين عندما اكتشفت الخادمة الجثة".توقفت عن الحديث ونظرت إلى بوارو راجية.وقالت: "هل تصدقني يا سيد بوارو. من فضلك، قل إنك تصدقني".قال بوارو: "أصدقك يا آنسة. لقد فسرت لي الكثير من الأمور التي كانت تحيرني، مثل ثقتك التامة من أن تشارلز ليفرسون هو من ارتكب الجريمة، ومحاولتك الجاهدة لإثنائي عن الحضور إلى هنا".أومأت ليلي برأسها.وأقرت قائلة: "لقد كنت أخشاك، فلم تكن الليدي أستويل تعلم - مثلما أعلم أنا - أن تشارلز هو القاتل، ولم أجرؤ على التفوه بأي شيء. وكنت آمل بشدة أن ترفض التحقيق في القضية".قال بوارو بجفاء: "ولكن، بسبب توترك الجلي، قبلت القضية".نظرت له ليلي بسرعة وارتعشت شفتاها قليلاً، ثم قالت:"والآن يا سيد بوارو، ماذا ستفعل؟".قال بوارو: "لا شيء في الواقع. أنا أصدق قصتك، وأتقبلها، والخطوة التالية هي الذهاب إلى لندن ولقاء المحقق ميلر".سألته ليلي: "وماذا بعد؟".قال بوارو: "بعدها، سنرى".بعدما خرج من الغرفة، وقف أمام بابها ونظر مرة أخرى إلى قطعة القماش الصغيرة الملطخة بالدماء التي يمسكها في يده.وغمغم لنفسه في سعادة: "رائعة هي، عبقرية هيركيول بوارو".7لم يكن المحقق ميلر يحب هيركيول بوارو، ولم يكن من بين القلة القليلة من المحققين في سلك الشرطة الذين يرحبون بالتعاون مع المحقق البلجيكي ضئيل الحجم، بل كان معتادًا قول إن هيركيول بوارو يُطْرَى عليه أكثر مما يستحق، وفي تلك القضية، كان يبدو شديد الثقة بنفسه، وحيا بوارو بأكثر قدر ممكن من المرح نتيجة لهذا.قال ميلر: "هل تعمل لحساب الليدي أستويل؟ لن تصل إلى شيء في هذه القضية".قال بوارو: "لا يوجد شك في هذا الأمر، أليس كذلك؟".غمز له ميلر وقال: "إن القضية واضحة للغاية تقترب من كونها القبض على القاتل متلبسًا".قال بوارو: "أعتقد أن السيد ليفرسون قد أخبركم بشيء ما، أليس كذلك؟".قال ميلر: "كان من الأفضل أن يبقى صامتًا، فلقد ظل يقول مرارًا وتكرارًا إنه ذهب إلى الغرفة ولكنه لم يقترب من خاله. إنها قصة لا يمكن تصديقها".غمغم بوارو: "إنها تتعارض دون شك مع الأدلة. كيف ترى السيد ليفرسون؟".قال ميلر: "إنه شاب أحمق".قال بوارو: "هل هو ضعيف الشخصية؟".أومأ المحقق ميلر برأسه بالموافقة.قال بوارو: "لا يمكن للمرء أن يعتقد أن شابًّا مثله يمتلك الجرأة الكافية على ارتكاب مثل هذه الجريمة - كما تقولون".قال ميلر موافقًا: "ظاهريًّا لا؛ ولكني راجعت الأمر عدة مرات. أحضر شابًّا ضعيفًا وأحمق وضعه في ركن الغرفة، واجعله يشرب كثيرًا، وفي خلال دقائق يمكنك أن تجعله يأكل النار. رجل ضعيف في الركن أكثر خطورة من رجل قوي".قال بوارو: "نعم، هذا صحيح. إن ما تقوله صحيح".اضطجع ميلر في مقعده أكثر.ثم قال: "بالطبع، كل هذا صحيحًا بالنسبة لك يا سيد بوارو. إنك ستحصل على أجرك أيًّا كانت النتيجة، ومن الطبيعي أن تتظاهر بأنك تفحص الأدلة من أجل إرضاء سعادتها. يمكنني فهم كل هذه الأمور".غمغم بوارو: "إنك تفهم الكثير من الأمور المثيرة للاهتمام"، ثم نهض ورحل.بعد ذلك، اتصل بوارو بالمحامي الذي يمثل تشارلز ليفرسون؛ حيث كان السيد مايهيو رجلًا نحيفًا وجافًا وحذرًا. استقبل بوارو بتحفظ. ولكن، كانت لـ بوارو طريقته في جعل الناس يثقون به. وفي خلال عشر دقائق، كان الرجلان يتحدثان معًا كما لو كانا صديقين.قال بوارو: "أرجو أن تدرك أني أعمل على هذه القضية بمفردي نيابة عن السيد ليفرسون، نزولاً على رغبة الليدي أستويل، فهي على قناعة تامة بأنه غير مذنب".قال السيد مايهيو بفتور: "نعم، نعم، أدرك هذا".برقت عينا بوارو وقال: "أرى أنك لا تولي الكثير من الاهتمام لآراء الليدي أستويل، أليس كذلك؟".قال مايهيو بفتور: "ربما تصبح على قناعة تامة بأنه القاتل في الغد".وافقه بوارو قائلاً: "لا شك في أن حدسها لا يعد دليلاً، ولكن، في واقع الأمر، الأمور تبدو معقدة بالنسبة للشاب المسكين".قال مايهيو: "لم يكن يجدر به أن يقول للشرطة ما أخبرها به، فإن تمسكه بهذه القصة سيضره كثيرًا".سأله بوارو: "هل تحتفظ بالقصة ذاتها معك؟".أومأ مايهيو برأسه وقال: "لم تختلف مثقال ذرة. إنه يكررها كما لو كان ببغاء".قال بوارو: "وهذا ما أخل بثقتك ببراءته، ولا تنكر هذا"، قالها بسرعة وقد أمسك بيد الرجل الآخر، وتابع حديثه: "يمكنني رؤية الأمر جليًّا، ففي داخلك، أنت تعتقد أنه مذنب، ولكن اسمعني، أنا هيركيول بوارو. أنا أقدم لك قضية."يعود هذا الشاب للمنزل مترنحًا، ويدخل المنزل وهو مليء بـ...، ماذا تطلقون عليها؟ الشجاعة الهولندية، ويدخل المنزل مستخدمًا مفتاح الباب وهو في هذه الحالة، ويصعد مترنحًا الدرج نحو غرفة البرج. ينظر عبر الباب ويرى خاله في الضوء الخافت للغرفة منحنيًا على مكتبه."كان السيد ليفرسون مليئًا، كما قلنا، بالشجاعة الهولندية، ويترك لنفسه العنان، ويقول لخاله ما يظنه عنه، ويتحداه ويهينه، إلا أن خاله لم يرد عليه، ما شجعه على التمادي أكثر، ويكرر ما قاله، وأن يعيد ما قاله مرارًا وتكرارًا، ويرفع صوته في كل مرة أكثر؛ ولكن، ينبهه الصمت المتواصل لخاله لحدوث خطب ما، فيقترب منه ويضع يده على كتف خاله، ومن ثم، ينهار جسد خاله بسبب لمسته ويسقط على الأرض."حينها يفيق السيد ليفرسون، ويسقط المقعد بصوت عالٍ، فينحني على السير رويبين، ويدرك ما حدث، وينظر إلي يده التي أصبحت مغطاة بشيء دافئ أحمر اللون. حينها ينتابه الذعر، ويندم كثيرًا على تلك الصرخة التي أفلتت منه وتردد صداها في المنزل، وبشكل آلي، يعيد المقعد إلى مكانه، ويخرج من باب الغرفة مسرعًا، ويقف قليلاً ليتسمع ما إذا كان هناك من سمعه، ثم يتخيل أنه سمع صوتًا ما، فيتظاهر على الفور بأنه يتحدث إلى خاله عبر الباب المفتوح."لم يكرر ما قاله، فقد اقتنع بأنه كان مخطئًا فيما يتعلق باعتقاده أنه سمع شخصًا ما يقترب، والآن، خيم الصمت على المنزل، فيتسلل صاعدًا إلى غرفته، ومن ثم، يفكر في أنه من الأفضل ألا يقول إنه اقترب من خاله على الإطلاق في تلك الليلة، لذا، يقص قصته. أتذكر أن بارسونز في ذلك الوقت لم يكن قد قال أي شيء عما سمعه، وعندما باح بسره، كان الأوان قد فات على السيد ليفرسون ليغير قصته. أخبرني يا سيدي، أليس هذا محتملاً؟".قال المحامي: "نعم، أعتقد أنه محتمل بالطريقة التي سردتها".نهض بوارو واقفًا على قدميه.وقال: "إنك تملك القدرة على لقاء السيد ليفرسون. اعرض عليه القصة التي قصصتها عليك، واسأله إن كانت غير صحيحة".عندما خرج بوارو من مكتب المحامي، أوقف سيارة أجرة، وقال للسائق:"ثلاثة، أربعة، ثمانية شارع هارلي".8فوجئت الليدي أستويل بذهاب بوارو إلى لندن، لأنه لم يذكر لها أي شيء عما ينوي فعله هناك، وعندما عاد، بعدما غاب ليوم كامل، أخبره بارسونز بأن الليدي أستويل ترغب في رؤيته في أسرع وقت ممكن، وقد عثر بوارو على الليدي في غرفة نومها، وكان مستلقية على الأريكة، وقد وضعت الوسادات تحت رأسها، وكانت يبدو عليها الإعياء والشحوب، أكثر مما كانت عليه يوم وصول بوارو.قالت الليدي أستويل: "هل عدت يا سيد بوارو؟".قال بوارو: "لقد عدت يا سيدتي".قالت: "هل ذهبت إلى لندن؟".أومأ بوارو برأسه بالموافقة.قالت الليدي أستويل بحدة: "إنك لم تخبرني بأنك ستذهب إلى هناك".قال بوارو: "اعذريني يا سيدتي، أنا مخطئ، كان يجدر بي أن أخبرك، في المرة القادمة سوف -".قاطعته الليدي أستويل مداعبة: "ستفعل مثلما فعلت هذه المرة. إنك تفعل ما تريد ثم تخبر الناس بعد ذلك بما فعلت، إنه شعارك في الحياة".لمعت عينا بوارو وهو يقول: "أليس هذا هو مبدأك أيضًا يا سيدتي؟".أقرت الليدي أستويل قائلة: "ربما. ما الذي جعلك تذهب إلى لندن يا سيد بوارو؟ أعتقد أنه يمكنك أن تخبرني الآن، أليس كذلك؟".قال بوارو: "كان عليَّ لقاء المحقق ميلر، وكذلك السيد مايهيو".حدقت الليدي أستويل إلى وجهه.وقالت ببطء: "وهل تعتقد الآن أن -؟".حدق إليها بوارو بثبات.وقال بهدوء: "إن هناك احتمال أن يكون تشارلز ليفرسون بريئًا".قالت الليدي أستويل وقد حاولت النهوض وسقطت وسادتان من تحت رأسها على الأرض: "آه، لقد كنت محقة إذن. كنت محقة".قال بوارو: "لقد قلت إن هناك احتمالًا يا سيدتي، وهذا كل شيء".صدمتها نبرة صوته، واستندت على كوعها ورمقته بنظرة ثاقبة.وسألت: "هل يمكنني المساعدة؟".أومأ بوارو برأسه وقال: "نعم، يمكنك أن تخبريني بسبب شكوكك في أوين تريفوسيس".قالت الليدي أستويل: "لقد قلت لك إني أعلم - هذا كل شيء".قال بوارو: "للأسف، هذا ليس كافيًا. تذكري ما حدث في تلك الليلة المشئومة يا سيدتي. تذكري كل التفاصيل وكل الأمور التي حدثت حتى التافهة منها. ما الذي لاحظته على السكرتير؟ أنا، هيركيول بوارو، أقول لك إنه لابد من وجود أمر ما".هزت الليدي أستويل رأسها نفيًا.وقالت: "لم أره على الإطلاق تلك الليلة، ولم أكن أفكر فيه".قال بوارو: "كان عقلك منشغلاً بأمر آخر، أليس كذلك؟".قالت: "نعم".قال بوارو: "بعداء زوجك للآنسة ليلي مارجريف، أليس كذلك؟".قالت الليدي أستويل وهي تومئ برأسها: "هذا صحيح. يبدو أنك تعلم الكثير عن هذا الأمر يا سيد بوارو".قال بوارو متفاخرًا: "أنا أعلم كل شيء".قالت الليدي أستويل: "أنا أحب ليلي كثيرًا يا سيد بوارو، لقد رأيت هذا بنفسك، وبدأ رويبين يقيم الدنيا ولا يقعدها بسبب بعض التوصيات أو شيء من هذا القبيل. أنا لم أقل إنها لم تغشني للحصول على الوظيفة، لقد فعلت؛ ولكن، ولكني فعلت أمورًا أسوأ من هذا بكثير في شبابي. على المرء أن يمارس جميع أنواع الخدع من أجل إقناع المديرين بتعيينه، وقد كتبت وقلت وفعلت الكثير في شبابي."كانت ليلي بحاجة لهذه الوظيفة، وقد مارست الكثير من الأفعال التي لم تكن - حسنًا، كانت كما تعلم. إن الرجال لا يهتمون بمثل هذه الأمور تمامًا، فربما كانت ليلي موظفة في مصرف وسرقت الملايين من الجنيهات، طبقًا للثورة التي انتابت رويبين. لقد شعرت بالقلق طوال المساء، لأنه، على الرغم من أني كنت أتغلب عليه في النهاية، إلا أنه كان يصبح عنيدًا للغاية في بعض الأحيان، عزيزي المسكين؛ لذا، لم يتوافر لي وقت لملاحظة السكرتير، هذا إلى جانب أن المرء لا يمكنه ملاحظة السيد تريفوسيس كثيرًا، إنه دائم التواجد، وهذا كل ما في الأمر".قال بوارو: "لقد لاحظت هذا أيضًا بشأن السيد تريفوسيس؛ حيث إنه شخصيته ليست من النوع الذي يفرض نفسه أو يلمع، والذي يجبرك على ملاحظته".قالت الليدي أستويل: "لا، إنه ليس فيكتور".قال بوارو: "إن السيد فيكتور أستويل، إن سمحت لي، شخصية انفجارية".قالت الليدي أستويل: "إنه وصف جميل لتنعته به؛ حيث إنه ينفجر في أنحاء المنزل كما لو كان نوعًا من الألعاب النارية".قال بوارو: "إنه سريع الغضب، أليس كذلك؟".قالت الليدي أستويل: "إنه لا يُطاق عندما يغضب، ولكني لا أخشاه. إنه عالي الصوت ولكنه غير مؤذ".نظر بوارو نحو السقف.وقال: "لا يمكنك أن تخبريني بأي شيء قد فعله السكرتير في تلك الليلة، أليس كذلك؟".قالت الليدي أستويل: "لقد قلت لك يا سيد بوارو، أنا أعلم، إنه حدس المرأة -".قال بوارو: "ليس كافيًا لتقديم رجل إلى المحاكمة، كما أنه لن ينقذ رجلًا آخر من الإعدام شنقًا. ليدي أستويل، إن كنت واثقة من براءة السيد ليفرسون، وأن شكوكك في السكرتير صحيحة، فاسمحي لي بإجراء تجربة صغيرة، حسنًا؟".سألته الليدي أستويل في شك: "أي نوع من التجارب؟".قال بوارو: "هل تسمحين لأن تخضعي للتنويم المغناطيسي؟".قالت: "لأي غرض؟".انحنى بوارو إلى الأمام.وقال: "سأقول لك يا سيدتي إن حدسك هذا قائم على حقائق بعينها سُجلت في عقلك الباطن، وقد لا تصدقين ما أقول، بل كل ما سأقوله لك، إذ إن التجربة التي أعرضها عليك ستفيد الشاب البائس كثيرًا، تشارلز ليفرسون. هل ستقبلين؟".سألته الليدي أستويل في تشكك: "ومن سيخضعني للتنويم المغناطيسي؟ أنت؟".قال بوارو: "أحد أصدقائي يا سيدتي، سيصل، إن لم أكن مخطئًا، الآن، ويمكنني سماع صوت إطارات سيارته في الخارج".قالت: "ومن يكون؟".قال بوارو: "الطبيب كازاليت من شارع هارلي".قالت الليدي أستويل: "هل هو - لا بأس به؟".قال بوارو: "إنه ليس دجالاً يا سيدتي، إن كنت تعنين هذا، يمكنك أن تأمني على نفسك بين يديه".قالت الليدي أستويل متنهدة: "حسنًا، أعتقد أن كل هذا الأمر مجرد هراء، ولكن يمكنك أن تجري تجربتك إن رغبت في ذلك. لن أسمح لأحد بأن يقول إنني وقفت في طريقك".قال بوارو: "شكرًا جزيلاً لك يا سيدتي".أسرع بوارو إلى خارج الغرفة، ولم تمر دقائق قليلة إلا وقد عاد بوارو يقود رجلًا مبهجًا مستدير الوجه وضئيل الحجم يرتدي نظارة، أفسد تخيل الليدي أستويل عما سيكون عليه المنوم المغناطيسي، ثم قدمه لها بوارو.قالت الليدي أستويل مداعبة: "حسنًا، كيف سنبدأ هذه السخافة؟".قال الطبيب الضئيل الحجم: "الأمر بسيط أيتها الليدي أستويل، بسيط. فقط استرخي على ظهرك، هكذا - نعم، نعم، لا تقلقي".قالت الليدي أستويل: "لست قلقة على الإطلاق، فلن يمكن لأحد أن ينومني مغناطيسيًّا ضد رغبتي".ابتسم الطبيب كازاليت ابتسامة واسعة.وقال: "نعم، ولكن إن وافقت على ذلك، فلن يكون ضد رغبتك، أليس كذلك؟ هل يمكنك أن تطفئ ذلك المصباح هناك يا سيد بوارو؟ اسمحي لنفسك بالنوم يا ليدي أستويل".غيَّر الرجل من وضعه قليلاً.ثم قال: "لقد تأخر الوقت، وأنت تشعرين بالنعاس - تشعرين بالنعاس الشديد. لقد أصبح جفناك ثقيلين، إنهما ينغلقان - ينغلقان. ستغطين في النوم قريبًا...".أصبحت نبرة صوت الرجل رتيبة وخافتة ومهدئة، ثم انحنى فوق الليدي أستويل، ورفع جفنها الأيمن، ثم التفت إلى بوارو وأومأ له في رضا.وقال بصوت خافت: "لقد نامت، هل أواصل؟".قال بوارو: "من فضلك".تحدث الطبيب بصوت حاد وآمر قائلاً: "إنك نائمة يا ليدي أستويل، ولكن يمكنك أن تسمعيني، ويمكنك الإجابة عن أسئلتي".ردت الليدي أستويل التي ترقد ساكنة دون حراك على الأريكة بصوت خافت ورتيب دون حركة أو فتح عينيها، قائلة: "يمكنني سماعك والإجابة عن أسئلتك".قال الطبيب: "ليدي أستويل، أريدك أن تعودي بذاكرتك للوراء، إلى الليلة التي قُتل فيها زوجك. هل تتذكرين تلك الليلة؟".قالت الليدي أستويل: "نعم".قال الطبيب: "إنك جالسة على طاولة العشاء. أخبريني بما رأيت وشعرت".ارتجف جسد الليدي أستويل قليلاً في عدم راحة.ثم قالت: "أنا حزينة للغاية، فأنا قلقة حيال ليلي".قال الطبيب: "نعلم هذا، أخبرينا بما ترين".قالت: "إن فيكتور يأكل جميع حبوب اللوز المملحة، إنه جشع. غدًا، سأخبر بارسونز بألا يضع الطبق على جانب الطاولة".قال الطبيب: "استمري يا ليدي أستويل".قالت: "إن رويبين صعب المراس الليلة، ولا أعتقد أن الأمر برمته يدور حول ليلي. هناك أمر ما يتعلق بالعمل. ينظر له فيكتور بطريقة غريبة".قال الطبيب: "أخبرينا عن السيد تريفوسيس يا ليدي أستويل".قالت: "إن الجزء الأيسر من ياقة قميصه بالٍ، ويضع الكثير من الزيوت على شعره. أرجو ألا يفعل الرجال هذا، فإن هذا يفسد أغطية المفروشات في غرفة الاستقبال".نظر كازاليت إلى بوارو الذي أومأ له برأسه.قال الطبيب: "لقد انتهى العشاء يا ليدي أستويل، وأنت جالسة ترتشفين القهوة، صفي لي المشهد".قالت: "إن القهوة جميلة الليلة، ليس كالمعتاد، إن كوك لا يمكن الاعتماد عليها فيما يتعلق بإعداد القهوة؛ ولكن ليلي تواصل النظر عبر النافذة ولا أعلم السبب. والآن، دخل رويبين الغرفة، ومزاجه متعكر للغاية الليلة، حيث بدا غاضبًا وأطلق سيلاً من الشتائم على السيد تريفوسيس المسكين، ولقد أمسك السيد تريفوسيس بفتاحة الخطابات، تلك الكبيرة ذات النصل الحاد كالسكين. إنه يمسك بها بقوة كبيرة، لقد أصبحت أصابعه بيضاء. لقد ضرب بها الطاولة بقوة لدرجة أن سنها قد انحنى. إنه يمسك بها كما لو كان يحمل خنجرًا سيطعن به شخصًا ما. لقد غادرا معًا الآن. كانت ليلي ترتدي ثوب السهرة الأخضر، إنها تبدو فائقة الجمال في اللون الأخضر. يجب أن أنظف المفروشات هذا الأسبوع".قال الطبيب: "لحظة واحدة يا ليدي أستويل".انحنى الطبيب ناحية بوارو.وقال: "أعتقد أننا حصلنا على مرادنا، فما فعله بفتاحة الخطابات، هذا ما أقنعها بأنه من ارتكب الجريمة".قال بوارو: "دعنا ننتقل لما حدث في غرفة البرج".أومأ الطبيب برأسه وبدأ يطرح الأسئلة مرة أخرى على الليدي أستويل بصوته العالي الحازم.قال: "إنك الآن في وقت لاحق من تلك الليلة، إنك في غرفة البرج مع زوجك. وقد تشاجرتما، أليس كذلك؟".مرة أخرى اهتز جسدها في عدم راحة.وقالت: "نعم، شجار عنيف - عنيف. لقد قلنا الكثير من الأشياء السيئة - كلانا".قال الطبيب: "لا عليك من هذا الأمر الآن. يمكنك أن تري الغرفة بوضوح؛ حيث كانت الستائر مسدلة والأنوار مضاءة".قالت: "ليس المصباح الرئيسي، فقط مصباح المكتب".قال الطبيب: "إنك تغادرين الغرفة الآن، وتتمنين ليلة سعيدة لزوجك".قالت: "لا، لم أفعل، أنا غاضبة للغاية".قال الطبيب: "إنها المرة الأخيرة التي سترينه فيها، فسوف يُقتل في القريب. هل تعلمين من قتله يا ليدي أستويل؟".قالت: "نعم، السيد تريفوسيس".قال الطبيب: "ولِمَ تقولين هذا؟".قالت: "بسبب البروز - البروز في الستارة".قال الطبيب: "هل كان هناك بروز في الستارة؟".قالت: "نعم".قال الطبيب: "هل رأيته؟".قالت: "نعم، لقد لمسته بالكاد".قال: "هل كان هناك رجل يختبئ خلف الستارة - السيد تريفوسيس؟".قالت: "نعم".قال: "وكيف علمت هذا؟".للمرة الأولى تردد صوتها الرتيب وفقد نبرته الواثقة.قالت: "أنا، أنا، بسبب فتاحة الخطابات".تبادل بوارو والطبيب نظرة سريعة.ثم قال الطبيب: "لا يمكنني أن أفهمك يا ليدي أستويل. إنك تقولين إنه كان هناك بروز في الستارة، أليس كذلك؟ وكان هناك شخص يختبئ خلفها؟ ألم تري هذا الشخص؟".قالت: "لا".قال: "هل تعتقدين أنه السيد تريفوسيس بسبب الطريقة التي حمل بها فتاحة الخطابات في وقت سابق؟".قالت: "نعم".قال: "ولكن السيد تريفوسيس كان قد ذهب لغرفته، أليس كذلك؟".قالت: "نعم، هذا صحيح، لقد غادر إلى غرفته".قال: "لا يمكنه إذن أن يكون مختبئًا خلف الستارة، أليس كذلك؟".قالت: "لا، لا، بالطبع، إنه لم يكن هناك".قال: "لقد تمنى لك ولزوجك ليلة سعيدة، ثم غادر قبل وقت طويل، أليس كذلك؟".قالت: "بلى".قال: "ولم تريه مرة أخرى، أليس كذلك؟".قالت: "نعم".كانت الليدي أستويل ترتجف الآن، وكانت تتقلب يمنة ويسرة وتتأوه بخفوت.قال الطبيب: "إنها تستيقظ. حسنًا، أعتقد أننا حصلنا على مرادنا، أليس كذلك؟".أومأ بوارو برأسه، وانحنى الطبيب على الليدي أستويل.ثم قال: "إنك تستيقظين الآن. إنك تستيقظين الآن. بعد دقيقة من الآن، ستفتحين عينيك".انتظر الرجلان حتى جلست الليدي أستويل لتحدق إليهما.وقالت: "هل نمت في قيلولة؟".قال الطبيب: "لقد انتيهنا يا ليدي أستويل، لقد نمت قليلاً".نظرت له.ثم قالت: "هل أتممت خزعبلاتك؟".سألها الطبيب: "أرجو ألا تكوني تشعرين بأنك في حال سيئة".تثاءبت الليدي أستويل.ثم قالت: "أشعر بأني متعبة ومرهقة".نهض الطبيب واقفًا على قدميه.ثم قال: "سأطلب من الخدم أن يحضروا بعضًا من القهوة، وسنتركك ترتاحين".نادت عليهما الليدي أستويل عندما وصلا إلى باب الغرفة: "هل قلت أي شيء؟".ابتسم لها بوارو وقال: "ليس شيئًا مهمًّا يا سيدتي، فلقد أخبرتنا بأن مفروشات غرفة الاستقبال يجب أن تُنظف".قالت الليدي أستويل: "بالفعل. لم تكن بحاجة لأن تخضعني للتنويم المغناطيسي لأخبرك بهذا". ثم ضحكت ضحكة صافية وقالت: "هل قلت أي شيء آخر؟".قال بوارو: "هل تذكرين إمساك السيد تريفوسيس فتاحة الخطابات بينما كان في غرفة الاستقبال في الليلة المشؤمة؟".قالت: "لا أدري، أنا على يقين من هذا. ربما فعل".قال بوارو: "هل يعني لك البروز في الستائر أي شيء؟".قطبت الليدي أستويل حاجبيها مفكرة.ثم قالت: "يبدو أنني أتذكر شيئًا من هذا القبيل. لا، لا يمكنني التذكر، ولكن -".قال بوارو: "لا ترهقي نفسك يا ليدي أستويل. إن الأمر ليس مهمًّا".ذهب الطبيب مع بوارو إلى غرفة الأخير.وقال كازاليت: "حسنًا، أعتقد أن ما حدث يفسر الكثير بوضوح تام، فلا شك في أنه عندما كان السير رويبين يهين السكرتير، أمسك الأخير فتاحة الخطابات بقوة، وبذل قصارى جهده ليتحكم في أعصابه حتى لا يرد عليه بالمثل، وقد كان عقل الليدي أستويل الواعي منشغلًا تمامًا بمشكلة ليلي مارجريف، إلا أن عقلها الباطن لاحظ ما فعله الرجل وأساء فهمه."غرس هذا في عقلها فكرة أن تريفوسيس هو من قتل السير رويبين. والآن، دعنا نتحدث عن البروز في الستائر. إنه أمر مثير للاهتمام، فلقد أخبرتني عن غرفة البرج بأن المكتب يقع بجوار النافذة مباشرة، ولاشك في أن هناك ستائر تغطي هذه النافذة، أليس كذلك؟".قال بوارو: "نعم يا صديقي، ستائر مخملية سوداء".قال كازاليت: "وهل هناك مساحة خلف هذه الستائر تكفي لأن يختبئ شخص ما خلفها ويظل هناك؟".قال بوارو: "أعتقد هذا".قال الطبيب ببطء: "إذن هناك احتمال أنه كان هناك شخص يختبئ في الغرفة، ولكنه ليس السكرتير، حيث رآه الاثنان يغادر الغرفة، ولا يمكن أن يكون فيكتور أستويل، فقد التقاه تريفوسيس وهو يغادر الغرفة أيضًا، ولا يمكن أن يكون هو ليلي مارجريف. أيًّا كان هذا الشخص، لابد من أنه قد اختبأ داخل الغرفة قبل أن يدخلها السير رويبين. لقد أخبرتني بالكثير من الحقائق. والآن، ماذا عن النقيب نايلور؟".أقر بوارو قائلاً: "كل شيء ممكن. لا شك في أنه قد تناول طعامه في الفندق، ولكن من الصعب تحديد متى غادر الفندق، ولكنه عاد في الثانية عشرة والنصف".قال الطبيب: "ربما كان هو من اختبأ خلف الستائر، وإن كان الأمر كذلك، فسيكون هو القاتل؛ حيث إن لديه الدافع وكان السلاح في متناول يديه. لا يبدو أن هذه الفكرة تعجبك، أليس كذلك؟".أقر بوارو قائلاً: "لديَّ فكرة أخرى. أخبرني الآن يا سيدي الطبيب، إذا افترضنا أن الليدي أستويل نفسها هي من ارتكب الجريمة، هل سيمكنها إنكار هذه الحقيقة خلال التنويم المغناطيسي؟".أطلق الطبيب صفيرًا.ثم قال: "هذا ما تفكر فيه إذن؟ أن الليدي أستويل هي القاتلة؟ بالطبع، هذا أمر محتمل، ولكني لم أفكر فيه على الإطلاق حتى هذه اللحظة. لقد كانت آخر من تواجد معه، ولم يره أحد حيًّا بعد ذلك، أما بالنسبة لسؤالك، فسيكون عليَّ أن أقول - لا. قد تدخل الليدي أستويل في حالة التنويم المغناطيسي بتحفظ فكري كبير حيال ما قد تقوله عن دورها في الجريمة، وقد تجيب عن أسئلتي بكل صدق، ولكنها ستصمت تمامًا عند ذكر هذه النقطة؛ ولكني لم أتوقع أن تصر بهذه القوة على أن السيد تريفوسيس مذنب".قال بوارو: "لقد فهمت؛ ولكني لم أقل إني أعتقد أن الليدي أستويل هي القاتلة، فقد كان هذا مجرد فكرة".قال الطبيب بعد التفكير لبعض الوقت: "إنها قضية مثيرة. فمع فرض أن تشارلز ليفرسون بريء، ستكون أمامنا الكثير من الاحتمالات: هامفري نايلور والليدي أستويل وحتى ليلي مارجريف".قال بوارو بهدوء: "هناك شخص آخر لم تذكره. فيكتور أستويل، فطبقًا لروايته، ظل جالسًا في غرفته وبابها مفتوح منتظرًا عودة تشارلز ليفرسون، ولكن لا شيء يدعم ما قاله إلا كلماته، أليس كذلك؟".سأله الطبيب: "أليس هو الرجل سريع الغضب؟ الرجل الذي أخبرتني به؟".قال بوارو: "نعم".نهض الطبيب واقفًا على قدميه.وقال: "عليَّ العودة إلى المدينة، وستخبرني بآخر التطورات، أليس كذلك؟".بعدما غادر الطبيب، قرع بوارو الجرس مستدعيًا جورج.وقال له: "أريد كوبًا من شاي الأعشاب يا جورج؛ حيث إن أعصابي مضطربة".قال جورج: "على الفور يا سيدي. سأعده لك على الفور".بعد عشر دقائق، أحضر جورج كوبًا يتصاعد منه البخار إلى سيده، واستنشق بوارو البخار المتصاعد في استمتاع، وبينما كان يرتشف الشاي، حدث نفسه قائلاً:"إن عملية الصيد تختلف من مكان لآخر في جميع أنحاء العالم، فلكي تقتنص الثعلب، عليك أن تعدو بكامل سرعة جوادك مع الكلاب، وتبدأ بالصراخ والعدو، إن الأمر يعتمد على السرعة. لم أطلق النار على ظبي بنفسي من قبل، ولكني أعلم أنه يجب أن تزحف على بطنك لساعات طوال. لقد أخبرني صديقي هاستينج بهذا. لن نتبع يا عزيزي جورج أيًّا من هاتين الطريقتين في حالتنا هذه. دعنا نفكر في القط المنزلي، والذي يظل يراقب لوقت طويل الفتحة التي يخرج منها الفأر دون أن يتحرك، أو يفقد كل طاقته، ولكنه لا ييأس".تنهد بوارو ووضع الكوب الفارغ على طبقه.ثم قال: "كنت قد أخبرتك بأن تعد ما يلزمنا لبضعة أيام، ولكن، ستعود في الغد يا جورج إلى لندن وتحضر ما يكفينا لأسبوعين".قال جورج دون أن تبدو على وجهه أية تعبيرات، كعادته: "حسنًا يا سيدي".9كان تواجد هيركيول بوارو الدائم في منزل مون ريبوس مقلقًا للكثير من سكان المنزل، وقد تحدث فيكتور أستويل مع زوجة أخيه حيال هذا الأمر.قال فيكتور: "حسنًا يا نانسي. إنك لا تعلمين كيف يكون الرجال الذين هم على شاكلته، فلقد وجد المنزل هنا مريحًا ومبهجًا، ويبدو أنه سيظل مستقرًّا هنا لشهر مكلفًا إياك عدة جنيهات يوميًّا".جاء رد الليدي أستويل عليه أنها قادرة على إدارة شئونها دون تدخل من أحد.حاولت ليلي مارجريف جاهدة أن تخفي قلقها، وفي لحظة ما، كانت قد بدأت تثق بأن بوارو قد صدق قصتها، ولكنها لم تعد واثقة الآن.لم يظل بوارو ساكنًا بشكل كامل، ففي اليوم الخامس من إقامته في المنزل، أحضر معه على العشاء سجلًّا لبصمات الأصابع. كانت هذه الطريقة كأنها أداة لأخذ بصمات كل من في المنزل، كان يبدو كأداة غبية، ولكنها لم تكن غبية للغاية كما تبدو، حيث إن أحدًا منهم يمكنه أن يرفض إعطاءه بصمات أصابعه. وبعدما ذهب بوارو لغرفته، عبر فيكتور أستويل عما يعتمل في صدره.قال: "أترين ما يعنيه هذا يا نانسي، إنه يشك في أحدنا".قالت ليدي أستويل: "لا تكن مبالغًا يا فيكتور".قال فيكتور: "ما الذي يعنيه ذلك السجل الذي يحمله إذن؟".قالت الليدي أستويل برضا وهي تنظر إلى أوين تريفوسيس بنظرة ذات مغزى: "السيد بوارو يعلم ما يفعله".في مرة أخرى، أخذ بوارو آثار أقدام القاطنين في المنزل على ورقة، ودخل غرفة المكتبة بخطواته الخفيفة التي تشبه خطوات القط، وأفزع أوين تريفوسيس، الذي هب من مقعده كما لو أنه تلقى طلقة رصاص.قال تريفوسيس بحدة: "اعذرني يا سيد بوارو، ولكنك تقلقنا كثيرًا".سأله بوارو ببراءة: "وكيف هذا؟".قال السكرتير: "سأقر لك بأني كنت أعتقد أن الأدلة ضد تشارلز ليفرسون دامغة، ولكن يبدو أنك لا ترى هذا".كان بوارو واقفًا ينظر للخارج عبر النافذة، ولكنه التفت بحدة نحو الرجل الآخر.وقال: "سأخبرك بأمر ما يا سيد تريفوسيس - سر".قال تريفوسيس: "وما هو؟".لم يبد على بوارو أنه متحمس لبدء الحديث، لذا، فقد صمت قليلاً وبدا عليه التردد، ولكنه عندما بدأ الحديث، كانت كلماته متوافقة مع فتح الباب الرئيسي للمنزل وغلقه، وبالنسبة لرجل يفشي سرًّا، كان يتحدث بصوت عالٍ غطى على صوت خطوات الأقدام التي كانت تتحرك في الرواق في الخارج.قال بوارو: "سأقول كل السر يا سيد تريفوسيس. هناك دليل جديد، وهو أنه عندما دخل تشارلز ليفرسون غرفة البرج في تلك الليلة، كان السير رويبين ميتًا بالفعل".حدق إليه السكرتير في دهشة.ثم قال: "وما هذا الدليل؟".قال بوارو بغموض: "ستسمع بنفسك، ولكن في الوقت ذاته يجب أن يبقى هذا الأمر سرًّا بيني وبينك".خرج بوارو بخفة من الغرفة، وكاد أن يصطدم بـ فيكتور أستويل في الرواق.قال بوارو: "هل وصلت للتو يا سيدي؟".أومأ أستويل برأسه.وقال وهو يتنفس بصعوبة: "إن الجو رهيب في الخارج، بارد وعاصف".قال بوارو: "آه، لا يجب أن أخرج للترويح عن نفسي اليوم، فأنا مثل القط، لذا سأبقى بجوار المدفأة وأحافظ على دفئي".قال بوارو لخادمه المخلص في تلك الليلة وهو يفرك كفيه أثناء تحدثه: "لقد نجحت الخطة يا جورج، لقد أصبحوا متوترين. من الصعب يا جورج أن تلعب لعبة القط والفأر، لعبة الانتظار، ولكنها تنجح، تنجح نجاحًا مبهرًا. سنترك لديهم تأثيرًا جديدًا في الغد".في اليوم التالي، كان على تريفوسيس أن يذهب إلى المدينة، واستقل القطار نفسه الذي استقله فيكتور أستويل، وبمجرد أن خرجا من المنزل، بدأ بوارو العمل.قال بوارو: "تعال يا جورج، دعنا نبدأ العمل. إن اقتربت الخادمة من أي من هذه الغرف، فعليك أن تعطلها. حاول أن تغازلها يا جورج ولا تجعلها تغادر الرواق".دخل بوارو أولاً غرفة السكرتير، وبدأ يفتش فيها بدقة، ولم يترك درجًا أو رفًّا دون فحصه، ثم أعاد كل شيء إلى مكانه بسرعة وأعلن أن مهمته قد انتهت. أطلق جورج - الذي كان واقفًا على عتبة الباب مراقبًا - سعالاً ينم عن الاحترام.وقال: "إن سمحت لي ياسيدي؟".قال بوارو: "ما الأمر يا عزيزي جورج؟".قال جورج: "الأحذية يا سيدي. إن زوج الأحذية البنية كانا على الرف الثاني، والحذاءين الجلديين الآخرين كانا على الرف السفلي، وقد استبدلتهما عندما كنت تعيدهما إلى مكانهما".صاح بوارو وهو يمسك بيده: "رائع، ولكن، دعنا لا نفكر في هذا الأمر كثيرًا. إنه أمر غير مهم، أؤكد لك هذا؛ حيث إن السيد تريفوسيس لن يلاحظ مثل هذه الأمور التافهة".قال جورج: "كما ترى يا سيدي".قال بوارو مشجعًا وهو يربت كتف جورج: "إن ملاحظتك مثل هذه الأمور قد رفعت من قدرك كثيرًا بالنسبة لي".لم يجبه الخادم، وكررا الأمر ذاته في غرفة فيكتور أستويل، ولم يعلق جورج على أن بوارو ترك الأغطية التحتية لفراش السيد أستويل إلى مكانها بالشكل الذي كانت عليه بالضبط، طبقًا لما خططا له؛ ولكن، في الحالة الثانية، أثبتت الأحداث أن الخادم على حق وأن بوارو كان مخطئًا، فقد دخل فيكتور أستويل غاضبًا إلى غرفة الاستقبال في تلك الليلة.قال فيكتور: "اسمعني أيها البلجيكي القصير الأحمق. ماذا تعني بتفتيش غرفتي؟ ما الذي كنت تعتقد أنك ستعثر عليه فيها؟ ليس لديَّ ما تبحث عنه، هل سمعت؟ هذا هو ما سينتابنا من وجود هذا الجاسوس الجبان في المنزل".بسط بوارو يديه في جذل بينما كانت كلمات فيكتور تتلعثم، وبدأ يعتذر له، ويقول إنه كان أحمق وفضوليُّا ومرتبكًا، وأنه تصرف بناءً على حرية لم يكن يملكها، وفي النهاية، اضطر الرجل الغاضب إلى الانسحاب على الرغم من أنه كان لا يزال يصرخ بصوت عالٍ.ومرة أخرى في تلك الليلة، قال بوارو لخادمه جورج وهو يرتشف شاي الأعشاب: "إن الخطة تنجح يا عزيزي جورج، نعم، إنها تنجح".10قال هيركيول بوارو مطرقًا: "الجمعة، هو يوم حظي".قال جورج: "بالفعل يا سيدي".قال بوارو: "إنك لا تؤمن بهذا، أليس كذلك يا جورج؟".قال جورج: "أفضل ألا يجلس 13 شخصًا على طاولة واحدة يا سيدي، وأعزف عن المرور تحت الدرج، ولكن لا توجد لديَّ أية خرافات تتعلق بيوم الجمعة".قال بوارو: "جيد، لأننا سنقوم بهجومنا اليوم".قال جورج: "حسنًا يا سيدي".قال بوارو: "إنك متحمس يا عزيزي جورج، ولكنك لم تسألني عما سنفعل".قال جورج: "وماذا سنفعل يا سيدي؟".قال بوارو: "اليوم، يا جورج، سأجري تفتيشي الأخير الدقيق لغرفة البرج".وبالفعل، بعد تناول طعام الإفطار، صعد بوارو، بعد الحصول على إذن الليدي أستويل، إلى غرفة البرج، مسرح الجريمة، وهناك، ولعدة مرات خلال فترة الصباح، رآه القاطنون في المنزل يزحف في جميع أركان الغرفة فاحصًا الستائر المخملية السوداء بدقة، ويقف على المقاعد العالية متفحصًا أطر اللوحات المعلقة على الحائط، وللمرة الأولى، عبرت الليدي أستويل عن عدم راحتها.قالت: "أقر أنه قد بدأ يثير أعصابي أخيرًا؛ حيث إنه يدبر لأمر ما ولكني لا أعلمه. كما أن الطريقة التي يزحف بها في الطابق العلوي مثل الكلب تصيبني بالقشعريرة. ما الذي يبحث عنه، أريد أن أعرف؟ عزيزتي ليلي، أريدك أن تصعدي لتعرفي ما يرمي إليه، ولكن، أفضل أن تبقي معي".سألها السكرتير وهو ينهض من مقعده: "هل أذهب أنا يا ليدي أستويل؟".قالت الليدي أستويل: "إن رغبت في هذا يا سيد تريفوسيس".غادر أوين تريفوسيس الغرفة وصعد الدرج متجهًا إلى غرفة البرج، وللوهلة الأولى، ظن أن الغرفة خالية، فلم يكن قادرًا على رؤية هيركيول بوارو بها، وكان على وشك العودة إلى الطابق السفلي مرة أخرى عندما سمع صوتًا، ورأى بوارو يهبط الدرج الذي يؤدي إلى غرفة النوم في الطابق العلوي.كان يزحف على يديه وقدميه ممسكًا في يده اليسرى عدسة مكبرة يفحص بها شيئًا ما على الخشب المجاور لسجادة الدرج.ظل السكرتير يراقبه، فأطلق صيحة مفاجئة، ووضع العدسة في جيبه، ثم نهض واقفًا على قدميه ممسكًا بشيء ما بين سبابته وإبهامه، وفي تلك اللحظة، انتبه لوجود السكرتير.قال بوارو: "سيد تريفوسيس، لم أسمعك تدخل".كان بوارو في تلك اللحظة رجلًا مختلفًا، فقد كانت تُسمع في صوته نبرة الانتصار والابتهاج، فحدق إليه تريفوسيس في دهشة.قال تريفوسيس: "ما الأمر يا سيد بوارو؟ إنك تبدو سعيدًا للغاية".نفخ بوارو صدره في زهو.ثم قال: "نعم، بالطبع، فقد عثرت على ما كنت أبحث عنه منذ البداية. إنه هنا بين سبابتي وإبهامي، الشيء الوحيد الذي سيدين المجرم".عندها، رفع السكرتير حاجبيه وقال: "إنه ليس تشارلز ليفرسون إذن، أليس كذلك؟".قال بوارو: "إنه ليس تشارلز ليفرسون، ولكن في هذه اللحظة، أعتقد أني عرفت القاتل، قد لا أكون واثقًا من اسمه، ولكن اتضحت جميع الحقائق أخيرًا".هبط بوارو الدرج وربت على كتف السكرتير.وقال: "عليَّ أن أذهب إلى لندن في الحال. أخبر الليدي أستويل بذلك نيابة عني. هل تخبرها بأنه يجب أن يتواجد الجميع في غرفة البرج في التاسعة تمامًا الليلة؟ سأحضر حينها وسأكشف الحقيقة. نعم، أنا سعيد للغاية".وبعد أن انطلق يرقص رقصة قصيرة، خرج من غرفة البرج، في حين ظل تريفوسيس واقفًا يحدق إليه.بعد بضع دقائق، ظهر بوارو في غرفة المكتبة، وسأل إن كان يمكن لأحد أن يعطيه صندوقًا كرتونيًّا صغيرًا.وقال: "للأسف، لا يوجد معي مثل هذا الصندوق، وهناك شيء ذو قيمة كبيرة بالنسبة لي أريد وضعه فيه".ومن أحد أدراج مكتبه، أخرج تريفوسيس صندوقًا صغيرًا، وبدا على بوارو أنه سعد كثيرًا به.أسرع بوارو صاعدًا الدرج حاملاً كنزه الثمين، والتقىبـ جورج عند الطابق العلوي وأعطاه الصندوق.قال بوارو: "هناك شيء على قدر كبير من الأهمية داخل الصندوق، ضعه يا عزيزي جورج في الدرج الثاني من طاولة الزينة بجوار علبة المجوهرات التي تحتوي على أزراري الألماسية".قال جورج: "حسنًا يا سيدي".قال بوارو: "لا تكسره، وكن حذرًا للغاية، ففي داخل هذا الصندوق ما سيؤدي بالمجرم إلى حبل المشنقة".قال جورج: "لا تقلق يا سيدي".أسرع بوارو إلى الطابق السفلي وأخذ قبعته، وغادر المنزل بسرعة كبيرة.11كانت عودته أقل صخبًا من مغادرته، فقد فتح له خادمه المخلص جورج الباب الجانبي للمنزل، طبقًا لتعليماته.سأله بوارو: "هل اجتمعوا جميعًا في غرفة البرج؟".قال جورج: "نعم يا سيدي".قال بوارو لـ جورج بضع كلمات بصوت هامس، ثم صعد الدرج بخطواته المنتصرة الواثقة متجهًا نحو الغرفة التي وقعت فيها جريمة القتل منذ أقل من شهر، ومسحت عيناه الغرفة، وكانوا جميعًا متواجدين: الليدي أستويل، فيكتور أستويل، ليلي مارجريف، السكرتير، وبارسونز، رئيس الخدم. وكان الأخير واقفًا بجوار الباب في توتر.قال بارسونز لـ بوارو بمجرد رؤيته: "قال لي جورج إنك بحاجة لوجودي هنا يا سيدي. هل هذا صحيح؟".قال بوارو: "هذا صحيح، ابق معنا من فضلك".ثم توجه بوارو نحو منتصف الغرفة.وقال ببطء وبصوت عميق: "لقد كانت هذه القضية مثيرة للغاية. إنها مثيرة للفضول لأن أي شخص كان بمقدوره قتل السير رويبين. من سيرث أمواله؟ تشارلز ليفرسون والليدي أستويل. من كان آخر من رآه حيًّا في تلك الليلة؟ الليدي أستويل. من تعارك معه؟ مرة أخرى الليدي أستويل".صاحت الليدي أستويل: "ماذا تقول؟ لا يمكنني أن أفهم -".قال بوارو بصوت عميق: "ولكن هناك شخصًا آخر تشاجر مع السير رويبين، شخصًا آخر تركه تلك الليلة وقد أعماه الغضب، بفرض أن الليدي أستويل تركت زوجها حيًّا في الساعة الثانية عشرة إلا الربع ليلاً، وبالتالي، ستكون هناك عشر دقائق قبل عودة السيد تشارلز ليفرسون، ولن تكفي تلك الدقائق العشر لأي شخص من الطابق الثاني أن يهبط لارتكاب الجريمة ثم يعود لغرفته مرة أخرى".نهض فيكتور أستويل وهو يصيح: " ما الذي تعنيه -؟"، ثم صمت وهو يرتجف من فرط غضبه.قال بوارو: "خلال واحدة من نوبات غضبك تلك يا سيد أستويل، قتلت رجلاً في غرب إفريقيا".صاحت ليلي مارجريف: "لا أصدق هذا".نهضت الفتاة ضامة ذراعيها وقد احمر وجهها بشدة.وكررت ما قالته مرة أخرى: "لا أصدق هذا"، ثم اقتربت من فيكتور أستويل.قال أستويل: "هذا صحيح يا ليلي، ولكن هذا الرجل لا يعلم كل شيء، فلقد كان الرجل الذي قتلته دجالاً قتل خمسة عشر طفلاً، وقد ظننت حينها أنني أقيم العدل".توجهت ليلي نحو بوارو.وقالت بصدق: "سيد بوارو، إنك مخطئ، فلا يعني أن الرجل سريع الغضب، ولا يعني كونه يندفع ويقول الكثير من الأشياء المهينة بالضرورة أنه قاتل. أنا أعلم - أعلم أن السيد أستويل غير قادر على ارتكاب مثل هذا الفعل".نظر لها بوارو وابتسم ابتسامة غريبة للغاية، ثم أمسك بيدها وربت عليها.ثم قال بلطف: "أرأيت يا آنسة، أنت أيضًا تتبعين حدسك؟ إنك تؤمنين ببراءة السيد أستويل، أليس كذلك؟".قالت ليلي بهدوء: "السيد أستويل رجل طيب ونزيه، ولم يكن على دراية بما حدث في شركة مناجم ذهب مابالا. إنه نزيه بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ - لقد وعدته بأنني سأتزوجه".وقف فيكتور أستويل بجوارها وأمسك بيدها الأخرى.ثم قال: "أنا لم أقتل شقيقي يا سيد بوارو".قال بوارو: "أعلم أنك لم تفعل".ثم دارت عيناه في الغرفة.ثم قال: "اسمعوني يا أصدقائي. خلال جلسة التنويم المغناطيسي، ذكرت الليدي أستويل أنها رأت بروزًا في ستائر غرفة البرج في تلك الليلة".اتجهت أنظار الجميع نحو الستائر.وسأله فيكتور أستويل: "هل تعني أنه كان هناك لص يختبئ خلف الستائر؟ يا له من حل رائع!".قال بوارو بهدوء: "آه، ولكن ليست هذه الستائر".دار بوارو في أرجاء الغرفة ثم أشار نحو الستائر التي تخفي الدرج الصغير.قال بوارو: "استخدم السير رويبين تلك الغرفة في الليلة السابقة لمقتله، وتناول بها الإفطار واستدعى السيد تريفوسيس إليها ليعطيه توجيهاته، ولم أكن أعلم ما تركه السيد تريفوسيس في الغرفة، ولكن كان هناك شيء ما، فعندما تمنى ليلة سعيدة للسير وريبين والليدي أستويل، تذكر هذا الشيء وصعد الدرج نحو الغرفة ليبحث عنه، ولا أعلم إن كان الزوج أو الزوجة قد رأياه وهو يصعد الدرج، لأنهما كانا قد بدآ الشجار بالفعل، وكانا في منتصف تلك المشاجرة عندما هبط السيد تريفوسيس الدرج مرة أخرى."كانت الأمور التي يقولانها حميمية وخاصة لدرجة أن السيد تريفوسيس وجد نفسه في وضع محرج، وبدا له أنهما اعتقدا أنه غادر الغرفة منذ فترة، وخشية أن يتصاعد غضب السير رويبين تجاهه، قرر أن يبقى مكانه ثم يتسلل خارجًا فيما بعد؛ لذا بقي في مكانه خلف الستائر، ولاحظت الليدي أستويل هيئته الخارجية من خلف الستائر بينما كانت تهم بالخروج من الغرفة."عندما غادرت الليدي أستويل الغرفة، حاول تريفوسيس أن يتسلل إلى خارج الغرفة، إلا أنه تصادف أن أدار السير رويبين رأسه ناحيته، وأدرك وجود السكرتير في الغرفة، وحيث إن السير رويبين كان يستشيط غضبًا بالفعل، فقد بدأ يطلق سيلاً من الإهانات على السكرتير، واتهمه بأنه يتجسس عليه عن عمد."سيداتي سادتي، أنا دارس لعلم النفس. خلال هذه القضية لم أكن أبحث عن شيء يتعلق بسرعة الغضب، سواء من رجل أو امرأة، حيث إن للأشخاص سريعي الغضب صمام أمان، ومن ينبح لا يعض، بل كنت أبحث عن رجل يمكنه السيطرة على انفعالاته، عن رجل صبور وقادر على التحكم في نفسه، الرجل الذي لعب دور المستضعف لتسعة أعوام كاملة، لا يوجد ضغط أكبر من ذلك الذي يستمر لسنوات طويلة، ولا يوجد حقد أكبر من ذلك الذي يتراكم ببطء."طوال تسع سنوات، ظل السير رويبين يتنمر ويهين سكرتيره، وظل ذلك السكرتير يتحمل في صمت؛ ولكن ذات يوم وصل ذلك الضغط أخيرًا إلى نقطة الانفجار، شيء ما انفجر. وكان هذا ما حدث في تلك الليلة. عاد السير رويبين ليجلس إلى مكتبه مرة أخرى، ولكن وبدلاً من أن يستدير السكرتير في وداعة وخنوع نحو باب الغرفة، أمسك بهراوة خشبية ثقيلة وضرب بها الرجل الذي ظل يتنمر عليه طوال سنوات".التفت نحو تريفوسيس الذي كان يحدق إليه كما لو أنه تحول إلى تمثال حجري.قال بوارو: "لقد كانت حجة غيابك بسيطة للغاية، فقد اعتقد السيد أستويل أنك في غرفتك، ولكن لم يرك أحد تذهب إلى هناك. كنت تحاول التسلل إلى خارج الغرفة عندما سمعت صوتًا، فعدت مسرعًا لتختبئ خلف الستائر، وكنت واقفًا خلف الستائر عندما دخل تشارلز ليفرسون الغرفة، وكنت هناك عندما دخلت ليلي مارجريف الغرفة، ولم تتسلل إلى خارج الغرفة إلا بعد وقت طويل حيث سرت متخفيًا دون صوت وصولاً إلى غرفتك، ألن تنكر ما أقول؟".تلعثم تريفوسيس: "أنا، أنا لم -".قال بوارو: "دعونا ننهِ الأمر. طوال أسبوعين الآن، ظللت أمارس لعبة، وقد جعلتك ترى أن الشبكة تنغلق ببطء عليك. بصمات الأصابع، آثار الأقدام، تفتيش الغرف مع تغيير أماكن بعض الأشياء، ولقد زرعت الرعب في قلبك عبر كل هذه الأمور، فبقيت مستيقظًا خلال الليل خائفًا تترقب، هل تركت بصمة أصابع أو آثار أقدام في الغرفة في تلك الليلة؟"لقد راجعت ما حدث في تلك الليلة مرارًا وتكرارًا، متسائلاً عما فعلت أو لم تفعل، ومن ثم حملتك على أن تخطئ. لقد رأيت الذعر في عينيك عندما رأيتني ألتقط شيئًا ما من على الدرج الذي وقفت عليه في أثناء اختبائك في تلك الليلة، ثم أقدمت على استعراض كبير، الصندوق الصغير وإعطائه إلى جورج، ثم مغادرة المنزل".التفت بوارو ناحية الباب.ثم قال: "جورج".رد: "هنا يا سيدي".تقدم الخادم نحو سيده.سأله بوارو: "هل تخبر السيدات والسادة ماذا كانت تعليماتي لك اليوم؟".قال جورج: "أن أختبئ داخل خزانة الملابس في غرفتك يا سيدي، وأن أخفي الصندوق الكرتوني في المكان الذي أخبرتني به، وفي الساعة الثالثة والنصف من عصر اليوم، دخل السيد تريفوسيس غرفتك، وتوجه نحو الدرج وأخذ الصندوق المذكور".تابع بوارو حديثه قائلاً: "وفي ذلك الصندوق، كان هناك دبوس عادي، وأنا دائمًا أقول الحقيقة. لقد التقطت شيئًا ما من على الدرج هذا الصباح. هناك مثل إنجليزي تقولونه وهو: إن رأيت الدبوس فالتقطه، وسيحالفك الحظ الحسن طوال اليوم... وبالنسبة لي، لقد حالفني الحظ، وعثرت على القاتل".التفت بوارو نحو السكرتير، وقال بهدوء: "أرأيت؟ لقد أوقعت بنفسك".فجأة، انهار تريفوسيس، وغاص في مقعده يبكي، واضعًا وجهه بين ذراعيه.وانتحب قائلاً: "لقد فقدت عقلي، لقد فقدت عقلي، ولكن، يا إلهي، لقد أهانني وتنمر عليَّ بما يفوق طاقتي، ولقد كرهته لسنوات".بكت الليدي أستويل قائلة: "كنت محقة".ثم نهضت من مكانها وقد بدا الانتصار على وجهها.وقالت: "كنت أعلم أن هذا الرجل هو من فعلها".وقفت في مكانها منتصبة في زهو.قال بوارو: "وكنت محقة في ذلك. قد يطلق المرء على الأمور الكثير من المسميات، ولكن تبقى الحقيقة كما هي، فلقد أثبت حدسك يا ليدي أستويل أنه على صواب. أهنئك على ذلك".أربعة وعشرون طائرًا أسود1كان هيركيول بوارو يتناول الغداء مع صديقه هنري بونينجتون في مطعم جالانت إنديافور بشارع كينجز رود في حي تشيلسي.كان السيد بونينجتون يحب هذا المطعم كثيرًا، فقد كان يحب جوه الهادئ، والطعام الذي يقدمه والذي كان "بسيطًا" و "إنجليزيًّا" و"دون الكثير من الابتكارات التافهة"، كما كان يحب أن يخبر من يتناولون الطعام معه في ذلك المطعم عن المكان الذي اعتاد أوجستوس جون الجلوس فيه، وكان يلفت انتباههم إلى أسماء الكثير من المشاهير الذين كان يحتويهم دفتر الزائرين، فلم يكن السيد بونينجتون فنانًا، ولكنه كان يفخر كثيرًا بإنجازات الآخرين الفنية.حيت مولي، النادلة الودودة - السيد بونينجتون كما لو كان من أصدقائها القدامى، وكانت تفتخر بأنها قادرة على تذكر ما يحبه أو يكرهه زبائنها من أصناف الطعام.قالت مولي عندما جلس الرجلان إلى طاولة في أحد أركان المطعم: "مساء الخير يا سيدي، إنكما محظوظان اليوم - هناك لحم ديك رومي محشو بالجوز - هذا ما تفضله يا سيدي، أليس كذلك؟ كما أن لدينا توليفة جبن رائعة. هل ترغب في تناول الشوربة أولاً أم السمك؟".استغل السيد بونينجتون الفرصة وقال لـ بوارو - الذي كان يقرأ قائمة الطعام - محذرًا: "أزح أطعمتك الفرنسية التافهة جانبًا الآن، ستتناول طعامًا إنجليزيًا رائعًا".أشار هيركيول بوارو بذراعه وقال: "صديقي العزيز. لا يمكنني أن أشكو، أنا رهن تصرفك".رد السيد بونينجتون: "آه - إممم"، وبدأ يولي انتباهه للطعام.طرح الكثير من الأسئلة عن أصناف الطعام، وعن المشروبات، ثم جلس وأسند ظهره إلى مقعده متنهدًا، وأخرج منديله بينما أسرعت مولي لتحضر الطلبات.قال السيد بونينجتون في رضا: "أحسنت الفتاة، ولقد كانت جميلة فيما مضى، وكان الرسامون معتادين رسمها، كما أنها ملمة بأصناف الطعام، وهذا أهم بكثير من جمالها. إن النساء لا يفقهن شيئًا عن الطعام. هناك الكثير من النساء إن تعرفت عليهن وخرجت معهن، فلن تلحظ أنهن يعرفن شيئًا عن الطعام على الإطلاق، بل سيطلبن أول شيء تقع عليه أعينهن".هز بوارو رأسه في أسف وقال: "هذا فظيع".قال السيد بونينجتون في رضا: "ولكن الرجال ليسوا كذلك، لحسن الحظ".برقت عينا بوارو وقال: "على الإطلاق؟".قال بونينجتون: "حسنًا، ربما عندما يكونون صغارًا. إن الشباب هذه الأيام متشابهون جميعهم ولا يملكون الجرأة ولا القدرة على التحمل، وأنا أرى أنه لا فائدة منهم - كما أنهم"، وأضاف بحيادية تامة: "يرون أن لا فائدة مني. ربما كانوا محقين، وإن سمعت هؤلاء الشباب وهم يتحدثون، ستعتقد أنه لا يحق للرجل أن يعيش بعد أن يتجاوز الستين من عمره، ومن طريقة حديثهم، ستتعجب من إدراك أن المزيد منهم لم يساعد أيًّا من أقربائهم المسنين حتى وفاتهم".قال هيركيول بوارو: "هذا محتمل، إنها طبيعتهم".قال بونينجتون: "أقر بأن لديك عقلية رائعة يا بوارو. إن كل هذا العمل الشرطي قد أوهن من هم مثلك".ابتسم هيركيول بوارو.ثم قال: "لا بأس بهذا، فسيكون من المثير أن تعد قائمة بالوفيات العرضية عندما تتخطى الستين من عمرك. أؤكد لك أن هذا الأمر سيثير بعضًا من التخمينات الفضولية في ذهنك".قال بونينجتون: "مشكلتك هي أنك قد بدأت تبحث عن الجرائم بدلاً من انتظارها لتصل إليك".قال بوارو: "اعذرني، لقد بدأت أتحدث عن العمل. أخبرني يا صديقي عن أحوالك. كيف تعيش في العالم؟".قال بونينجتون: "فوضى عارمة، هذه هي حال العالم هذه الأيام، فوضى عارمة، والكثير من الكلمات اللطيفة. إن الكلمات اللطيفة تساعد على إخفاء الفوضى، مثل الصلصة ذات الطعم الرائع التي تخفي تحتها سمكة سيئة. أعطني سمكة منزوعة العظم بمفردها دون أية صلصة".كانت العبارة الأخيرة موجهة إلى مولي التي وصلت حاملة الطعام، ثم أصدر صوتًا ينم عن الرضا.قال بونينجتون: "إنك تعلمين الطعام الذي أفضله أيتها الفتاة".قالت مولي: "إنك تحضر إلى المطعم باستمرار، أليس كذلك يا سيدي؟ يجب عليَّ أن أعلم ما تحب".قال هيركيول بوارو: "أيحب الناس تناول الطعام نفسه عادة؟ ألا يرغبون في بعض التغيير في بعض الأحيان؟".قالت مولي: "ليس الرجال يا سيدي. قد تحب السيدات التغيير - ولكن الرجال يحبون دائمًا الطعام ذاته".صاح بونينجتون: "ألم أقل لك هذا؟ إن النساء لا يعلمن شيئًا عن الطعام".ثم جال في المطعم ببصره من حوله وقال: "إن العالم مكان غريب. أترى هذا الرجل المسن غريب الشكل ذا اللحية في ركن المطعم؟ ستخبرك مولي بأنه يحضر إلى هنا ليالي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، وظل يحضر إلى هنا لما يقارب العشر سنوات - إنه من العلامات البارزة في هذا المكان. ولكن، لا يعلم أحد شيئًا عن اسمه أو مكان سكنه أو ماذا يعمل. وهذا الأمر غريب عندما تفكر فيه".عندما عادت النادلة حاملة قطع الديك الرومي، قال: "أرى أن الرجل المسن لا يزال يأتي إلى هنا؟".قالت مولي: "هذا صحيح يا سيدي. إنه يأتي أيام الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، ولكنه حضر إلى هنا يوم الاثنين الماضي؛ ولكن هذا الأمر ضايقني، لقد شعرت بأني أخطات في التواريخ وأن اليوم كان الثلاثاء دون أن أدري؛ ولكنه حضر في الليلة التالية أيضًا - لذا، أعتقد أن يوم الاثنين كان يومًا إضافيًّا بالنسبة له".غمغم بوارو: "يا له من انحراف غريب عن عاداته، ما السبب في ذلك؟".قالت مولي: "أعتقد يا سيدي أنه كان يمر بحالة من القلق أو الكآبة".قال بوارو: "ولِمَ تعتقدين هذا؟ طريقة تصرفه؟".قالت مولي: "لا يا سيدي، ليست تصرفاته. لقد كان هادئًا للغاية كعادته، ولا يقول شيئًا عدا ليلة سعيدة عندما يحضر وعندما يغادر. إن ما أعطاني هذا الانطباع هو الطعام الذي طلبه".قال بوارو: "الطعام الذي طلبه؟".قالت مولي: "أعتقد أنكما ستسخران مني؛ ولكن عندما يحضر رجل ما إلى المطعم طوال عشر سنوات، يمكنني أن أعلم جيدًا ما يحب وما يكره، وهو لم يكن يحب بودينج اللحوم أو التوت الأسود على الإطلاق، كما أنه لم يطلب أبدًا الشوربة الدسمة - ولكنه طلب في ليلة الاثنين شوربة طماطم دسمة وشريحة لحم بودينج الكلى وحلوى التوت الأسود، فقد كان الأمر يبدو كما لو كان غير مدرك الطعام الذي يطلبه".قال بوارو: "أتعلمين، أعتقد أن ما قلته مثير للاهتمام".بدت مولي ممتنة، ثم غادرت.قال هنري بونينجتون ضاحكًا: "حسنًا يا بوارو. دعنا نحصل على بعض الاستنتاجات منك، مثلما تفعل دائمًا".قال بوارو: "أود أن أسمع استنتاجاتك أولاً".قال بونينجتون: "أتريدني أن أكون واتسون الخاص بك؟ حسنًا، أعتقد أن الرجل ذهب للطبيب وغير له نظامه الغذائي".قال بوارو: "لكي يتناول شوربة طماطم دسمة وشريحة لحم وبودينج الكلي وحلوى التوت الأسود؟ لا أعتقد أن هناك طبيبًا قد يفعل ذلك".قال بونينجتون: "لا تصدق هذا يا صديقي؛ حيث إن الأطباء قد يحملونك على فعل أي شيء".قال بوارو: "هل هذه هي الفكرة الوحيدة التي راودتك؟".قال هنري بونينجتون: "حسنًا جديًّا، أعتقد أن هناك تفسيرًا واحدًا محتملًا. أعتقد أن صديقنا الغامض قد وقع تحت عاطفة ذهنية قوية، وقد سببت له الكثير من الارتباك، ما جعله لا يدرك ما يطلبه من طعام".ثم صمت للحظة وقال: "ستخبرني الآن بما يفكر فيه الرجل بالتحديد، وستقول إنه ربما يفكر في ارتكاب جريمة قتل".ضحك بونينجتون على دعابته.إلا أن هيركيول بوارو لم يضحك.أقر بوارو لنفسه بأنه كان يشعر بالقلق في تلك اللحظة بالذات، وكان يفكر في أنه يجب عليه أن يعرف بعض الأمور عما قد يحدث مع هذا الرجل.طمأنه أصدقاؤه إلى أن مثل هذه الفكرة خيالية.مرت ثلاثة أسابيع قبل أن يلتقي بوارو وبونينجتون مرة أخرى، وكان لقاؤهما هذه المرة في قطار الأنفاق.أومأ كل منهما برأسه للآخر، وتوجه أحدهما نحو الآخر وأمسكا بحزامين متجاورين من الأحزمة المتدلية من السقف، ثم عند محطة سيرك بيكاديللي، خرج الكثير من الركاب وتمكنا من العثور على مقعدين خاليين عند مقدمة العربة، وهو مكان هادئ؛ حيث إنه لا يوجد ركاب يدخلون أو يخرجون من هذا المكان.قال السيد بونينجتون: "هكذا أفضل. إن البشر أنانيون للغاية، ولن يتخلوا عن مكانهم في العربة حتى إن طلبت منهم ذلك".هز بوارو كتفيه وقال: "ماذا كنت تفعل أنت؟ إن الحياة متقلبة".قال السيد بونينجتون بطريقة تنم عن الكآبة: "هذا صحيح، فنحن هنا اليوم، وفي الغد، من يدري؟ بالمناسبة، هل تذكر ذلك الرجل المسن الذي رأيناه في مطعم جالانت إنديافور؟ لن أتعجب إن كان قد مات، فهو لم يظهر منذ حوالي أسبوع. إن مولي قلقة بشأنه".جلس بوارو منتصبًا وبرقت عيناه الزرقاوان، ثم قال: "حقًّا؟ حقًّا؟".قال بونينجتون: "هل تتذكر، لقد قلت لك إنه ذهب للطبيب الذي غير من نظامه الغذائي، أليس كذلك؟ إن الأنظمة الغذائية هراء، دون شك - ولكني لن أتعجب إن كان قد استشار طبيبًا عن صحته ولابد أن ما أخبره به الطبيب قد أزعجه كثيرًا، وهذا ما جعله يطلب الطعام من القائمة دون أن يدرك ما كان يطلبه، ومن المرجح أن هذا الانزعاج الذي حدث له قد عجل بوفاته بدلاً من أن يفعل العكس. على الأطباء أن يحذروا مما يخبرون به مرضاهم".قال هيركيول بوارو: "هذا ما يفعله الأطباء عادة".قال السيد بونينجتون: "هذه محطتي، إلى اللقاء. إننا لم نعلم من كان هذا الرجل المسن - ولا حتى اسمه. عالم غريب".خرج بونينجتون مسرعًا من العربة.ظل هيركيول بوارو جالسًا يفكر، وبدا كأنه لم يظن أن العالم غريب مثلما قال صديقه.عاد بوارو للمنزل وأعطى تعليمات محددة لخادمه المخلص، جورج.2مر هيركيول بوارو بأصبعه على قائمة بها أسماء، وكانت عبارة عن سجل الوفيات عن فترة بعينها.توقف أصبع بوارو عند اسم بعينه.وقال: "هنري جاسكوين، في التاسعة والستين من عمره. سأجرب هذا الاسم أولاً".في وقت لاحق من ذلك اليوم، كان هيركيول بوارو جالسًا في عيادة الطبيب ماك أندرو في شارع كينجز رود، ولقد كان أندرو رجلًا أسكتلنديًّا طويل القامة أحمر الشعر ووجهه ينم عن الذكاء.قال الطبيب: "جاسكوين؟ نعم، هذا صحيح. ذلك العجوز غريب الأطوار. لقد كان يعيش بمفرده في أحد تلك المنازل القديمة المتهالكة التي أزيلت من أجل إنشاء مبانٍ سكنية حديثة. لم أعالجه أبدًا ولكني رأيته من قبل وأعلم من يكون. كان بائعو الحليب هم أول من اكتشفوا وفاته عندما بدأت زجاجات الحليب تتكدس أمام باب منزله، ثم أبلغ جيرانه الشرطة التي حضرت وكسرت باب المنزل وعثرت على جثته. كان قد سقط من على الدرج وكسر عنقه، وكان يرتدي روبًا قديمًا ذا حزام مهترئ - وربما كان قد تعثر به وسقط عن الدرج".قال هيركيول بوارو: "لقد فهمت، إن الأمر بسيط للغاية - توفي قضاء وقدرًا".قال الطبيب: "هذا صحيح".قال بوارو: "هل هناك أحد من أقاربه؟".قال الطبيب: "نعم، ابن أخته، والذي كان يذهب ليطمئن عليه مرة كل شهر، واسمه جورج لوريمر. إنه يعمل طبيبًا أيضًا ويعيش في ويمبلدون".قال بوارو: "هل كان حزينًا لموت الرجل العجوز؟".قال الطبيب: "لا أعلم إن كان حزينًا أم لا. أعني أنه كان يحب خاله العجوز، ولكنه لم يكن يعرفه حق المعرفة".قال بوارو: "منذ متى كان السيد جاسكوين قد مات عندما فحصته؟".قال الطبيب: "آه، نعم، لقد حان وقت الحديث الرسمي: ليس أقل من يومين وليس أكثر من ثلاثة أيام، فلقد عُثر عليه صباح اليوم السادس من الشهر. في واقع الأمر، لقد تمكنا من تحديد وقت الوفاة بصورة أكثر دقة، فقد عثرنا في جيب الروب على خطاب مرسل في اليوم الثالث من الشهر - وتم إرساله من ويمبلدون في عصر ذلك اليوم - وربما يكون قد تسلمه في الساعة التاسعة وعشرين دقيقة مساءً من مكان ما. وهذا يجعل وقت الوفاة بعد الساعة التاسعة وعشرين دقيقة من مساء اليوم الثالث من الشهر، وهذا يتفق تمامًا مع مكونات المعدة وعملية الهضم، حيث كان قد تناول وجبة قبل وفاته بساعتين. لقد فحصته في صباح اليوم السادس من الشهر، وكانت حالته تدل على أنه قد توفي منذ حوالي 60 ساعة - أي حوالي الساعة العاشرة مساء يوم الثالث من الشهر".قال بوارو: "يبدو هذا صحيحًا. أخبرني، متى شوهد على قيد الحياة للمرة الأخيرة؟".قال الطبيب: "لقد شوهد في شارع كينجز رود في حوالي السابعة من الليلة ذاتها، يوم الخميس الثالث من الشهر، ثم تناول الطعام في مطعم جالانت إنديافور في السابعة والنصف. يبدو أنه كان يتناول الطعام هناك أيام الخميس دائمًا. بالمناسبة، لقد كان فنانًا سيئًا للغاية".قال بوارو: "ألا يوجد أحد آخر من أقاربه؟ فقط ابن أخته؟".قال الطبيب: "هناك شقيقه التوأم، فالقصة بأكملها غريبة، فلم يكونا قد التقيا منذ أعوام، ويبدو أن شقيقه، أنتوني جاسكوين، تزوج من امرأة بالغة الثراء وتخلى عن الفن - وتشاجر الشقيقان بسبب هذا الأمر، ولم يلتقيا منذ ذلك الحين. الأمر الغريب هو أنهما توفيا في اليوم ذاته، ولقد توفي توأمه الأكبر الساعة الثالثة من اليوم ذاته. لقد سمعت من قبل أن هناك شقيقين توأمين قد توفيا في اليوم ذاته - في أماكن مختلفة من العالم. ربما يكون ذلك محض مصادفة - ولكن هذا هو ما حدث".قال بوارو: "هل ما زالت زوجة الشقيق الآخر على قيد الحياة؟".قال الطبيب: "لا، لقد توفيت منذ بضع سنوات".قال بوارو: "أين يعيش أنتوني جاسكوين؟".قال الطبيب: "إنه يعيش في منزل في كينجستون هيل، فلقد كان - كما أخبرني الطبيب لوريمر - انعزاليًّا".أومأ هيركيول بوارو برأسه في تفهم.نظر له الرجل الأسكتلندي، ثم قال: "ما الذي يدور بخلدك بالتحديد يا سيد بوارو؟ لقد أجبت عن أسئلتك - كما يحتم عليَّ واجبي، ولكني ما زلت لا أعلم ما السبب من جميع هذه الأسئلة".قال بوارو ببطء: "قضية بسيطة تدور حول موت عرضي، هذا ما قلت؛ ولكن، ما يدور في عقلي بسيط للغاية أيضًا - دفعة بسيطة".جفل الطبيب ماك أندرو، وقال: "بمعنى آخر، جريمة قتل. هل توجد لديك أية أدلة تدعم هذا الاعتقاد؟".قال بوارو: "لا، إنها مجرد فرضية".أصر الآخر قائلاً: "لابد من وجود أمر ما -".لم يجبه بوارو، فقال الطبيب: "إن كنت تعتقد أن ابن أخته لوريمر هو القاتل، فسأقول لك هنا الآن إنك مخطئ. لقد كان لوريمر مع بعض من أصدقائه في ويمبلدون منذ الثامنة والنصف حتى منتصف الليل، ولقد قال هذا الأمر خلال التحقيق".غمغم بوارو: "أفترض أن الشرطة تحققت من صدق قوله، حيث إن الشرطة حريصة للغاية في هذه الأمور".قال الطبيب: "هل تحمل شيئًا ضده؟".قال بوارو: "لم أكن أعلم بوجوده من الأساس حتى ذكرته".قال الطبيب: "هل تشك في شخص آخر إذن؟".قال بوارو: "لا، لا، ليس الأمر هكذا على الإطلاق، حيث إنها قضية تتعلق بالعادات الروتينية للإنسان، وهذا أمر ينطوي على قدر كبير من الأهمية، ويبدو أن السيد جاسكوين، القتيل، لا يتوافق مع هذه العادات. إن الأمر كله خاطئ".قال الطبيب: "لا أفهم ما تعنيه".غمغم بوارو: "المشكلة هي أن هناك الكثير من الصلصة على السمكة الفاسدة".قال الطبيب: "ماذا تقصد يا سيدي؟".ابتسم بوارو وقال: "أعتقد أنك ستحبسني هنا عندك بحجة أني مجنون أيها الطبيب، ولكني لست كذلك - بل أنا رجل يحب النظام والأسلوب ويقلق كثيرًا عندما تواجهه حقيقة لا تتوافق مع الحقائق الأخرى. أرجو أن تعذرني على مما سببت لك من إزعاج".نهض بوارو، ونهض الطبيب أيضًا، وقال: "الحقيقة أني لا أرى أية شبهة جنائية في موت هنري جاسكوين، أوقل إنه سقط، وأنت تقول إن هناك من دفعه. هذا كل ما في الأمر".قال بوارو: "نعم، إن هذا يدل على براعة القاتل، لقد حبك الأمر ليبدو أنه قضاء وقدر".قال الطبيب: "أنت ما زلت تعتقد أنه -".فرد بوارو يديه وقال: "أنا رجل عنيد يمتلك فكرة ما، ولا يوجد لديه أي دليل على صحتها. بالمناسبة، هل كان هنري جاسكوين يضع طقم أسنان؟".قال الطبيب: "لا، لقد كانت أسنانه بحالة برائعة رغم تقدم سنه".قال بوارو: "هل كان يعتني بها جيدًا - وكانت بيضاء ونظيفة؟".قال الطبيب: "نعم، لقد لفتت انتباهي؛ حيث إن الأسنان تصبح صفراء عندما تتقدم في العمر، ولكنها كانت في حالة جيدة".قال بوارو: "ألم تكن متغيرة اللون على الإطلاق؟".قال الطبيب: "لا، لا أعتقد أنه كان مدخنًا إن كان هذا ما تعنيه".قال بوارو: "لم أكن أعني هذا بالتحديد - إنه مجرد تخمين - قد لا يكون صحيحًا. إلى اللقاء أيها الطبيب ماك أندرو، وشكرًا لك على رحابة صدرك".صافح بوارو الطبيب ورحل.ثم قال لنفسه: "والآن، لنبدأ التخمين".3عندما وصل بوارو إلى مطعم جالانت إنديافور، جلس على الطاولة نفسها التي تشاركها مع بونينجتون من قبل، ولم تكن مولي هي من تقوم على خدمته، حيث أخبرته النادلة التي تخدمه بأن مولي قد ذهبت في عطلة.كانت الساعة السابعة ولم يواجه بوارو صعوبة في فتح حوار مع النادلة حول السيد جاسكوين العجوز.قالت النادلة: "نعم، لقد ظل يحضر إلى هنا طوال سنوات، ولكن لم تعلم أي واحدة منا ما اسمه، لقد عرفنا ما حدث من الصحف إلى جوار صورة له. قلت لـ مولي: انظري، أليس هذا هو الرجل المسن كما اعتدنا أن نطلق عليه".قال بوارو: "هل تناول طعامه هنا في ليلة وفاته؟".قالت النادلة: "نعم، يوم الخميس، الثالث من الشهر. دائمًا ما كان يحضر إلى هنا أيام الخميس، أو أيام الثلاثاء والخميس، وكان دقيقًا في مواعيده كالساعة".قال بوارو: "ألا تذكرين ما طلبه من أجل الغداء؟".قالت النادلة: "دعني أتذكر، لقد طلب الحساء الهندي، وبودينج لحم البقر أو لحم الضأن - لا، البودينج، هذا صحيح، توت أسود وفطيرة تفاح وجبن، ثم ذهب إلى منزله وسقط عن الدرج في الليلة ذاتها. يُقال إن الروب القديم الذي كان يرتديه هو السبب في تعثره وسقوطه. بالفعل، لقد كانت ملابسه رديئة للغاية - عتيقة الطراز؛ ولكنه كان يرتديها على أية حال، وعلى الرغم من أنها كانت بالية، فإنها كانت تنم على أنه كان شخصية مهمة، فنحن لدينا الكثير من العملاء المثيرين للاهتمام هنا".قالتها النادلة ثم رحلت.تناول هيريكول بوارو قطع السمك المخلية، ثم برقت عيناه فجأة.قال بوارو لنفسه: "من الغريب أنه حتى أمهر الناس تسقط منهم بعض التفاصيل. إن بونينجتون سيهتم بهذا الأمر كثيرًا".ولكن، لم يكن الوقت قد حان بعد للدخول في مناقشة طويلة مع بونينجتون.4بفضل حصوله على توصية من رجل ذي نفوذ كبير، لم يواجه بوارو صعوبة على الإطلاق في التعامل مع محقق الوفيات الخاص بالمقاطعة.قال محقق الوفيات: "إن الرجل المتوفي جاسكوين رجل غريب، رجل عجوز منعزل وغريب الأطوار، إلا أن وفاته قد أطلقت الكثير من الاهتمام غير المعتاد به".نظر المحقق بفضول إلى زائره بينما كان يتحدث.تخير بوارو كلماته بدقة وقال: "هنا بعض الملابسات المتعلقة بوفاته يا سيدي، وهي تضطرنا للتحقيق فيها".قال المحقق: "كيف يمكنني مساعدتك إذن؟".قال بوارو: "أعتقد أنه يقع في نطاق سلطتك ما إذا كان يجب تدمير الوثائق الصادرة من محكمتك أو تتم أرشفتها - طبقًا لما تراه مناسبًا، فلقد عُثر على خطاب ما في جيب هنري جاسكوين، أليس كذلك؟".قال المحقق: "هذا صحيح".قال بوارو: "كان خطابًا من ابن شقيقته، الطبيب جورج لوريمر، أليس كذلك؟".قال المحقق: "هذا صحيح، فلقد تمت الاستعانة بهذا الخطاب خلال التحقيق من أجل تحديد وقت الوفاة".قال بوارو: "والذي تم تعزيزه بالدليل الطبي، أليس كذلك؟".قال المحقق: "بالضبط".قال بوارو: "هل مازال هذا الخطاب متواجدًا؟".انتظر بوارو في قلق الإجابة عن سؤاله.وعندما سمع أن الخطاب مازال متواجدًا بغرض فحصه، تنفس الصعداء.عندما تم إحضار الخطاب أخيرًا، بدأ بوارو بفحصه بعناية، فلقد كان الخطاب مكتوبًا بخط يد سيئ إلى حد ما بقلم حبر.وكان المكتوب في الخطاب كالتالي:خالي العزيز هنري،أبلغك آسفًا بفشلي في الموضوع المتعلق بالخال أنتوني؛ حيث إنه لم يُظهر أي تحمس لتلقي زيارة منك ولم يرد على طلبك إلا بقول عفا الله عما سلف. إنه مريض للغاية، وأفكاره مشتتة، وأعتقد أن نهايته قد اقتربت. وقد بدا كأنه لا يتذكر من أنت من الأساس.آسف على أني خذلتك، ولكني أؤكد لك أني بذلت أقصى ما في وسعي.ابن شقيقتك المخلص،جورج لوريمركان الخطاب يحمل تاريخ الثالث من نوفمبر، وعندما نظر بوارو إلى التوقيت الظاهر على الظرف - كانت الرابعة والنصف يوم الثالث من نوفمبر.غمغم بوارو: "إن الخطاب منظم للغاية، أليس كذلك؟".5كان حي كينجستون هيل هو هدفه التالي، فبعد أن عانى قليلاً ومارس هوايته في العناد خفيف الظل، تمكن أخيرًا من لقاء أميليا هيل، طاهية ومديرة منزل الراحل أنتوني جاسكوين.كانت السيدة هيل تتعامل معه بشكل رسمي متشكك في البداية، إلا أن الود الجذاب لهيئته الأجنبية الغريبة كان له تأثير كبير على أقسى القلوب، حتى بدأت السيدة تلين.وجدت نفسها، مثلما فعلت الكثير من النساء من قبل، تفرغ ما في جعبتها من مشكلات في آذان ذلك المستمع الودود.لقد ظلت تتحمل مسئولية منزل السيد جاسكوين طوال 14 عامًا - وهي ليست بالمهمة السهلة. ليست كذلك دون شك. كانت الكثير من النساء سينسحبن بسبب هذه الأعباء التي كان عليها تحملها، ولقد كان الرجل النبيل العجوز غريب الأطوار، ولم يكن ينكر هذا. كان الرجل يهتم بأمواله للغاية - كان مهووسًا بها - وقد كان يمتلك منها الكثير؛ ولكن خدمته السيدة هيل بإخلاص واعتادت خصاله، وتوقعت أن يترك لها بعض المال، ولكنه لم يفعل، فقد كتب وصية ترك فيها كل أمواله لزوجته، وإن توفيت زوجته قبله، فتؤول جميع أمواله إلى شقيقه هنري، وكانت الوصية قد كُتبت منذ سنوات طوال، ولم تكن تراها عادلة من وجهة نظرها.تمكن بوارو بالتدريج من أن يخرجها من موضوعها الرئيسي عن طمعها الذي لا يهدأ؛ حيث كان ما حدث معها ظلمًا بينًا، ولم يكن أحد قادرًا على لومها على كونها مجروحة ومندهشة، فلقد كان الجميع يعرفون أن السيد جاسكوين كان بخيلاً، ويُقال إن الراحل رفض مساعدة شقيقه، وربما كانت السيدة هيل تعرف جميع هذه الأمور.سألت السيدة هيل: "هل هذا ما حضر الطبيب لوريمر ليحدث خاله عنه؟ أعلم أنه حضر ليتحدث معه عن شقيقه، ولكني أعتقد أن شقيقه أرسل ابن شقيقته من أجل أن يعيد التواصل بينهما، حيث إنهما كانا قد تشاجرا منذ سنوات مضت".قال بوارو: "أعرف أن السيد جاسكوين قد رفض وساطة ابن شقيقته، أليس كذلك؟".قالت السيدة هيل وهي تومئ برأسها: "هذا صحيح تمامًا، فقد كان يقول بضعف: هنري؟ ماذا بشأن هنري؟ أنا لم أره منذ سنوات ولا أرغب في هذا. إن هنري محب للشجار، وهذا كل ما قاله".ثم تحول الحديث إلى مظالم السيدة هيل، والسلوك القاسي الذي تعامل به محامي السيد جاسكوين معها.لقي بوارو بعض الصعوبة في المغادرة دون أن يقطع الحديث فجأة.وهكذا، وبعد العشاء، وصل إلى إلمكريست، شارع دورسيت في ويمبلدون، مقر إقامة الطبيب جورج لوريمر.كان الطبيب متواجدًا، وقاد الخادم بوارو إلى داخل العيادة ثم حضر إليه لوريمر، والذي بدا عليه أنه قد انتهى للتو من عشائه.قال هيركيول بوارو: "أنا لست مريضًا أيها الطبيب، وأعتقد أن في حضوري هنا بعض الوقاحة - ولكني رجل عجوز وأؤمن تمامًا بالتعاملات المباشرة الواضحة، ولا يهمني المحامون وطرقهم الملتوية".بدا أنه أثار اهتمام لوريمر كثيرًا، والذي كان رجلًا حليق الوجه متوسط الطول، وكان شعره بني اللون ولكن كانت رموشه بيضاء، ما أعطى لعينيه مظهرًا شاحبًا وغريبًا، وكان أسلوبه حيويًّا وخفيف الظل.قال الطبيب وقد رفع حاجبيه: "المحامون؟ أنا أكرههم كثيرًا. لقد أثرت فضولي يا سيدي. اجلس من فضلك".جلس بوارو ثم أخرج واحدة من بطاقات عمله وأعطاها للطبيب.طرفت رموش لوريمر البيضاء.ثم مال بوارو ناحيته وقال: "الكثير من عملائي من النساء".قال الطبيب جورج لوريمر وعيناه تبرقان قليلاً: "أمر طبيعي".وافقه بوارو قائلاً: "كما تقول أمر طبيعي؛ حيث إن النساء لا يثقن بالشرطة الرسمية، ويفضلن المحققين الخصوص، حيث إنهن لا يرغبن في أن تُذاع مشكلاتهن على الملأ، فلقد حضرت امرأة مسنة منذ بضعة أيام لتستشيرني، ولم تكن سعيدة بشأن زوج تشاجرت معه منذ عدة سنوات مضت، وكان زوجها هو خالك الراحل السيد جاسكوين". امتقع وجه جورج لوريمر.فردَّ: "خالي؟ لقد توفيت زوجته منذ أعوام مضت".قال بوارو: "ليس خالك السيد أنتوني جاسكوين، بل خالك السيد هنري جاسكوين".قال لوريمر: "خالي هنري؟ ولكنه ليس متزوجًا".قال هيركيول بوارو وهو يكذب دون أن يُطرف له جفن: "بل كان متزوجًا، ولا شك في هذا. لقد أحضرت السيدة معها وثيقة زواجهما".قال جورج لوريمر وقد احمر وجهه بشدة: "هذا كذب. لا أصدق حرفًا مما قلت، بل أنت كاذب وقح".قال بوارو: "هذا أمر سيئ، أليس كذلك؟ لقد ارتكبت جريمة قتل دون طائل".قال لوريمر وقد ارتعش صوته وظهر الرعب في عينيه: "جريمة قتل؟".قال بوارو: "بالمناسبة، أرى أنك تتناول فطيرة التوت الأسود مرة أخرى. إنها عادة سيئة، ويُقال إن التوت الأسود مليء بالفيتامينات، ولكنه قد يكون مميتًا بطرق أخرى، وفي هذه الحالة، يمكن أن يضع حبل المشنقة حول عنق شخص ما - عنقك أنت أيها الطبيب لوريمر".6قال هيركيول بوارو وهو يبتسم ويلوح بذراعه لصديقه الجالس على الطرف الآخر من الطاولة: "أرأيت يا صديقي، لا يمكن للمرء الواقع تحت الكثير من الضغوط الذهنية أن يختار وقت فعله شيئًا لم يفعله من قبل في حياته، وستتبع ردود فعله ما اعتاده دون مقاومة؛ حيث إن المرء الذي يشغله أمر ما، قد يذهب لتناول الغداء مرتديًا منامته - ولكنها ستكون منامته هو - وليست منامة شخص آخر."لقد كان الرجل يكره الحساء الدسم، وبودينج اللحم والتوت الأسود، ثم طلبها جميعًا ذات ليلة. لقد قلت إنه كان يفكر في أمر آخر، ولكني أقول إن الرجل الذي يشغله أمر ما سيطلب بصورة تلقائية الطعام الذي اعتاد تناوله."حسنًا، هل هناك تفسيرات أخرى للأمر؟ لم أتمكن من التفكير في تفسير منطقي، وكنت أشعر بالقلق، فلقد كان الأمر برمته خاطئًا، ولم تكن الحقائق متفقة مع بعضها البعض. وعقلي منظم ويحب أن تكون الحقائق متوافقة، ولقد أقلقني ما طلبه السيد جاسكوين من طعام."ثم أخبرتني بأن الرجل قد اختفى، وأنه لم يحضر يوم الثلاثاء ولا الخميس للمرة الأولى منذ سنوات، ولم يعجبني هذا الأمر أكثر، ثم ظهرت فرضية غريبة في عقلي: ماذا لو كنت محقًّا بشأن الرجل الذي مات، بدأت أتساءل. لقد مات الرجل، ومات بطريقة مهندمة ومنظمة للغاية. بمعنى آخر، لقد تمت تغطية السمكة الفاسدة بالصلصة."لقد رآه الناس في طريق كينجز رود في السابعة، وتناول الطعام في السابعة والنصف، أي قبل ساعتين من وفاته، وكان كل شيء متوافقًا: دليل محتوى المعدة ودليل الخطاب؛ وهي الأمور التى تم توفيقها معًا لتكون بمثابة الكثير جدًّا من الصلصة لدرجة أنك لم تعد ترى السمكة الفاسدة على الإطلاق."كان ابن شقيقته المخلص قد كتب له خطابًا، وكانت لديه حجة غياب وقت الوفاة، وكان سبب الوفاة بسيطًا للغاية - السقوط من على الدرج. حادث بسيط، أليس كذلك؟ جريمة قتل بسيطة، أليس كذلك؟ لقد قال الجميع العبارتين السابقتين."ولكن، كان هناك شقيق لهذا الرجل، وكان هذا الشقيق متزوجًا من امرأة ثرية، وكان يعيش في منزل كبير وفخم في كينجستون هيل، لذا، من الجلي أن زوجته قد تركت له كل ثروتها. أترى التسلسل، الزوجة الثرية تترك المال إلى أنتوني، الذي يتركه إلى هنري، والذي بدوره يتركه إلى جورج - إنها السلسلة الكاملة".قال بونينجتون: "نظرية جيدة، ولكن، ماذا فعلت أنت؟".قال بوارو: "بمجرد أن تعلم - سيمكنك دائمًا أن تحصل على ما تريد، فلقد توفي هنري بعد ساعتين من تناول طعامه - كان هذا هو الأمر الذي أقلقني؛ ولكن، ماذا لو لم تكن الوجبة عشاءً، بل غداءً. ضع نفسك محل جورج، فهو بحاجة للمال - بشدة، وكان أنتوني جاسكوين يحتضر - ولكن، لم يكن موته ليصب في مصلحة جورج، حيث إن جميع المال سيؤول إلى هنري، وقد يعيش هنري جاسكوين لسنوات؛ لذا، يجب أن يموت هنري أيضًا - وكلما كان ذلك أسرع كان أفضل - ولكن، يجب أن يموت بعد أن يموت أنتوني، وفي الوقت ذاته، يجب أن تكون لدى جورج حجة غياب، وأوحت عادة هنري الدائمة بتناول الطعام ليومين كل أسبوع في المطعم لـ جورج بحجة الغياب، حيث إنه شخص حذر، فقد قام بتجربة خطته أولاً، حيث تنكر في صورة خاله في مساء الاثنين ودخل المطعم المذكور، ومر الأمر بسلام، فقد اقتنع جميع من في المطعم بأنه خاله، وشعر بالرضا، وكان كل ما عليه فعله هو الانتظار لأن يُظهر خاله أنتوني أنه في سبيله للموت، وعندما حان الوقت، يكتب خطابًا لخاله في عصر اليوم الثاني من نوفمبر ولكنه يؤرخه بتاريخ الثالث من نوفمبر، ويحضر إلى المدينة في عصر اليوم الثالث من نوفمبر، ويذهب إلى خاله، وينفذ خطته، ويدفع خاله هنري من على الدرج، ثم يخرج الخطاب الذي كتبه ويضعه في جيب خاله هنري، ثم يذهب في السابعة النصف إلى مطعم جالانت إنديافور واضعًا لحية كثة وحاجبين كثين ومتنكرًا تنكرًا كاملًا. ولا شك، في نظر الجميع، أن السيد هنري جاسكوين كان حيًّا في السابعة والنصف، ثم يخلع تنكره ويعود لهيئته الأصلية مرة أخرى داخل أحد الحمامات، ثم يقود سيارته بأقصى سرعة عائدًا إلى ويمبلدون ليلتقي بأصدقائه. حجة الغياب المثالية".حدق إليه السيد بونينجتون، وقال: "ولكن، ماذا عن ختم مكتب البريد على الخطاب؟".قال بوارو: "كان هذا الأمر بسيطًا للغاية، فلقد كان الختم ملطخًا. لماذا؟ لقد تم تغيير التاريخ باستخدام سناج المصباح بدقة عالية من الثاني من نوفمبر إلى الثالث من نوفمبر. لن يمكنك ملاحظة هذا إلا إن كنت تعرف بشأنه، ثم كانت هناك الطيور السوداء".قال بونينجتون: "الطيور السوداء؟".قال بوارو: "أربعة وعشرون طائرًا أسود مخبوزة في فطيرة، أو التوت الأسود إن كنت تفضل التحدث حرفيًّا. لم يكن جورج في نهاية المطاف ممثلاً جيدًا. هل تتذكر ذلك الرجل الذي دهن جسمه بالكامل باللون الأسود ليمثل دور عطيل؟ هذه هي نوعية الممثل الذي يجب على المرء أن يكون عليها ليرتكب جريمة. كان جورج يبدو مثل خاله ويسير مثل خاله ويتحدث مثل خاله، حتى إنه وضع لحية وحاجبين مشابهين للحية وحاجبي خاله، ولكنه نسي أن يتناول الطعام مثل خاله؛ حيث إن التوت الأسود يغير من لون الأسنان - إلا أن أسنان الجثة لم يتغير لونها، وكان من المفترض أن يكون هنري جاسكوين قد تناول التوت الأسود في مطعم جالانت إنديافور تلك الليلة، ولكن، لم يكن هناك أي توت أسود في معدته. لقد سألت عن الأمر هذا الصباح، وكان جورج من الغباء بحيث احتفظ باللحية وببقية تنكره. إذن هناك الكثير من الأدلة عندما تنظر للأمر عن كثب، فلقد ذهبت إلى جورج، وأرعبته، وانتهى الأمر. لقد كان يتناول التوت الأسود مرة أخرى. إنه شخص جشع - يهتم كثيرًا بطعامه. إن الجشع سيؤدي به إلى حبل المشنقة إن لم أكن محقًّا".أحضرت لهما النادلة طبقين من التوت الأسود وفطيرة التفاح.قال السيد بونينجتون: "خذيها بعيدًا، لا يمكن للمرء أن يكون حذرًا للغاية، أحضري لي طبقًا صغيرًا من بودينج نشا النخيل".الحلم1جال هيركيول بوارو في المنزل بنظرة متفحصة، وتجولت عيناه محدقة إلى ما يحيط به من متاجر ومبنى مصنع كبير على اليمين ومبانٍ سكنية متواضعة على الجانب المقابل.ثم عادت عيناه مرة أخرى إلى منزل نورثواي، وكان تحفة معمارية من الزمن القديم - زمن المساحات الواسعة والفخامة، عندما كانت الحقول الخضراء تحيط به من كل اتجاه؛ ولكن انتهى كل هذا، وأصبح هذا المنزل منسيًّا بسبب صخب مدينة لندن المعاصرة، وكان بإمكان شخص واحد بالكاد من كل 50 شخصًا أن يخبرك بمكان وجوده.علاوة على هذا، كانت قلة قليلة من الناس هي من تعرف من يملك هذا المنزل، على الرغم من أن مالكه يعد واحدًا من أثرى الرجال في العالم؛ ولكن يمكن للمال أن يتغلب على العلنية مثلما يمكنه أن ينميها. لقد تخير بينيديكت فارلي، المليونير غريب الأطوار، ألا يعلن عن مكان سكنه، وكان من النادر رؤيته شخصيًّا، ولم يكن يظهر في التجمعات الاجتماعية إلا فيما ندر. كان يظهر من وقت لآخر في اجتماعات مجلس إدارة شركته بقامته النحيفة وأنفه المدبب وصوته الأجش الذي يهيمن بسهولة على المديرين المجتمعين، وبعيدًا عن هذا، كان يعتبر أسطورة شهيرة، وكان شخصية متقلبة للغاية، فقد كان يتعامل أحيانًا بدناءة غريبة، وأحيانًا أخرى بكرم بالغ، وغيرها الكثير من التفاصيل الشخصية - على غرار روبه المرقع الذي يُقال إنه يرتديه منذ ثمانية وعشرين عامًا، ونظامه الغذائي الثابت المكون من حساء الملفوف والكافيار، وكراهته القطط، ولقد كان العامة يعلمون عنه جميع هذه الأمور.كان هيركيول بوارو يعلم هذه التفاصيل أيضًا، وكان هذا كل ما يعلمه عن الرجل الذي يوشك على زيارته، ولم يخبره الخطاب الموجود في جيب معطفه بالمزيد.بعدما تأمل بوارو ذلك المبنى العتيق لبضع دقائق في صمت، صعد الدرج نحو الباب الأمامي للمنزل وقرع الجرس، وفي أثناء ذلك، كان ينظر إلى ساعة يده الأنيقة التي حلت في نهاية المطاف محل تلك الساعة القديمة المستديرة التي كان يفضلها. نعم، كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف تمامًا، وكالعادة، وصل هيركيول بوارو في موعده تمامًا.لم يمر وقت طويل حتى فُتح الباب، ووقف خادم، يُعد مثالاً للخادم المثالي، منتصبًا في مواجهة الردهة المضاءة.سأله هيركيول بوارو: "هل السيد بينيديكت فارلي موجود؟".تفحصه الخادم من قمة رأسه حتى أخمص قدميه دون أن يشعر بوارو بالإهانة.قال بوارو لنفسه بتقدير: إنه يتفحصني إجمالاً وتفصيلاً.سأله الخادم بصوت مهذب: "هل هناك موعد مسبق يا سيدي؟".قال بوارو: "أجل".قال الخادم: "ما اسمك يا سيدي؟".قال بوارو: "السيد هيركيول بوارو".انحنى الخادم أمامه، ثم تراجع مفسحًا له الطريق، فدخل بوارو، وأغلق الخادم الباب من خلفه.وكانت هناك عادة أخرى وهي أن يأخذ الخادم قبعة الضيف وعصاه.قال الخادم: "معذرة يا سيدي، ولكن، هل يمكنني رؤية الخطاب؟".أخرج بوارو من جيبه خطابًا مطويًا وسلمه للخادم، فألقى نظرة سريعة عليه ثم انحنى أمام بوارو، ثم أعاد بوارو إلى جيبه الخطاب الذي كان مكتوبًا فيه:منزل نورثواي، دبليو 8السيد هيركيول بوارو،سيدي العزيز،يود السيد بينيديكت فارلي أن يستعين بمشورتك. وإن كان يناسبك، فسينتظرك السيد في العنوان المذكور في الأعلى غدًا (الخميس) في تمام التاسعة والنصف مساءً.المخلص،هيوجو كورنوورثي(السكرتير)ملحوظة، أحضر هذا الخطاب معك من فضلك.بعدما أخذ الخادم قبعة بوارو وعصاه في مهارة قال: "هل تسمح يا سيدي بالصعود معي إلى غرفة السيد كورنوورثي؟".تقدم الخادم صاعدًا الدرج، وتبعه بوارو متفحصًا في إعجاب تلك التحف الفنية الأنيقة والمبهرجة، فقد كان تذوقه الفني يميل دائمًا إلى فنون الطبقة المتوسطة.عندما وصلا إلى الطابق الأول، طرق الخادم أحد الأبواب.ارتفع حاجبا بوارو قليلاً، فقد كان هذا الخطأ الأول الذي يرتكبه الخادم، حيث إن الخدم المدربين جيدًا لا يطرقون الأبواب - رغم أن هذا الخادم يفترض أنه من الطراز الأول.كان هذا هو التنويه الأول عن غرابة أطوار ذلك المليونير.سُمع صوت من داخل الغرفة يقول شيئًا ما، ففتح الخادم الباب، وأعلن قائلاً (بطريقة رآها بوارو خارجة أيضًا عن المألوف): "السيد الذي تنتظره يا سيدي".دخل بوارو الغرفة، وكانت غرفة متوسطة الحجم، ذات فرش بسيط ولكن لم يخل من براعة، وكانت تحتوي على خزانات حفظ السجلات والمراجع ومقعدين وثيرين ومكتب كبير مغطى بأوراق منظمة بحرص شديد، وكانت أركان الغرفة معتمة قليلاً، حيث كان الضوء الوحيد المضاء في الغرفة يأتي من ذلك المصباح الكبير ذي القمة الخضراء الذي وقف على طاولة صغيرة بجوار أحد المقعدين الوثيرين، وقد وُضع هذا المصباح بحيث يواجه من يدخل من باب الغرفة. طرف بوارو بعينيه قليلاً وقد أدرك أن هذا المصباح لن تقل قوته عن 150 وات، وعلى المقعد الوثير كان هناك رجل نحيف جالس مرتديًا روبًا مرقعًا - بينيديكت فارلي، وكان رأسه بارزًا للأمام وكان أنفه المدبب يشبه مناقير الطيور، وظهرت خصلة من الشعر الأبيض في مقدمة رأسه كما لو كان طائر الكوكتو، ولمعت عيناه خلف العدسات السميكة بينما كان يرمق ضيفه في شك.قال فارلي بصوت أجش وجاف وآمر: "مرحبًا. أنت إذن هيركيول بوارو، أليس كذلك؟".قال بوارو في تهذيب وهو ينحني واضعًا إحدى يديه على ظهر المقعد: "في خدمتك يا سيدي".قال الرجل العجوز في حدة: "اجلس - اجلس".جلس هيركيول بوارو - وقد غمره ضوء المصباح بالكامل. ومن خلف المصباح، بدا أن الرجل العجوز يتفحصه بانتباه.سأل الرجل في غضب: "كيف يمكنني أن أعلم أنك هيركيول بوارو؟ أخبرني".مرة أخرى، أخرج هيركيول بوارو الخطاب من جيبه وأعطاه إلى فارلي.قال المليونير بغيظ: "نعم، هذا هو. هذا ما أمرت كورنوورثي بكتابته"، ثم طوى الخطاب مرة أخرى وأعطاه إلى بوارو وقال: "إذن أنت الرجل المقصود، أليس كذلك؟"."قال بوارو وهو يلوح بذراعه بحركة خفيفة: "أؤكد لك أني لست أخدعك".ضحك بينيديكت فارلي فجأة وقال: "هذا ما يقوله المشعوذ قبل أن يخرج السمكة الذهبية من قبعته، وأنت تعلم أن هذه المقولة جزء من الخدعة".لم يجبه بوارو، فواصل فارلي حديثه قائلاً: "هل تعتقد أني رجل عجوز متشكك؟ هذا صحيح. شعاري هو ألا تثق بأي شخص، فلا يمكنك أن تثق بأي شخص كان عندما تكون ثريًّا. لا، لا، لن تفيدك الثقة بالناس".قال بوارو بصوت خافت: "لقد طلبت مشورتي، أليس كذلك؟".أومأ الرجل العجوز برأسه، وقال: "استعن بالخبير ولا تنظر للتكلفة، فلعلك لاحظت يا سيد بوارو أني لم أسألك عن أتعابك، ولن أفعل. أرسل لي الفاتورة لاحقًا - ولن أخصم منها شيئًا. أولئك الحمقى أصحاب مزارع الدواجن اعتقدوا أنهم قادرون على أن يأخذوا مني جنيهين وتسعة بنسات عندما كان سعر السوق هو جنيهين وسبعة بنسات - يا لهم من محتالين، ولكن لا يمكن لأحد الاحتيال عليَّ؛ ولكن الرجل الأفضل في مجاله وضعه مختلف. وأنا الأفضل في مجالي كما تعلم".لم يجبه بوارو، فقد كان يستمع إليه في انتباه ورأسه مائل إلى أحد الجانبين.وخلف مظهره الهادئ، كان بوارو يشعر بخيبة الأمل، ولكنه لم يتمكن من إدراك ما الذي جعله يشعر بذلك بالتحديد. حتى الآن، كان بينيديكت فارلي كما توقعه تمامًا - فقد كان متوافقًا مع الفكرة العامة المأخوذة عنه؛ ولكن شعر بوارو بخيبة الأمل.قال بوارو لنفسه في اشمئزاز: "إن هذا الرجل مزيف، لا شيء سوى رجل مزيف".لقد التقى بالكثير من المليونيرات، وكانوا غريبي الأطوار أيضًا، ولكن في كل مرة، كان يشعر بقوى ما تنبعث منهم، طاقة داخلية تجبره على احترامهم، فإن كانوا يرتدون روبًا مرقعًا، فهذا لأنهم يحبون ارتداء هذا الروب المرقع، أما روب بينيديكت فارلي - كما اعتقد بوارو - فإنه يعبر عن زيفه، وأن الرجل نفسه كان متصنعًا، وكانت كل كلمة قالها متصنعة بحيث يشعر بوارو بالاطمئنان التام.قال بوارو بصوت بارد: "إنك ترغب في مشورتي يا سيد فارلي، أليس كذلك؟".فجأة، تغيرت طباع المليونير.فانحنى نحو بوارو وخفت صوته وقال: "نعم، نعم... أريد أن أعرف ما ستقوله - ما تعتقد... اصعد نحو القمة، هذه طريقتي. أفضل طبيب - أفضل محقق - الأمر ينحصر فيما بينهما".قال بوارو: "لم أفهم شيئًا يا سيدي".قال فارلي: "أمر طبيعي، فأنا لم أبدأ بإخبارك بشيء بعد".انحنى فارلي نحو بوارو مرة أخرى، وطرح عليه سؤالًا مفاجئًا: "ما الذي تعرفه يا سيد بوارو عن الأحلام؟".ارتفع حاجبا بوارو في دهشة، فقد توقع الكثير من الأمور، ولم يكن هذا من بينها.قال بوارو: "بالنسبة للأحلام يا سيد فارلي، أنصحك بقراءة كتاب نابليون عن الأحلام - أو زيارة طبيب نفسي في شارع هارلي".قال بينيديكت فارلي بحذر: "لقد جربت كلا الأمرين...".حلت لحظة من الصمت، ثم تحدث المليونير في صوت هامس في البداية، ثم بدأ صوته يعلو شيئًا فشيئًا، قائلاً: "يراودني الحلم ذاته - ليلة بعد ليلة، وقد أصبحت خائفًا، أقول لك - أنا خائف... إنه الحلم ذاته دائمًا؛ حيث أكون جالسًا في غرفتي المجاورة لهذه الغرفة، جالسًا إلى مكتبي أكتب، وتوجد هناك ساعة حائط، أنظر إليها وأرى الوقت الذي تشير إليه - الساعة الثالثة وثمانٍ وعشرون دقيقة بالتحديد. إنها دائمًا تشير إلى الوقت نفسه، هل تفهم."وعندما أرى الوقت يا سيد بوارو، أدرك أنه يجب عليَّ فعل شيء، ولا أرغب في فعل هذا الأمر - أكره أن أفعله - ولكن عليَّ أن ...".ثم تحشرج صوته وصمت.قال بوارو بثبات: "وما الشيء الذي عليك فعله؟".قال بينيديكت فارلي بحدة: "في الساعة الثالثة وثمانٍ وعشرين دقيقة، أفتح الدرج الثاني من أسفل على يمين مكتبي، وأخرج مسدسًا أحتفظ به هناك وأحشوه بالطلقات ثم أسير نحو النافذة، ثم - ثم -".قال بوارو: "ماذا؟".قال فارلي هامسًا: "ثم أطلق النار على نفسي...".ثم خيم الصمت.بعدها قال بوارو: "هل هذا هو حلمك؟".قال فارلي: "نعم".قال بوارو: "وهل يتكرر هذا الحلم كل ليلة؟".قال فارلي: "نعم".قال بوارو: "وماذا يحدث بعدما تطلق النار على نفسك؟".قال فارلي: "أستيقظ".أومأ بوارو برأسه ببطء مفكرًا، وقال: "يهمني أن أعرف، هل تحتفظ بالفعل بمسدس في ذلك الدرج الذي ذكرته؟".قال فارلي: "نعم".قال بوارو: "لماذا؟".قال فارلي: "أنا أفعل ذلك دائمًا، فمن الأفضل أن أكون مستعدًّا".قال بوارو: "مستعدًّا لماذا؟".قال فارلي في ضيق: "على رجل في موقعي أن يكون حذرًا، فلكل الأثرياء أعداء".لم يحاول بوارو مناقشة هذا الأمر، بل ظل صامتًا للحظات ثم قال: "لِمَ أرسلت في طلبي؟".قال فارلي: "سأخبرك. في بداية الأمر، استشرت طبيبًا - ثلاثة أطباء بالتحديد".قال بوارو: "ثم ماذا؟".قال فارلي: "أخبرني الأول بأن الأمر متعلق بالنظام الغذائي، وكان رجلاً مسنًّا. أما الثاني فكان شابًّا من المدرسة المعاصرة في علم النفس، وطمأنني إلى أن هذا الحلم متعلق بحدث ما وقع في أثناء طفولتي في هذا الوقت بالتحديد - الثالثة وثمانٍ وعشرين دقيقة، وقال إني مصر على عدم تذكر الحدث، وإني أرمز إليه بمحاولة تدمير نفسي. كان هذا تفسيره".سأله بوارو: "وماذا قال الطبيب الثالث؟".ارتفع صوت فارلي في غضب وقال: "كان شابًّا أيضًا، وكانت لديه نظرية غير معقولة، فقد قال إني قد مللت الحياة وإنني لم أعد أطيق احتمالها لدرجة أني أرغب في إنهائها؛ ولكن حيث إن الاعتراف بصحة هذه الحقيقة يتضمن اعترافًا ضمنيًّا بأني فاشل، فإني أرفض مواجهة هذه الحقيقة في أثناء يقظتي؛ ولكن، عندما أنام، تُزال جميع القيود وأبدأ بفعل ما أرغب في فعله - أضع نهاية لحياتي".قال بوارو: "هل نظريته هي أنك ترغب في الانتحار دون أن تعي هذا؟".صاح فارلي بقوة قائلاً: "وهذا مستحيل - مستحيل. إنني سعيد في حياتي؛ حيث إن لديَّ كل ما أريد - يمكن للمال شراء أي شيء. إن هذه النظرية محض خيال - لا يمكن تصديق أني قد أفكر بهذه الطريقة".نظر له بوارو باهتمام، فربما أنبأه شيء ما من مصافحته ليده وحشرجة صوته المرتعشة بأنه يعيش في حالة إنكار شديد، وأن إصراره على هذه الحالة الشديدة ينبع من عدم ثقته بنفسه.ولكن تحدى بوارو نفسه وقال: "وما دوري في هذا الأمر برمته يا سيدي؟".هدأ بينيديكت فارلي فجأة، ونقر على الطاولة التي بجواره بطرف أصبعه، وقال: "هناك احتمال آخر، وإن كان صحيحًا فلابد من أنك الرجل الذي سيكتشفه. إنك رجل شهير وقد حللت مئات القضايا - قضايا رائعة وغير تقليدية، وقد تعرف إن كان هناك من يعلم".قال بوارو: "يعلم ماذا؟".قال فارلي هامسًا: "إن كان هناك من يرغب في قتلي... هل يمكن أن يفعلوها بهذه الطريقة؟ هل يمكنهم أن يجعلوني أرى الحلم ذاته كل ليلة؟".قال بوارو: "التنويم المغناطيسي، هل تعني هذا؟".قال فارلي: "نعم".فكر هيركيول بوارو في السؤال قليلاً ثم قال: "أعتقد أنه أمر محتمل، ولكن يجب طرح هذا السؤال على طبيب".قال فارلي: "ألم تمر عليك مثل هذه الحالة في أي من قضاياك السابقة؟".قال بوارو: "لا، لا أعتقد هذا".قال فارلي: "هل ترى ما أنا بصدده؟ لقد جعلوني أرى الحلم ذاته ليلة بعد ليلة، كل ليلة - ثم ذات يوم، سيكون الإيحاء أقوى من مقاومتي - وسأتصرف طبقًا له، وسأفعل ما أحلم به كثيرًا، وأقتل نفسي".هز بوارو رأسه، فقال فارلي: "ألا تعتقد أن هذا الأمر ممكن؟".هز بوارو رأسه وقال: "ممكن؟ كلا، على الإطلاق".قال فارلي: "ولكنك تعتقد أنه غير محتمل، أليس كذلك؟".قال بوارو: "غير محتمل على الإطلاق".غمغم بينيديكت فارلي: "لقد قال الطبيب الأمر ذاته..."، ثم أصبح صوته أجش مرة أخرى، وصاح: "ولكن، لماذا يراودني هذا الحلم؟ لماذا؟ لماذا؟".هز بوارو رأسه، فقال بينيديكت فارلي فجأة: "هل أنت على يقين من أنك لم تقابل مثل هذه الحالة من قبل في قضاياك السابقة؟".قال بوارو: "مطلقًا".قال فارلي: "هذا ما أردت معرفته".تنحنح بوارو في أدب، وقال: "هل تسمح لي بسؤال؟".قال فارلي: "وما هو؟ ما هو؟ اسأل ما يحلو لك".قال بوارو: "من تشك في أنه يرغب في قتلك؟".صاح فارلي قائلاً: "لا أحد، لا أحد على الإطلاق".قال بوارو في إصرار: "ولكن، لقد سيطرت هذه الفكرة على عقلك، أليس كذلك؟".قال فارلي: "كنت أريد أن أعرف إن كان هذا الأمر محتملاً".قال بوارو: "من منطلق خبرتي، لا، غير محتمل. بالمناسبة، هل خضعت للتنويم المغناطيسي من قبل؟".قال فارلي: "لا بالطبع. هل تعتقد أني قد أسلم نفسي لهذه الخزعبلات؟".قال بوارو: "أعتقد إذن أن نظريتك غير محتملة على الإطلاق".قال فارلي: "ولكن، ماذا عن الحلم أيها الأحمق، ماذا عن الحلم؟".قال بوارو مفكرًا: "إن الحلم أمر مثير للاهتمام للغاية"، ثم صمت للحظة وعاد ليقول: "أود أن أرى المشهد الذي تراه في حلمك - الطاولة والساعة والمسدس".قال فارلي: "بالطبع، هيا بنا إلى الغرفة المجاورة".لملم فارلي أطراف روبه حول نفسه وهم بالنهوض، ولكن بدا كأن فكرة ما قد راودته فجأة، فجلس مرة أخرى، وقال: "لا، لا يوجد ما يجب أن تراه هناك، لقد أخبرتك بكل ما أريد قوله".قال بوارو: "ولكني أود أن أرى بنفسي -".صاح فارلي: "لا حاجة بك لهذا، فلقد أعطيتني رأيك، وانتهى الأمر".هز بوارو كتفيه من دون اكتراث، ونهض واقفًا وهو يقول: "كما تحب. آسف يا سيد فارلي على عدم مساعدتي إياك بالقدر الذي كنت تتوقعه".كان بينيديكت فارلي يحدق إلى شيء ما أمامه مباشرة متحاشيًا النظر إلى بوارو، وقال صائحًا: "لا أريد الكثير من الحماقات لتقال هنا، فلقد أخبرتك بالحقائق - ولم تقنعك أي منها، وهذا ينهي الأمر. يمكنك أن ترسل فاتورة أتعابك".قال بوارو بجفاء وهو يسير نحو الباب: "سأفعل".ناداه المليونير فجأة وقال: "أريد ذلك الخطاب الذي أرسلته لك".قال بوارو: "الخطاب الذي كتبه سكرتيرك؟".قال فارلي: "نعم".ارتفع حاجبيا بوارو، ووضع يده في جيبه وأخرج الورقة المطوية، وسلمها للرجل العجوز الذي أخذها ونظر فيها ثم وضعها على الطاولة بجواره وهو يومئ برأسه.تحرك بوارو مرة أخرى نحو الباب، وكان يشعر بالحيرة، وكان عقله المنشغل يعيد دراسة القصة التي سمعها مرارًا وتكرارًا، ولكن وفي خضم انشغاله الذهني، تصاعد في داخله شعور غير مريح بأن هناك خطبًا ما، وأن هذا الخطب يخصه هو وليس بينيديكت فارلي.عندما وضع بوارو يده على مقبض الباب، أصبح ذهنه صافيًا، وأدرك أنه مخطئ، فالتفت مرة أخرى إلى داخل الغرفة، وقال: "معذرة يا سيدي. في خضم اهتمامي بمشكلتك ارتكبت خطأ بسيطًا، فهذا الخطاب الذي أعطيتك إياه - كنت قد وضعت يدي بالخطأ في جيبي الأيمن بدلاً من جيبي الأيسر -".قال فارلي: "ماذا تعني؟ ماذا تعني؟".ابتسم بوارو بتهذيب وقال: "إن الخطاب الذي أعطيتك إياه الآن - مع فائق اعتذاري، يخص من تغسل لي ثيابي ويتحدث عن ياقات قمصاني"، ثم وضع يده في جيبه الأيسر وقال: "هذا هو خطابك".زمجر فارلي قائلاً، بعدما اختطف الخطاب من يد بوارو: "لِمَ لا تركز فيما تفعل؟".استعاد بوارو الخطاب الآخر، واعتذر مرة أخرى وغادر الغرفة.وقف بوارو للحظات خارج باب الغرفة في الممر الواسع، وكان يقع أمامه مباشرة مقعد خشبي طويل من خشب البلوط أمامه مائدة طويلة عتيقة الطراز، وكان على الطاولة مجموعة من المجلات، كما كان هناك مقعدان آخران لهما ذراعان وطاولة تحمل الزهور. فذكَّره المكان بغرفة الانتظار في عيادة طبيب الأسنان.كان الخادم ينتظره في الطابق السفلي ليريه الطريق للخارج.قال الخادم: "هل أطلب لك سيارة أجرة يا سيدي؟".قال بوارو: "لا، شكرًا لك. لا بأس، سأسير قليلاً".وقف بوارو قليلاً على الرصيف منتظرًا مرور السيارات قبل أن يعبر الطريق المزدحم بها.كان بوارو يقطب حاجبيه بشدة، وقال لنفسه: "لا، لا يمكنني أن أفهم أي شيء، لا يوجد أي شيء منطقي في الأمر. يؤسفني أن أعترف بالأمر، ولكني أنا هيركيول بوارو متحير للغاية".يمكننا أن نطلق على ما حدث سابقًا المشهد الأول من المسرحية، وجاء المشهد الثاني بعد أسبوع، والذي نفتتحه بمكالمة هاتفية من الطبيب جون ستيلنجفليت.قال الطبيب دون أية مراعاة لكونه طبيبًا: "هل هذا أنت يا بوارو يا صديقي العجوز؟ ستيلنجفليت يحدثك".قال بوارو: "هذا أنا يا صديقي. ما الأمر؟".قال الطبيب: "أحدثك من منزل نورثواي - منزل بينيديكت فارلي".ظهر الاهتمام على صوت بوارو وهو يقول: "ماذا؟ ماذا عن السيد فارلي؟".قال الطبيب: "لقد مات السيد فارلي، لقد أطلق النار على نفسه عصر اليوم".خيم الصمت قليلاً، ثم قال بوارو: "نعم...".قال الطبيب: "أرى أنك لم تندهش، هل تعلم شيئًا عن هذا الأمر يا صديقي؟".قال بوارو: "ولِمَ تعتقد هذا؟".قال الطبيب: "حسنًا، إن الأمر لا يتعلق بالاستنتاجات الرائعة أو بالتخاطر أو أي شيء من هذا القبيل. ولكننا عثرنا على رسالة من السيد فارلي، فلقد طلب رؤيتك منذ حوالي أسبوع".قال بوارو: "نعم".قال الطبيب: "معنا هنا محقق غير ماهر من الشرطة - ويجب أن تكون حذرًا عندما يُطلق أحد هؤلاء المليونيرات النار على نفسه. أتساءل إن كنت ترغب في تفسير بعض الأمور في هذه القضية. إن كنت ترغب في ذلك، فعليك أن تحضر على الفور".قال بوارو: "سأحضر على الفور".قال الطبيب: "رائع يا صديقي. عمل غير متوقع، أليس كذلك؟".قال بوارو مرة أخرى إنه سيحضر على الفور.فقال الطبيب: "إنك لا تريد أن تقول كل شيء عبر الهاتف، أليس كذلك؟ هذا صحيح، إلى اللقاء".بعد ربع الساعة، كان بوارو جالسًا في غرفة المكتبة، تلك الغرفة الطويلة منخفضة السقف الواقعة في الجزء الخلفي من الطابق الأرضي من منزل نورثواي، وكان هناك خمسة أشخاص آخرين في الغرفة: المحقق بارنيت والطبيب ستيلنجفليت والسيدة فارلي، أرملة المليونير الراحل، وجوانا فارلي، ابنته الوحيدة، وهيوجو كورنوورثي، سكرتيره الخاص.كان المحقق بارنيت يشبه الجنود، وكان الطبيب ستيلنجفليت يتعامل بأسلوب مهني مختلف تمامًا عن أسلوبه عبر الهاتف، وكان رجلًا طويل القامة وله وجه طويل وفي الثلاثينيات من عمره. كان يبدو أن السيدة فارلي تصغر زوجها كثيرًا، وكانت امرأة جميلة سوداء الشعر، وكانت شفتاها قاسيتين ولم تكن عيناها السوداوان تعبران عن أي مما يعتمل في صدرها، وكانت تبدو معتدة بنفسها كثيرًا، أما جوانا فارلي فقد كانت فتاة شقراء يغطي وجهها النمش، ويبدو أنها ورثت شكل أنفها وذقنها من والدها. كانت عيناها تنمان عن الذكاء والدهاء، وكان هيوجو كورنوورثي شابًّا وسيمًا وأنيق الملبس، وكان يبدو عليه الذكاء والكفاءة.بعد التعارف وإلقاء التحيات، قص بوارو ببساطة ووضوح ملابسات زيارته، وما قصه عليه بينيديكت فارلي، وكان الجميع يستمعون له بانتباه.قال المحقق: "إنها قصة غريبة للغاية. حلم؟ هل تعلمين أي شيء عن هذا يا سيدة فارلي؟".أحنت السيدة فارلي رأسها وقالت: "لقد أخبرني زوجي بالأمر، فقد كان يؤرقه كثيرًا، ولقد أخبرته بأن هذا بسبب عسر الهضم - فقد كان نظامه الغذائي غريبًا للغاية - واقترحت عليه الذهاب للطبيب ستيلنجفليت".هز الشاب رأسه وقال: "ولكنه لم يستشرني، ومن خلال قصة السيد بوارو، أعتقد أنه ذهب لشارع هارلي".قال بوارو: "أود الاستعانة برأيك في هذا الأمر أيها الطبيب . لقد أخبرني السيد فارلي بأنه ذهب إلى ثلاثة من المتخصصين. ما رأيك في النظريات التي قدموها؟".قطب ستيلنجفليت حاجبيه، وقال: "من الصعب الحكم عليها، وعليك أن تضع في اعتبارك أنه ربما لم يكن ما قيل لك هو بالضبط ما قالوه. إنه تفسير شخص غير متخصص".قال بوارو: "هل تعني أنه فسر كلامهم بشكل خاطئ؟".قال الطبيب: "ليس بالضبط. أعني أنهم قد يخبرونه بأمر ما بمصطلحاتهم المهنية، وقد يحرف من المعنى قليلاً، ومن ثم يعيد قوله بطريقته".قال بوارو: "إن ما أخبرني به إذن ليس ما أخبره به الأطباء بالضبط".قال الطبيب: "أعتقد هذا. لقد فهم الأمر بشكل خاطئ، إن كنت تدرك ما أعنيه".أطرق بوارو برأسه مفكرًا، ثم قال: "هل تعرفون الأطباء الذين استشارهم؟".هزت السيدة فارلي رأسها نفيًا، فقالت جوانا فارلي: "لم يكن أي منا يعرف أنه استشار أي أطباء من الأساس".سألها بوارو: "هل حدثك عن حلمه؟".هزت الفتاة رأسها نفيًا.فقال بوارو: "ولا أنت يا سيد كورنوورثي؟".قال كورنوورثي: "لا، لم يذكر شيئًا عن هذا الأمر على الإطلاق، ولقد أرسلت لك الخطاب مثلما أمرني ولكني لم أعرف أي شيء عن سبب رغبته في استشارتك، واعتقدت حينها أنه ربما يريد استشارتك في خطأ ما حدث في العمل".سأل بوارو: "والآن، أخبروني بالحقائق المتعلقة بموت السيد فارلي".نظر المحقق بارنيت إلى السيدة فارلي والطبيب ستيلنجفليت، ثم أخذ على عاتقه دور المتحدث، فقال: "كان السيد فارلي معتادًا العمل في غرفته الخاصة في الطابق الأول عصر كل يوم، وأعتقد أنه كان هناك دمج كبير محتمل بين بعض شركاته -".ثم نظر إلى هيوجو كورنوورثي الذي قال: "شركة كوتشلاينز القابضة".واصل المحقق بارنيت حديثه قائلاً: "فيما يتعلق بهذا الأمر، وافق السيد فارلي على لقاء اثنين من الصحفيين، وقد كان من النادر أن يوافق على شيء من هذا القبيل - مرة واحدة تقريبًا في خلال خمس سنوات، على ما أعتقد. وبناءً عليه، وصل اثنان من المراسلين، أحدهما من المجموعات الإخبارية المتحدة والآخر من اتحاد الصحف الإخبارية، الساعة الثالثة والربع كما طُلب منهما، وانتظرا في الطابق الأول أمام باب غرفة السيد فارلي - وكان هذا هو المكان المعتاد لانتظار الأشخاص الذين يرغبون في مقابلة السيد فارلي، وفي الثالثة والثلث، وصل مبعوث من شركة كوتشلاينز القابضة حاملاً بعض الأوراق المهمة، وتم إدخاله غرفة السيد فارلي حيث سلم الأوراق، ثم رافقه السيد فارلي إلى الباب، ومن هناك تحدث مع الصحفيين وقال:اعذراني أيها السيدان على ترككما تنتظران، ولكن هناك عملًّا مهمًّا عليَّ أن أهتم به، وسأحاول إنهاءه في أسرع وقت ممكن."طمأن الرجلان - السيد أدامز والسيد ستودارت، السيد فارلي إلى أنهما سينتظران حتى ينتهي من عمله، فعاد إلى الغرفة مرة أخرى وأغلق الباب - ولم يره أحد حيًّا مرة أخرى".قال بوارو: "أكمل".قال المحقق: "بعد الرابعة بقليل، خرج السيد كورنوورثي، الحاضر معنا هنا، من غرفته المجاورة لغرفة السيد فارلي ودُهش عندما رأى الصحفيين لا يزالان ينتظران. لقد كان بحاجة لتوقيع السيد فارلي على بعض الخطابات، وظن أنه من الأفضل أن يذكره بأن الصحفييْن لا يزالان في الانتظار؛ لذا دخل الغرفة. ولدهشته، لم يتمكن في البداية من رؤية السيد فارلي وظن أن الغرفة خالية، ولكنه لاحظ وجود حذاء يبرز من خلف المكتب (الموضوع أمام النافذة). فأسرع نحو الحذاء فوجد السيد فارلي راقدًا هناك وقد فارق الحياة، وكان المسدس موضوعًا بجواره."أسرع السيد كورنوورثي خارج الغرفة وطلب من الخادم أن يتصل بالطبيب ستيلنجفليت الذي أخبر السيد كورنوورثي بأن يتصل بالشرطة".سأله بوارو: "هل سمع أحد طلقة الرصاص؟".قال المحقق: "لا، إن صوت زحام الشارع مرتفع للغاية هنا، وكانت نافذة الرواق مفتوحة، ومع أصوات محركات وأبواق السيارات، كان من الصعب للغاية سماع الصوت".أطرق بوارو برأسه مفكرًا، ثم قال: "ما وقت الوفاة المحتمل؟".قال الطبيب ستيلنجفليت: "لقد فحصت الجثة بمجرد وصولي - حوالي الساعة الرابعة واثنتين وثلاثين دقيقة. لقد توفي السيد فارلي قبل وصولي بساعة تقريبًا".ظهر الاهتمام على وجه بوارو، وقال: "إذن، لقد مات في الوقت الذي أخبرني به بالضبط - أي الساعة الثالثة وثمانٍ وعشرين دقيقة".قال ستيلنجفليت: "بالضبط".قال بوارو: "هل توجد أية بصمات أصابع على المسدس؟".قال المحقق: "نعم، بصمات أصابعه".قال بوارو: "وماذا عن المسدس نفسه؟".بدأ المحقق يقول: "كان المسدس الذي يحتفظ به في الدرج الثاني على الجانب الأيمن من مكتبه، كما أخبرك بالتحديد، فلقد قالت السيدة فارلي إنه المسدس نفسه، وكما ترى هناك مدخل واحد فقط للغرفة، الباب المؤدي للرواق. وكان الصحفيان يجلسان أمام الباب مباشرة، وقد أقسما إنه لم يدخل أحد الغرفة منذ تحدث معهما السيد فارلي، وحتى دخول السيد كورنوورثي إلى الغرفة بعد الساعة الرابعة بقليل".قال بوارو: "إذن، تشير جميع الدلائل إلى أن السيد فارلي قد انتحر".ابتسم المحقق بارنيت وقال: "لم يكن ليوجد أي شك في هذا، عدا وجود أمر واحد".قال بوارو: "وما هو؟".قال المحقق: "الخطاب الموجه إليك".ابتسم بوارو أيضًا ثم قال: "لقد فهمت، فعندما يُذكر هيركيول بوارو، تتجه جميع الأفكار نحو احتمال وجود جريمة قتل".قال المحقق بجفاء: "بالضبط، ولكن بعدما وضحت لنا الأمر -".قاطعه بوارو قائلاً: "لحظة واحدة"، ثم التفت إلى السيدة فارلي وقال: "هل خضع زوجك للتنويم المغناطيسي من قبل؟".قالت السيدة فارلي: "لا، أبدًا".قال بوارو: "هل درس التنويم المغناطيسي؟ هل كان مهتمًّا بهذا الأمر؟".هزت رأسها نفيًا وقالت: "لا أعتقد هذا".وفجأة، بدا كأنها لم تعد قادرة على السيطرة على نفسها، فقالت: "يا له من حلم رهيب! إنه أمر غريب! إنه كان يحلم بالأمر نفسه ليلة بعد ليلة، كل ليلة - وبدا الأمر كما لو أن الموت يطارده".تذكر بوارو ما قاله بينيديكت فارلي: "سأتصرف طبقًا له. وسأفعل ما أحلم به كثيرًا، وأقتل نفسي".قال بوارو: "هل فكرت من قبل أن زوجك كان يرغب في التخلص من حياته؟".قالت السيدة فارلي: "لا، على الإطلاق، ربما كان غريبًا في بعض الأحيان...".صاحت جوانا فارلي بصوت عالٍ وواضح: "من المستحيل أن يقتل والدي نفسه، لقد كان يخشى على حياته كثيرًا".قال الطبيب ستيلنجفليت: "إن من يهددون بالانتحار ليسوا من ينتحرون بالفعل يا آنسة فارلي، ولهذا السبب، تكون حالات الانتحار في بعض الأحيان غير قابلة للتفسير".نهض بوارو واقفًا، وقال: "هل يمكنني رؤية الغرفة التي وقع فيها الحادث؟".قال المحقق: "بالطبع، أيها الطبيب ستيلنجفليت -".اصطحب الطبيب بوارو إلى الطابق العلوي.كانت غرفة بينيديكت فارلي أكبر بكثير من غرفة سكرتيره المجاورة، وكانت مفروشة بأثاث فاخر، بمقاعدها الجلدية الوثيرة وسجادتها السميكة، وذلك المكتب الضخم.توجه بوارو خلف المكتب ليرى بقعة داكنة على السجادة أمام النافذة مباشرة، وتذكر قول المليونير: "في الساعة الثالثة وثمانٍ وعشرين دقيقة، أفتح الدرج الثاني من أسفل على يمين مكتبي، وأخرج مسدسًا أحتفظ به هناك وأحشوه بالطلقات ثم أسير نحو النافذة، ثم - ثم - أطلق النار على نفسي".أطرق بوارو برأسه في بطء وقال: "هل كانت النافذة مفتوحة؟".قال الطبيب: "نعم، ولكن، لا يمكن لأحد الدخول عبرها".أخرج بوارو رأسه من النافذة، ورأى أنه لا توجد حافة أو حاجز شرفة أو أية أنابيب بالقرب من النافذة، فلا يمكن حتى لقطة أن تتمكن من الدخول عبر النافذة، وفي مقابل النافذة، كان هناك حائط طويل لأحد المصانع لا توجد به أية نوافذ.قال ستيلنجفليت: "غرفة غريبة ليختارها رجل ثري لتكون ملجأه مع هذا المشهد خارجها؛ حيث إن الأمر يبدو كما لو أنك تنظر إلى حائط سجن".أدخل بوارو رأسه إلى الداخل مرة أخرى، ووقف يحدق إلى الحائط الحجري الصلب وقال: "نعم، أعتقد أن هذا الحائط مهم".نظر له الطبيب باستغراب وقال: "هل تعني، نفسيًّا؟".تحرك بوارو نحو المكتب، ودون اكتراث، أو بدا الأمر كذلك، أمسك ما يُطلق عليه ماسك الكسالى، ولكنه ضغط على اليد، فاندفع الماسك ليصبح على طوله الكامل. وبرفق، التقط بوارو عود ثقاب محروقًا ووضعه بعناية في سلة الأوراق المهملة.قال الطبيب في ضيق: "عندما تنتهي من اللعب بهذه الأشياء...".غمغم هيركيول بوارو: "اختراع عبقري"، ثم أعاد الماسك مرة أخرى بنظام على المكتب، ثم سأل: "أين كانت السيدة والآنسة فارلي وقت الوفاة؟".قال الطبيب: "كانت السيدة فارلي تستريح في غرفتها في الطابق الذي يعلو هذا الطابق، وكانت الآنسة فارلي ترسم في مرسمها في الطابق العلوي من المنزل".طرق بوارو بأصابعه على سطح المكتب لبضع دقائق، ثم قال: "أود أن ألتقي بالآنسة فارلي. هل يمكنك أن تطلب منها الصعود إلى هنا لبعض الوقت؟".قال الطبيب: "كما تحب".حدق إليه الطبيب ستيلنجفليت بفضول، ثم غادر الغرفة، وبعد دقيقتين، فتح باب الغرفة ودخلت جوانا فارلي.قال بوارو: "هل تمانعين يا آنسة أن أطرح عليك بعض الأسئلة؟".نظرت له الفتاة ببرود وقالت: "اسأل ما يحلو لك".قال بوارو: "هل كنت تعلمين أن والدك يحتفظ بمسدس في درج مكتبه؟".قالت: "لا".قال بوارو: "أين كنت أنت ووالدتك - أو بالأصح زوجة أبيك - أليس كذلك؟".قالت جوانا: "نعم، لويز هي زوجة أبي الثانية، وهي تكبرني بثمانية أعوام فقط. هل كنت تسألني عن -؟".قال بوارو: "أين كنتما يوم الخميس الأسبوع الماضي؟ أو الأصح أن أقول، ليلة الخميس".فكرت لدقيقة أو دقيقتين ثم قالت: "الخميس؟ دعني أتذكر. لقد ذهبنا للمسرح لنشاهد مسرحية الكلب الصغير الذي ضحك".قال بوارو: "ألم يعرض عليكما الوالد أن يذهب معكما؟".قالت جوانا: "إنه لم يذهب إلى المسرح على الإطلاق".قال بوارو: "وماذا يفعل في أثناء الليل عادة؟".قالت جوانا: "كان يجلس هنا ليقرأ".قال بوارو: "ألم يكن رجلاً اجتماعيًّا؟".قالت جوانا وهي تنظر له مباشرة: "لقد كانت شخصية أبي شخصية منعزلة ومنفرة، ولم يكن أي ممن يعيشون بالقرب منه يحبه".قال بوارو: "هذا كلام غير واضح بالمرة".قالت جوانا: "أنا أوفر وقتك يا سيد بوارو؛ حيث إني أدرك جيدًا ما ترمي إليه. لقد تزوجت لويز من أبي من أجل ماله، وأنا أعيش هنا لأني لا أملك المال الذي يمكنني من العيش في مكان آخر، فهناك رجل أريد أن أتزوجه، ولكنه فقير، وكان كل ما فعله أبي أن جعله يفقد وظيفته. لقد كان يريدني أن أتزوج من رجل ثري - أمر بديهي لأني وريثته".قال بوارو: "هل ستؤول أموال أبيك إليك؟".قالت جوانا: "لقد ترك نصف مليون جنيه معفاة من الضرائب لـ لويز، زوجته، وهناك أشخاص آخرون يستحقون الإرث، ولكن البقية بأكملها ستؤول إليَّ"، ثم ابتسمت فجأة وقالت: "هل ترى يا سيد بوارو، أن لدي الكثير من الدوافع التي تجعلني أرغب في قتل والدي".قال بوارو: "ما أراه يا آنسة، أنك ورثت ذكاء والدك".قالت جوانا في تأمل: "لقد كان والدي ماهرًا... وكان المرء يشعر معه بأنه يمتلك القوة - قوة دافعة- ولكن كان كل هذا يصبح مريرًا لأنه لم تتبق في روحه أية لمحة من الإنسانية...".استدارت جوانا فارلي نحو الباب وقالت: "هل هناك أسئلة أخرى؟".قال بوارو وقد أمسك بماسك الكسالى: "ثمة سؤالان: هل كان هذا الملقاط متواجدًا هنا طوال الوقت؟".قالت جوانا: "نعم، كان أبي يستخدمه لالتقاط الأشياء من على الأرض، فهو لم يكن يحب الانحناء".قال بوارو: "سؤال أخير، هل كان بصر والدك قويًّا؟".حدقت إليه جوانا، ثم قالت: "لا، إنه لم يكن يرى، أعني لم يكن يرى من دون نظارته، فلقد كان بصره ضعيفًا منذ كان طفلاً".قال بوارو: "وهل كان يرى جيدًا بنظارته؟".قالت جوانا: "نعم، كان يرى جيدًا بنظارته".قال بوارو: "هل كان قادرًا على قراءة الصحف والكلمات الصغيرة؟".قالت جوانا: "نعم".قال بوارو: "هذا كل شيء يا آنسة".غادرت جوانا الغرفة.غمغم بوارو: "لقد كنت غبيًّا. لقد كان الحل أمامي طوال الوقت، ولكن لأنه واضح للغاية، لم أتمكن من رؤيته".انحنى بوارو مرة أخرى إلى خارج النافذة، ورأى على الطريق الضيق بين المنزل والمصنع شيئًا داكنًا صغيرًا.أومأ بوارو برأسه في رضا وهبط إلى الطابق السفلي مرة أخرى.كان الأشخاص الباقون لا يزالون ينتظرون في غرفة المكتبة، فوجه بوارو حديثه إلى السكرتير وقال: "أريدك يا سيد كورنوورثي أن تقص عليَّ بالتفصيل الملابسات الدقيقة لطلب السيد فارلي منك أن ترسل في طلبي. على سبيل المثال، متى طلب منك السيد فارلي كتابة الخطاب؟".قال السكرتير: "عصر يوم الأربعاء - في الساعة الخامسة والنصف على ما أتذكر".قال بوارو: "هل كانت هناك تعليمات محددة بشأن إرسال الخطاب؟".قال السكرتير: "لقد طلب مني أن أرسله بنفسي".قال بوارو: "وهل فعلت؟".قال السكرتير: "نعم".قال بوارو: "هل أعطى أية تعليمات خاصة للخادم فيما يتعلق باستقبالي؟".قال السكرتير: "نعم، لقد أمرني بأن أخبر هولمز (الخادم) بأن هناك رجلًا سيأتي في التاسعة والنصف، وكان عليه أن يسأل الرجل عن اسمه وأن يطلب منه رؤية الخطاب".قال بوارو: "إنها إجراءات احترازية غريبة، أليس كذلك؟".هز كورنوورثي كتفيه وقال: "لقد كان السيد فارلي رجلًا غريب الأطوار".قال بوارو: "هل كانت هناك تعليمات أخرى؟".قال السكرتير: "نعم، لقد أخبرني بأن آخذ بقية الليلة إجازة".قال بوارو: "وهل فعلت؟".قال السكرتير: "نعم، بعدما تناولت العشاء، ذهبت إلى السينما على الفور".قال بوارو: "ومتى عدت؟".قال السكرتير: "لقد عدت في حوالي الحادية عشرة والربع".قال بوارو: "هل رأيت السيد فارلي مرة أخرى تلك الليلة؟".قال السكرتير: "لا".قال بوارو: "وهل ذكر لك أي شيء عن الأمر في صباح اليوم التالي؟".قال السكرتير: "لا".صمت بوارو للحظة، ثم تابع حديثه قائلاً: "عندما حضرت إلى هنا لم أدخل غرفة السيد فارلي".قال السكرتير: "لا، لقد أخبرني بأن أخبر هولمز بأن يدخلك إلى غرفتي".قال بوارو: "ولِمَ هذا؟ أتعرف؟".هز كورنوورثي رأسه نفيًا وقال: "لم أجادل السيد فارلي في أي من أوامره، حيث إنه كان سيستاء كثيرًا إن فعلت".قال بوارو: "هل يستقبل زواره عادة في غرفته؟".قال السكرتير: "أحيانًا، ولكن ليس دائمًا، فأحيانًا كان يلتقي بهم في غرفتي".قال بوارو: "وما سبب هذا؟".فكر هيوجو كورنوورثي قليلاً ثم قال: "لا أعلم، لم أفكر في هذا الأمر من قبل".التفت بوارو إلى السيدة فارلي وقال: "هل تسمحين لي بأن أقرع الجرس لأستدعي الخادم؟".قالت السيدة فارلي: "بالطبع يا سيد بوارو".استجاب هولمز لقرع الجرس بسرعة وبكل أدب.وقال: "هل قرعت الجرس في طلبي يا سيدتي؟".أشارت السيدة فارلي إلى بوارو، فالتفت إليه هولمز في أدب وقال: "أمرك يا سيدي".قال بوارو: "ماذا كانت الأوامر الصادرة لك في ليلة الخميس التي حضرت فيها إلى هنا؟".تنحنح هولمز وقال: "بعد العشاء، أخبرني السيد كورنوورثي بأن السيد فارلي يتوقع وصول السيد هيركيول بوارو في التاسعة والنصف، وكان عليَّ أن أتأكد من اسم الرجل وعليَّ أن أتأكد من المعلومات عبر رؤية خطاب أرسله السيد فارلي، ثم عليَّ أن أقوده إلى غرفة السيد كورنوورثي".قال بوارو: "هل أخبرك أيضًا بأن تطرق الباب قبل الدخول؟".بدا النفور على وجه الخادم ثم قال: "كان هذا أحد أوامر السيد فارلي، فقد كان عليَّ دائمًا أن أطرق الباب عندما يكون هناك ضيف بصحبتي - زوار العمل".قال بوارو: "لقد حيرني هذا الأمر. هل تلقيت أية تعليمات أخرى تخصني؟".قال هولمز: "لا يا سيدي، فبعدما أخبرني السيد كورنوورثي بما أخبرتك به، غادر المنزل".قال بوارو: "ومتى كان هذا؟".قال هولمز: "الساعة التاسعة إلا عشر دقائق يا سيدي".قال بوارو: "هل رأيت السيد فارلي بعد هذا؟".قال الخادم: "نعم يا سيدي، فلقد حملت له كوبًا من الماء الساخن في الساعة التاسعة كالعادة".قال بوارو: "هل كان حينها في غرفته أم في غرفة السيد كورنوورثي؟".قال هولمز: "بل كان في غرفته يا سيدي".قال بوارو: "هل لاحظت أي شيء غريب في الغرفة؟".قال هولمز: "غريب؟ لا يا سيدي".قال بوارو: "أين كانت السيدة والآنسة فارلي؟".قال الخادم: "كانتا قد ذهبتا إلى المسرح يا سيدي".قال بوارو: "شكرًا لك يا هولمز، هذا كل شيء".انحنى هولمز وغادر الغرفة، فالتفت بوارو نحو أرملة المليونير وقال: "سؤال آخر يا سيدة فارلي. هل نظر زوجك قوي؟".قالت السيدة فارلي: "لا، ليس من دون نظارته".قال بوارو: "هل كان نظره ضعيفًا للغاية؟".قالت السيدة فارلي: "نعم، لقد كان عاجزًا من دون نظارته".قال بوارو: "هل يمتلك العديد من النظارات؟".قالت: "نعم".قال بوارو، وهو يضطجع في مقعده: "أظن أن هذا الأمر يحسم القضية...".خيم الصمت على الغرفة، كان جميع من الغرفة ينظرون بفضول إلى الرجل الضئيل الذي يداعب شاربه، وظهرت الحيرة على وجه المحقق، وقطب الطبيب ستيلنجفليت حاجبيه، وكان كورنوورثي يحدق إليه دون أن يستوعب الأمر، وحدقت إليه السيدة فارلي في دهشة، وبدت جوانا فارلي متطلعة لما سيُقال.كسرت السيدة فارلي حاجز الصمت وقالت: "لا يمكنني أن أفهم يا سيد بوارو. الحلم -".قال بوارو: "نعم. لقد كان هذا الحلم على قدر كبير من الأهمية".ارتجفت السيدة فارلي ثم قالت: "لم أؤمن بأية أمور خارقة للطبيعة من قبل، أما الآن، أن تحلم الحلم نفسه كل ليلة -".قال الطبيب ستيلنجفليت: "أمر غريب، غريب! لو لم نسمع ما قصصته لنا يا سيد بوارو، ولو لم تكن سمعته من صاحب الشأن نفسه -"، ثم سعل في إحراج، ثم استعاد أسلوبه العملي وقال: "أستميحك عذرًا يا سيدة فارلي، لو لم يخبرك السيد فارلي بنفسه بهذه القصة -".قال بوارو وقد اتسعت عيناه اللتان كانتا نصف مغمضتين: "بالضبط. لو لم يخبرني بينيديكت فارلي -".صمت بوارو للحظة وهو يجول ببصره في الجالسين، وقال: "حدثت بعض الأمور في تلك الليلة لم أتمكن من تفسيرها. أولاً، ما الهدف من إحضار الخطاب معي؟".قال كورنوورثي: "لإثبات هويتك".قال بوارو: "لا، ليس هذا يا عزيزي. إن هذه الفكرة سخيفة للغاية، بل لابد من وجود سبب أكثر أهمية؛ حيث إن السيد فارلي لم يطلب رؤية ذلك الخطاب الذي تسلمته منه، بل طلب مني أن أتركه خلفي عندما هممت بالمغادرة، كما أنه لم يمزقه، كما عُثر عليه بين أوراقه عصر اليوم. لم احتفظ به إذن؟".قالت جوانا فارلي بصوت مرتعش: "كان يرغب في حال حدث له مكروه أن تعلم الشرطة بالحلم الذي كان يراه".أومأ بوارو برأسه موافقًا وقال: "إنك ذكية يا آنسة، ولابد أن هذا هو الهدف الوحيد من الاحتفاظ بالخطاب. فعندما يموت السيد فارلي، ستُقَصُّ قصة هذا الحلم الغريب. لقد كان هذا الحلم غريبًا للغاية، وهذا الحلم كان ضروريًّا يا آنسة".تابع بوارو حديثه قائلاً: "والآن، سأنتقل للنقطة الثانية. بعد سماع القصة، طلبت من السيد فارلي أن يريني المكتب والمسدس، وكاد يهم بفعل هذا ولكنه تحول للرفض فجأة. لِمَ رفض؟".لم يحاول أحد إجابته هذه المرة.فتابع حديثه قائلاً: "سأصوغ السؤال بشكل آخر: ما الذي كان يوجد في غرفة السيد فارلي، ولم يرغب في أن أراه؟".خيم الصمت التام.قال بوارو: "نعم، الأمر صعب، ولكن، كان هناك سبب وجيه لأن يستقبلني السيد فارلي في غرفة السكرتير، ورفضه جعلي أدخل غرفته. كان هناك شيء ما في غرفته لم يكن يرغب في أن أراه."والآن، سأنتقل إلى النقطة الثالثة التي عجزت عن تفسيرها في تلك الليلة، فلقد طلب مني السيد فارلي الخطاب الذي أرسله لي بينما كنت أهم بالمغادرة، ولكني أعطيته خطابًا موجهًا لي من المرأة التي تغسل ملابسي بطريق الخطأ، فنظر إلى الخطاب ثم وضعه على الطاولة بجواره، ولكني اكتشفت الخطأ الذي وقعت فيه قبل المغادرة - وصححت الخطأ. بعد ذلك، غادرت المنزل، وأقر أني كنت متحيرًا للغاية. فقد كان اللقاء بأكمله، وخاصة الحدث الأخير، لا يمكن تفسيره".جال ببصره في وجوه الحاضرين في الغرفة، وقال: "ألا ترون هذا؟".قال ستيلنجفليت: "لا أعلم ما دخل المرأة التي تغسل ملابسك بالموضوع يا بوارو".قال بوارو: "إن من تغسل لي ملابسي مهمة للغاية، فلقد كانت تلك المرأة التعسة التي تدمر ياقات قمصاني مفيدة للمرة الأولى في حياتها. ألا ترون أن الأمر واضح، لقد نظر السيد فارلي إلى الخطاب - نظرة واحدة كانت ستجعله يدرك أنه الخطاب الخاطئ؛ ولكنه لم يدرك هذا. لماذا؟ لأنه لم يكن قادرًا على الرؤية بشكل جيد".قال المحقق بارنيت بحدة: "ألم يكن يرتدي نظارته؟".قال بوارو: "بلى، لقد كان يرتدي نظارته، وهذا ما يجعل الأمر مثيرًا للاهتمام".ثم مال بوارو إلى الأمام وقال: "لقد كان حلم السيد فارلي مهمًّا للغاية، فلقد كان يحلم بأنه ينتحر، وبعد فترة قصيرة، ينتحر بالفعل. إنكم تقولون إنه كان بمفرده في الغرفة وعُثر على مسدس بجواره، ولم يكن أحد قد دخل الغرفة في الوقت الذي أُطلق فيه الرصاص عليه. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أنه انتحر".قال ستيلنجفليت: "نعم".هز بوارو رأسه نفيًا، وقال: "بل على النقيض. لقد كانت جريمة قتل. جريمة قتل غير معتادة وقد خُطط لها ببراعة تامة".ومرة أخرى، انحنى نحو الأمام وهو يطرق على الطاولة وعيناه الخضراوان تلمعان، وقال: "لِمَ لم يسمح لي السيد فارلي بدخول غرفته تلك الليلة؟ ما الذي كان يوجد هناك ولا يريدني أن أراه؟ أعتقد يا أصدقائي أنه كان بها بينيديكت فارلي نفسه".ابتسم بوارو عندما رأى الوجوه الواجمة، وقال: "نعم، نعم. إن ما أقوله ليس هراءً. لِمَ لم يتمكن السيد فارلي الذي التقيته من التفرقة بين خطابين مختلفين تمام الاختلاف؟ لأنه يا أصدقائي، كان رجلًا صحيح البصر يرتدي نظارة فائقة القوة، ومن شأن هذه النظارات ألا تجعل الرجل ذا البصر الجيد يرى أي شيء، أليس كذلك أيها الطبيب؟".غمغم ستيلنجفليت: "نعم، بالطبع".قال بوارو: "كما أني شعرت عندما تحدثت مع السيد فارلي بأنني أتحدث مع شخص مزيف، ممثل يلعب دوره. تخيلوا المشهد، غرفة معتمة ومصباح تم توجيه ضوئه بعيدًا عن الشخص الجالس في المقعد لكي يؤثر على رؤية الشخص الجالس أمامه، وكل ما رأيته كان الروب المرقع الشهير، والأنف المدبب (والذي تم تزييفه باستخدام أنف صناعي) والشعر الأبيض، وعدسات قوية تخفي عينيه. ما الدليل على أن السيد فارلي كان قد رأى هذا الحلم؟ قصتي وشهادة السيدة فارلي. ما الدليل على أن السيد فارلي كان يحتفظ بمسدس في درج مكتبه الأيمن؟ مرة أخرى قصتي وشهادة السيدة فارلي. شخصان دبرا هذه الفكرة المزيفة - السيدة فارلي وهيوجو كورنوورثي. لقد كتب لي كورنوورثي الخطاب وأعطى تعليماته للخادم، ثم خرج متظاهرًا بالذهاب إلى السينما، ولكنه دخل المنزل مرة أخرى على الفور مستخدمًا مفتاحه، ودخل غرفته، وغير من هيئته وتنكر في صورة بينيديكت فارلي."ثم نأتي لعصر اليوم، فلقد سنحت الفرصة التي كان ينتظرها السيد كورنوورثي، فقد كان هناك شاهدان جالسان في الرواق ليشهدا بأنه لم يدخل أو يخرج أحد من غرفة السيد فارلي. انتظر كورنوورثي حتى أصبح صخب الزحام عاليًا، ثم انحنى خارج نافذته وباستخدام ماسك الكسالى الذي أخذه من على مكتب فارلي في الغرفة المجاورة يمسك بشيء ما ويصدمه بنافذة الغرفة. فيتوجه بينيديكت فارلي نحو النافذة، وحينها يجذب كورنوورثي الماسك إلى الخلف عندما ينحني فارلي نحو الخارج ليستطلع الأمر، ومع مرور بعض الشاحنات الصاخبة، يُطلق كورنوورثي النار من المسدس في يده الأخرى. هناك حائط أصم في الجهة المقابلة من النافذة، وبهذا، لن يوجد أي شهود على الجريمة، ينتظر كونوورثي لنصف ساعة، ثم يجمع بعض الأوراق، ويخفي الماسك والمسدس بداخلها، ويخرج إلى الرواق متوجهًا إلى الغرفة المجاورة، ويعيد الماسك إلى مكانه على المكتب، ويضع المسدس بجوار جثة فارلي بعد طبع بصمات أصابعه عليها، ويخرج مسرعًا لنشر رواية أن السيد فارلي قد انتحر."ثم يرتب وجود الخطاب الذي أرسله لي بين أوراق المجني عليه حتى أقص روايتي عندما تُطلب شهادتي - القصة التي سمعتها من السيد فارلي نفسه - عن الحلم الغريب. ذلك الدافع الغريب الذي جعله يقتل نفسه، ومن ثم سيناقش بعض السذج نظرية التنويم المغناطيسي - ولكن، سيتوصلون في نهاية المطاف إلى أن اليد التي أطلقت النار من المسدس هي يد بينيديكت فارلي نفسه".توجهت عينا بوارو إلى وجه الأرملة، ونظر برضا إلى دلالات الخوف والشحوب والفزع التي ظهرت عليه.ثم اختتم بوارو حديثه قائلاً: "وبهذا، نكون قد وصلنا للخاتمة السعيدة، ربع مليون جنيه وقلبان وقعا في الحب...".2سار كل من الطبيب جون ستيلنجفليت وهيركيول بوارو حول منزل نورثواي، وعلى يمينهما كان يوجد الحائط الطويل للمصنع، وفوقهما على اليسار، كانت تقع نافذتا غرفتي كل من بينيديكت فارلي وهيوجو كورنوورثي. فتوقف بوارو وانحنى ليلتقط شيئًا ما - قطة سوداء محشوة.قال بوارو: "وجدتها. هذا هو الشيء الذي حمله كورنوورثي إلى نافذة فارلي باستخدام ماسك الكسالى. أتذكر، لقد كان يكره القطط؟ ومن الطبيعي أن يهرع نحو النافذة".قال الطبيب: "لِمَ لم يأت كورنوورثي ليلتقط هذا القط بعد أن أسقطه؟".قال بوارو: "ولِمَ يفعل هذا؟ إن فعله هذا الأمر كان سيضعه في دائرة الشكوك. ولو عُثر عليه، فسيعتقد أي شخص أن طفلًا صغيرًا كان مارًّا من هنا وأسقطه".قال ستيلنجفليت متنهدًا: "نعم. كان هذا ما سيفكر فيه أي شخص عادي؛ ولكن ليس هيركيول العجوز. أتعلم يا صديقي العجوز، حتى اللحظة الأخيرة، كنت أعتقد أنك ستخرج بنظرية عن جريمة قتل تم الإيحاء بها لعقل فارلي الباطن؟ وأراهن أن المجرمين قد فكرا كذلك أيضًا. إن هذه المرأة مجنونة. أرأيت كيف انهارت. ربما كان كورنوورثي سينجو بفعلته لو لم تتصرف بهستيرية وتحاول تشويه جمالك بأظافرها. لقد تمكنت من رفعها من فوقك في الوقت المناسب".صمت الطبيب للحظة ثم قال: "أظن أن الفتاة تعجبني، إنها فتاة صلبة وذكية، وأعتقد أن الجميع سيعتقدون أني أسعى وراء مالها إن تقدمت لخطبتها...؟".قال بوارو: "لقد وصلت متأخرًا يا صديقي، فهناك من يشغل قلبها بالفعل، وقد فتح موت والدها الطريق أمام سعادتها".قال ستيلنجفليت: "دعك من كل هذا، لقد كان لديها دافع قوي لأن تزيح والدها الكريه من طريقها".قال بوارو: "إن الدافع والفرصة ليسا كافيين، بل يجب أن يتوافر أيضًا السلوك الإجرامي".قال ستيلنجفليت: "إني أتساءل، هل يمكن أن ترتكب جريمة في وقت ما يا بوارو؟ أعتقد أنك ستنجو منها دون أن يشك فيك أحد. في واقع الأمر، ستكون سهلة للغاية بالنسبة لك. أعني أنك ستتمكن من إمالة الكفة نحوك بكل سهولة".قال بوارو: "هذه فكرة إنجليزية تقليدية".حماقة جرينشو1وقف الرجلان على ناصية أيكة من الشجيرات.وقال رايموند ويست: "لقد وصلنا. ها هو ذا".أخذ هوراس بيندلر شهيقًا عميقًا، وصاح قائلاً: "يا إلهي. إنه رائع". ارتفع صوته بحشرجة عالية تدل على سعادته الجمة، ثم انخفض صوته مرة أخرى في إعجاب شديد، وقال: "إنه مكان لا يُصدق، فهو ليس من هذا العالم. إنه تحفة رائعة".قال رايموند ويست: "لقد اعتقدت أنه سيعجبك".قال هوراس: "يعجبني؟ يا إلهي -"، وخانته كلماته ولم يتمكن من إكمال حديثه، ثم فك حزام كاميرته وبدأ بالتصوير، وهو يقول: "سيكون إحدى الجواهر البارزة في مجموعة صوري. ألا تعتقد - مثلما أفعل - أنه من الرائع أن تمتلك مجموعة صور عن تلك المباني الضخمة؟ لقد طرأت عليَّ الفكرة ذات ليلة منذ سبع سنوات بينما كنت أستحم. لقد كانت جوهرتي البارزة الأخيرة هي منزل كامبو سانتو في مدينة جنوة، ولكني أعتقد أن هذا المنزل يفوقه. ما اسم هذا المنزل؟".قال رايموند: "لا أعلم".قال هوراس: "أعتقد أن لديه اسمًا، أليس كذلك؟".قال رايموند: "يجب هذا، ولكن، في واقع الأمر، جميع الناس هنا لا يطلقون عليه أي اسم عدا حماقة جرينشو".قال هوراس: "وهل جرينشو هو من بناه؟".قال رايموند: "نعم، في عام 1860 أو 1870 أو شيء من هذا القبيل، فلقد كان أنجح رجال عصره، حيث كان صبيًّا فقيرًا تمكن من تحقيق ثروة كبيرة، وقد انقسمت آراء الناس حول سبب بنائه لهذا المنزل، فمنهم من اعتقد أنه بناه بسبب ثروته الكبيرة، ومنهم من اعتقد أنه بناه من أجل إبهار خصومه، وإن كان السبب الأخير هو الصحيح، فإنه لم يبهر خصومه على الإطلاق، حيث إن ما حدث بعد ذلك هو أنه إما أفلس أو اقترب من ذلك، لذا، أطلقوا على المنزل اسم حماقة جرينشو".أصدرت كاميرة هوراس صوت نقرة، وقال بصوت ينم عن الرضا: "لقد انتهيت. ذكرني أن أريك الصورة رقم 310 من مجموعتي. مدفأة رخامية رائعة على الأسلوب الإيطالي"، ثم أضاف وهو ينظر للمنزل: "لا يمكنني أن أستوعب كيف فكر السيد جرينشو في كل هذا".قال رايموند: "الأمر واضح. لقد زار قصر شاتو دي لا لوا، أليس كذلك؟ تلك الأبراج تشبهه، وبعد ذلك، وللأسف، يبدو أنه سافر إلى الشرق؛ حيث إن تأثير قصر تاج محل واضح للغاية. يعجبني هذا الجناح المغربي، وتلك الشرفات المأخوذة عن قصور مدينة البندقية".قال هوراس: "إني أتساءل، كيف تمكن من العثور على مهندس معماري قادر على تنفيذ جميع هذه الأفكار".هز رايموند كتفيه وقال: "أعتقد أنه لم يواجه صعوبة في ذلك، وأعتقد أن المهندس المعماري تقاعد بعدما حصل على مبلغ كبير من المال يكفيه طوال حياته، بينما أفلس جرينشو المسكين".سأل هوراس: "هل يمكننا أن ننظر للمنزل من زاوية أخرى، أم أننا بذلك سنكون قد تجاوزنا حدودنا؟".قال رايموند: "لقد تجاوزنا حدودنا بالفعل، ولكني أعتقد أنه لا بأس بذلك".توجه رايموند ناحية أحد أركان المنزل، وتبعه هوراس الذي قال: "ولكن، من يعيش هنا؟ الأيتام، أم من يرغبون في قضاء عطلاتهم؟ لا يمكن أن يكون قد أصبح مدرسة، فلا توجد أية ملاعب أو أي نشاط من أي نوع".قال رايموند: "يعيش فيه الآن أحد أفراد عائلة جرينشو؛ حيث لم يتخل عن المنزل في أثناء النكبة التي ألمت به، وورثه عنه ابنه، وكان يعيش حياة تعسة في ركن صغير منه، ولم يكن ينفق أية أموال، وربما لم تكن لديه أية أموال لينفقها، والآن، تعيش ابنته في هذا المنزل - امرأة عجوز غريبة الأطوار للغاية".بينما كان رايموند يتحدث، كان يهنئ نفسه على فكرته العبقرية، وهي أن يستغل منزل حماقة جرينشو كوسيلة للترفيه عن ضيفه؛ حيث إن هؤلاء النقاد الأدبيين عادة ما يقولون إنهم يتوقون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في الريف، ولن يعتقدوا أن الريف ممل إن حضروا إلى هنا. غدًا ستصدر صحف الأحد، أما اليوم، فظل رايموند ويست يهنئ نفسه على اقتراح زيارة منزل حماقة جرينشو على هوراس بيندلر لإثراء مجموعة صوره الشهيرة عن المباني الضخمة.دارا حول المنزل ووصلا إلى مرج مهمل، وفي أحد أركانه كانت هناك حديقة صخرية صناعية كبيرة، وفي تلك الحديقة الصناعية، كانت هناك امرأة تنحني، وعندما رأياها جذب هوراس ذراع رايموند برفق، وقال: "يا إلهي، هل ترى ما ترتديه؟ ثوب مطبوع عليه صور أغصان الأشجار، مثل الذي ترتديه الخادمات - عندما كانت هناك خادمات. من بين ذكريات طفولتي الأثيرة أني كنت أقيم في منزل ريفي وكانت توقظني خادمة حقيقية في الصباح، ويصدر ثوبها المطبوع وقبعتها ذلك الصوت المميز. نعم، يا إلهي، قبعة كانت مصنوعة من نسيج قطني وتتدلى منها الشرائط. لا، ربما كانت خادمة ردهة المنزل هي التي ترتدي قبعة ذات شرائط. على أية حال، لقد كانت هناك خادمة منزل حقيقية وكانت تحضر وعاء نحاسيًّا كبيرًا من الماء الساخن. يا له من يوم رائع الذي نقضيه!".انتصبت المرأة ذات الثوب المطبوع وتوجهت نحوهما ممسكة بمنشفة في يديها، وكان شكلها مخيفًا، فقد كانت خصلات شعرها الرمادي تنسدل على كتفيها دون ترتيب، ووضعت على رأسها قبعة من القش تشبه تلك التي توضع على رءوس الخيول في إيطاليا، وكان الثوب المطبوع الذي ترتديه يصل بالكاد إلى كاحليها، وكان وجهها متسخًا وقد لوحته الشمس، وكانت عيناها الماكرتان تتفحصانهما باهتمام.قال رايموند ويست بينما كان يتقدم نحوها: "معذرة يا سيدة جرينشو، هذا السيد هوراس بيندلر الذي يقيم معي -".انحنى هوراس وقد أمسك قبعته في يده."- يهتم كثيرًا بالتاريخ القديم والمباني الرائعة".كان رايموند ويست يتحدث من منطلق كونه مؤلفًا شهيرًا ويدرك ذلك جيدًا، ويعلم أنه قادر على أن يقوم بمغامرات لا يمكن لأحد آخر القيام بها.نظرت السيدة جرينشو إلى المنزل الفخم خلفها، وقالت: "إنه منزل رائع. لقد بناه جدي - قبل أن أولد بالطبع، ويُقال إنه كان يرغب في إبهار سكان البلدة المحليين".قال هوراس بيندلر: "لابد أنه فعل يا سيدتي".قال رايموند ويست: "السيد بيندلر ناقد أدبي معروف".لم يبد أن السيدة جرينشو تكنُّ أي قدر من التبجيل للنقاد الأدبيين، فلم يبد عليها أي انبهار.ثم قالت وهي تشير إلى المنزل: "إني أعتبر هذا المنزل أثرًا يدل على عبقرية جدي، فهناك الكثير من الحمقى الذين يأتون إليَّ ليسألوني لم لا أبيع المنزل وأذهب للعيش في شقة. ماذا سأفعل في شقة؟ إنه بيتي وأنا أعيش فيه"، ثم قالت وهي تسترجع ذكريات الماضي: "لقد عشت دائمًا هنا. كنا ثلاث شقيقات، وقد تزوجت لاورا من رجل دين، ولم يعطها والدي أية أموال، وقال لها إن رجال الدين لا يهتمون بالماديات. ثم ماتت، وتركت طفلًا، ثم مات طفلها أيضًا، وهربت نيتي مع معلم الفروسية، فحرمها والدي من الميراث. كانت قد هربت مع الوسيم هاري فليتشر، ولكنه لم يكن رجلاً جيدًا، ولا أعتقد أنها كانت سعيدة معه. على أية حال، لم تعش طويلاً، ورزقا بابن، وهو يراسلني في بعض الأحيان ولكنه ليس من عائلة جرينشو. أنا آخر من تبقى من هذه العائلة"، ثم رفعت كتفيها المحنيتين بفخر وعدلت من وضعية قبعة القش فوق رأسها، ثم التفتت وقالت بحدة: "نعم يا سيدة كريسويل، ما الأمر؟".كانت هناك امرأة أخرى تقترب من جهة المنزل، وكانت تختلف تمامًا عن السيدة جرينشو من حيث المظهر، فقد كانت السيدة كريسويل ذات شعر مهندم وقد لفته نحو الأعلى في خصلات مرتبة بعناية، ويبدو كما لو أنها قد مشطت شعرها بهذه الطريقة لتبدو كماركيزة فرنسية ذاهبة إلى حفل تنكري، وقد كانت هذه المرأة في منتصف العمر وكانت ترتدي ثوبًا خفيفًا من الحرير الأسود، ولكنه كان في الحقيقة نوعًا لامعًا من الحرير الصناعي الأسود، وعلى الرغم من أنها لم تكن امرأة ضخمة فقد كانت عريضة الصدر، وكان صوتها عميقًا بصورة غير متوقعة عندما تتحدث، وكانت تتحدث بأسلوب راقٍ، ولكنها كانت تتردد قليلاً قبل بداية كلماتها وتطيل النفس قليلاً في ختامها، ما يدل على أنها واجهت صعوبة في مرحلة شبابها فيما يتعلق بمحاولة التخلص من التردد في بداية كلماتها.قالت السيدة كريسويل: "السمك يا سيدتي، لم تصل شريحة سمك القد، وقد طلبت من ألفريد أن يعود ليحضرها، ولكنه يرفض ذلك".وفجأة، أطلقت السيدة جرينشو ضحكة عالية وقالت: "هل يرفض حقًّا؟".قالت السيدة كريسويل: "إن ألفريد يا سيدتي عنيد للغاية".رفعت السيدة جرينشو أصبعيها الملخطين بالطين نحو شفتيها وأطلقت صفيرًا يصم الآذان ونادت في الوقت ذاته قائلة: "ألفريد، ألفريد، تعال إلى هنا".ظهر شاب من خلف ناصية المنزل مستجيبًا للنداء حاملاً جاروفًا في يده، وكان الشاب أصلع الرأس وسيم الملامح، وبينما كان يقترب، رمق السيدة كريسويل بنظرة ملؤها الحقد لا تخطئها العين.قال ألفريد: "هل طلبتني يا سيدتي؟".قالت السيدة جرينشو: "نعم يا ألفريد. لقد سمعت أنك ترفض العودة لإحضار السمك. هل هذا صحيح؟".قال ألفريد بصوت واثق: "سأذهب إن كنت ترغبين في ذلك يا سيدتي، كل ما عليك هو أن تطلبي".قالت السيدة جرينشو: "أنا أرغب في ذلك، أريد السمك من أجل عشائي".قال ألفريد: "تحت أمرك يا سيدتي، سأذهب في الحال".ثم رمق السيدة كريسويل بنظرة متكبرة، فاحمر وجهها وغمغمت بصوت خافت: "حقًّا! هذا أسلوب لا يُحتمل".قالت السيدة جرينشو: "والآن، أعتقد أن ما نحتاج إليه هنا هو زائرون غرباء، أليس كذلك يا سيدة كريسويل؟".بدت الحيرة على وجه السيدة كريسويل وهي تقول: "معذرة يا سيدتي -".قالت السيدة جرينشو وهي تومئ برأسها موجهة حديثها إلى رايموند ويست: "كما تعلم، فإن المستفيد من الوصية لا يمكن أن يكون شاهدًا عليها، أليس كذلك؟".قال رايموند: "هذا صحيح".قالت السيدة جرينشو: "أنا أعلم قدرًا جيدًا من الأمور القانونية، ويبدو أنكما رجلان محترمان".ثم ألقت بمنشفتها في السلة التي تجمع فيها الأعشاب الضارة، وقالت: "هل تمانعان الصعود معي إلى غرفة المكتبة؟".قال هوراس بحماس: "سيسعدنا هذا".تقدمتهما عبر النوافذ الفرنسية وعبر غرفة الاستقبال ذات اللونين الأصفر والذهبي ذات الرسومات الباهتة على الجدران والمفروشات المتربة على الأثاث، وصولاً إلى ردهة كبيرة معتمة، ثم صعدت الدرج ودخلت غرفة في الطابق الأول.قالت السيدة جرينشو: "مكتبة جدي".جال هوراس ببصره في أرجاء الغرفة في سعادة بالغة، فقد كانت الغرفة، من وجهة نظره، مليئة بالأشياء الضخمة؛ حيث كانت رءوس تمثال أبي الهول منحوتة على قطع فريدة من نوعها من الأثاث، كما كان هنا تمثال ضخم من البرونز يجسد بول وفيرجينيا، كما اعتقد، وساعة برونزية هائلة عليها أشكال كلاسيكية متكررة كان يتوق لالتقاط صورة لها.قالت السيدة جرينشو: "هناك الكثير من الكتب".كان رايموند قد بدأ يفحص الكتب بالفعل، وكل ما تمكن من رؤيته للوهلة الأولى أنه لم تكن هناك كتب مثيرة للاهتمام أو أن هناك من قرأ هذه الكتب من الأساس، فقد كانت جميعها مجموعات من الكتب الكلاسيكية التي تم إحضارها منذ تسعين عامًا مضت من أجل تزيين مكتبة أحد الأثرياء، وكانت هناك بعض الروايات من قديم الأزل، ولكنها أيضًا لم تحمل أية دلالة على أن هناك من قرأها.كانت السيدة جرينشو تبحث في أدراج مكتب ضخم، وأخرجت أخيرًا وثيقة مكتوبة على ورق البرشمان.وقالت: "هذه وصيتي، حيث يجب عليك أن تترك ثروتك لشخص ما - أو هكذا يُقال. إن مت، فأعتقد أن ابن سائس الخيول سيرني. ربما كان هاري فليتشر وسيمًا ولكنه محتال، أتعلمان الآن لم يجب ألا يرث ابنه المنزل؟ أبدًا"، ثم تابعت حديثها كما لو أنها تجيب عن بعض الاعتراضات التي لم يقلها أحد: "لقد اتخذت قراري وسأترك المنزل لـ كريسويل".قال رايموند: "مدبرة منزلك؟".قالت السيدة جرينشو: "نعم. لقد شرحت لها الأمر؛ حيث سأترك لها كل ثروتي، ومن ثم لن يكون عليَّ دفع أجرها، وهذا سيوفر عليَّ الكثير من النفقات، ويجعلها تبذل قصارى وسعها في العمل، كما أنها يمكن أن تغادر دون أن تبلغني. لقد أثرت فيها الفكرة كثيرًا، أليس كذلك؟ ولكن، كان والدها يعمل سمكريًّا صغيرًا، ولا يوجد ما يجعلها تزهو بنفسها".كانت قد فضت في تلك اللحظة وثيقة ورق البرشمان، والتقطت قلمًا وغمسته في زجاجة الحبر ووقعت باسمها على الوثيقة، كاثرين دوروثي جرينشو.ثم قالت: "هكذا تمامًا. لقد رأيتماني أوقع الوثيقة، والآن، وقعاها لتكون قانونية".أعطت القلم إلى رايموند ويست الذي تردد للحظة وقد شعر فجأة بالعزوف عن فعل ما طُلب منه، ثم خط بسرعة توقيعه الشهير الذي يحمل بريده الصباحي اليومي ستة طلبات للحصول عليه.أخذ هوراس القلم من رايموند وخط توقيعه على الوثيقة أيضًا.قالت السيدة جرينشو: "لقد تم الأمر".عبرت الغرفة نحو خزانة كتب، ثم وقفت هناك قليلاً تنظر إليها في تردد، ثم فتحت بابًا زجاجيًّا وأخرجت أحد الكتب ووضعت داخله الورقة المطوية.ثم قالت: "إن لديَّ أماكني الخاصة للاحتفاظ بالأشياء المهمة".قال رايموند ويست عندما التقط اسم الكتاب عندما كانت تعيده إلى مكانه: "سر الليدي أودلي".أطلقت السيدة جرينشو ضحكة أخرى ثم قالت: "لقد كان من الكتب الأكثر مبيعًا وقت صدوره، على النقيض من كتبك، أليس كذلك؟".ثم لكزت رايموند لكزة خفيفة تدل على الود، فدُهش من كونها تعرف أنه مؤلف كتب، فعلى الرغم من أن رايموند ويست كان من الأسماء المعروفة في عالم الأدب، فإنه لا يمكن أن يوصف بأنه مؤلف للكتب الأكثر مبيعًا، وعلى الرغم من أنه أصبح أكثر مرونة مع اقترابه من منتصف العمر، فإن كتبه كانت تتناول الجانب البائس من الحياة دون تجميل.سألها هوراس بحماسة: "هل يمكنني أن ألتقط صورة لهذه الساعة؟".قالت السيدة جرينشو: "بالطبع، أعتقد أنها أُحضرت إلى هنا من أحد المعارض في باريس".قال هوراس وهو يلتقط الصورة: "أعتقد هذا".قالت السيدة جرينشو: "لم تُستخدم هذه الغرفة كثيرًا منذ وفاة جدي، رغم أن هذا المكتب مليء بالكثير من مذكراته القديمة - وهذا أمر مثير للاهتمام، على ما أظن. لم أعد أمتلك قوة الإبصار التي تمكنني من قراءتها، ولكني أود أن أنشرها في كتاب، ولكني أعتقد أنه يجب على المرء أن يعمل على تنقيحها أولاً".قال رايموند ويست: "يمكنك أن تستعيني بشخص ما لفعل هذا".قالت السيدة جرينشو: "هل هذا ممكن؟ حقًّا؟ إنها فكرة رائعة، وسأضعها في اعتباري".ألقى رايموند ويست نظرة على الساعة، وقال: "أعتقد أننا قد كبدناك ما يكفي من الإزعاج".قالت السيدة جرينشو: "لقد سعدت برؤيتكما، فقد كنت أعتقد أنكما من الشرطة عندما رأيتكما تقتربان من المنزل".سألها هوراس، الذي لم يكن يحب طرح الأسئلة: "ماذا عن الشرطة؟".أجابت السيدة جرينشو بشكل مفاجئ مغنية: "إن كنت ترغب في معرفة الوقت، اسأل الشرطة"، وبهذا المثال على خفة ظلها التي تعود للعصر الفيكتوري، لكزت هوراس في ضلوعه وضحكت بصوت عالٍ.تنهد هوراس بينما كان وصديقه يسيران نحو المنزل: "لقد كانت فترة العصر رائعة، ولقد كان هذا المكان رائعًا بالفعل. تلك القصص البوليسية القديمة عن جرائم القتل الموضوعة في المكتبة - أعتقد أن هذه من نوعية المكتبات التي يريدها المؤلفون".قال رايموند: "إن كنت ترغب في الحديث عن جرائم القتل، فعليك أن تتحدث مع عمتي جاين".قال هوراس في حيرة: "عمتك جاين؟ هل تقصد الآنسة ماربل؟".إنها السيدة العجوز الرائعة التي تعرف عليها هوراس في الليلة السابقة، والتي بدا أنها الشخص الأخير في العالم الذي يمكن ربطه بجرائم القتل.قال رايموند: "نعم، إن حل جرائم القتل هو تخصصها".قال هوراس: "ولكن، يا عزيزي، هذا أمر لا يُصدق. ما الذي تعنيه؟".قال رايموند: "أعني ما يلي: شخص ما يرتكب جريمة قتل، وشخص آخر يتورط فيها، وآخرون يكتشفون من ارتكبها، وعمتي تأتي في الفئة الثالثة".قال هوراس: "إنك تمزح".قال رايموند: " كلا، على الإطلاق، ويمكنني أن أجعلك تتحدث مع رئيس شرطة سكوتلانديارد السابق والعديد من رجال الشرطة ومحقق أو أكثر من قسم التحقيق الجنائي".قال هوراس بسعادة: "إن زمن المعجزات لم ينته بعد". وحول طاولة الشاي، قصا على سمع كل من جون ويست، زوجة رايموند، ولو أوكسلي، ابنة شقيقتها، والآنسة ماربل العجوز، ملخصًًا عما حدث عصر ذلك اليوم، وقصا بالتفصيل كل ما قالته السيدة جرينشو.قال هوراس: "ولكني أعتقد أن هناك أمرًا مريبًا يتعلق بكل ما حدث. أعتقد أن تلك المرأة التي تشبه الدوقات - مدبرة المنزل - قد تضع الزرنيخ في الشاي لسيدتها بعدما علمت أنها قد تركت كل ثروتها لها، أليس كذلك؟".قال رايموند: "أخبرينا يا عمتي جاين، هل ستحدث جريمة قتل أم لا؟ ماذا تعتقدين؟".قالت الآنسة ماربل وهي تلملم كرة الصوف خاصتها بصعوبة: "أعتقد أنه لا يجب عليك أن تهزأ بمثل هذه الأمور يا رايموند، فمن المحتمل طبعًا استخدام الزرنيخ، ومن السهل الحصول عليه، وربما كان متواجدًا في خزانتها بالفعل في صورة مبيد للأعشاب الضارة".قالت جون ويست: "ألن يكون هذا واضحًا للغاية؟".قال رايموند: "أعتقد أنه لا بأس بكتابة وصيتها، وأعتقد أن هذه المرأة العجوز المسكينة لا تمتلك أي شيء آخر عدا ذلك المنزل الضخم، ومن ذا الذي قد يرغب في منزل كهذا؟".قال هوراس: "شركة أفلام أو فندق أو معهد؟".قال رايموند: "أعتقد أنهم سيتوقعون أن يحصلوا عليه بثمن بخس"، فهزت الآنسة ماربل رأسها نفيًا وقالت:"أعتقد يا عزيزي رايموند أني لا أتفق معك بشأن هذا الأمر. فالنسبة للمال، أعتقد أن الجد كان من أولئك الأشخاص الذين يصنعون المال بسهولة وينفقونه بسهولة، ولكن، لا يمكنه الاحتفاظ به، فربما أفلس مثلما تقول، وسواء كان قد أوشك على الإفلاس أم لا، لم يكن ابنه ليحصل على المنزل. والآن، وكما جرت العادة، فإن الابن كان مختلفًا تمامًا عن أبيه، فقد كان شحيحًا ولم ينفق أيًّا من أمواله، وأعتقد أنه تمكن من ادخار ثروة كبيرة خلال سنوات عمره، ويبدو أن السيدة جرينشو قد ورثت عنه شحه، وأعتقد أنها تمتلك مبلغًا كبيرًا من المال تحتفظ به في مكان ما".قالت جون ويست: "في هذه الحالة، أتساءل الآن - ماذا عن لو؟".نظروا جميعًا إلى لو التي كانت جالسة بجوار المدفأة صامتة.لو هي ابنة شقيقة جون ويست، والتي تمكنت أخيرًا من التحرر من زواجها، على حد تعبيرها، وخرجت من هذا الزواج بطفلين وقدر من المال يكفي ليجنبها سؤال اللئيم.قالت جون: "أعني، إن كانت السيدة جرينشو تريد شخصًا ما لينقح المذكرات ويعد الكتاب للنشر...".قال رايموند: "فكرة جيدة".قالت لو بصوت خافت: "إنه عمل يمكنني إنجازه، بل وسأستمتع به أيضًا".قال رايموند: "سأرسل لها خطابًا".قالت الآنسة ماربل مطرقة: "ماذا كانت تلك العجوز تعني بملاحظتها عن الشرطة؟".قال رايموند: "لقد كانت مجرد دعابة".قالت الآنسة ماربل وهي تومئ برأسها: "لقد ذكرني هذا، نعم، لقد ذكرني بما قالته في السيد نايسميث".سألها رايموند بفضول: "ومن يكون السيد نايسميث؟".قالت الآنسة ماربل: "لقد كان يعقد مسابقات التهجئة، وكان ماهرًا في إعداد الكلمات المتقاطعة لصحف الأحد؛ وكان يحب أن يعطي الناس انطباعات زائفة على سبيل المرح ليس أكثر؛ ولكن كان يؤدي به هذا الأمر أحيانًا إلى الوقوع في المشكلات".صمت الجميع للحظة يفكرون في السيد نايسميث، ولكنهم لم يروا أي تشابه بينه وبين السيدة جرينشو، وقرروا أن العمة جاين العزيزة قد تأثرت ذاكرتها بفعل السن.2عاد هوراس بيندلر إلى لندن دون التقاط المزيد من الصور للمباني الضخمة، وكتب رايموند ويست خطابًا للسيدة جرينشو يخبرها بأنه يعرف السيدة لويزا أوكسلي، والتي قد تؤدي مهمة تنقيح المذكرات بمهارة، وبعد بضعة أيام، وصل خطاب مكتوب بخط عتيق الطراز من السيدة جرينشو تعلن أنها متشوقة لأن تستفيد من خدمات السيدة أوكسلي، وحددت موعدًا للقائها لتذهب إليها وتراها بنفسها.ذهبت لو إليها في الموعد المحدد، وتم تحديد الاتفاق على جميع الشروط، وبدأت العمل في اليوم التالي مباشرة.قالت لو مخاطبة رايموند: "أنا ممتنة لك للغاية، فالعمل مناسب تمامًا، ويمكنني أن أصطحب الأطفال للمدرسة، ثم أذهب إلى منزل حماقة جرينشو، وأعود لأصطحبهم من المدرسة في طريق عودتي. يا له من ترتيب رائع! يجب أن يرى المرء هذه العجوز ليصدق أنها حقيقية".في الليلة التالية ليوم عملها الأول، عادت وبدأت تقص عليهم ما حدث خلال يومها:"لم أر مدبرة المنزل إلا بالكاد, حيث حضرت حاملة القهوة والبسكويت في الساعة السابعة والنصف وكانت تتحدث بأدب جم، ولكنها كانت بالكاد تتحدث معي، وأعتقد أنها لم تكن راضية عن وجودي، وأتصور أن هناك ضغينة بينها وبين البستاني، ألفريد. إنه من السكان المحليين وهو كسول للغاية، وأعتقد أنه لا يتحدث مع مدبرة المنزل. قالت السيدة جرينشو بطريقتها المتفاخرة: لقد كانت هناك ضغائن دائمًا بين طاقم عمل الحديقة وطاقم عمل المنزل، وكان الوضع مماثلاً أيام جدي. كان هناك ثلاثة رجال وصبي يعملون في الحديقة في ذلك الوقت، وثماني خادمات داخل المنزل، ولكن كانت هناك احتكاكات بينهم دائمًا".في اليوم التالي، عادت لو بأخبار أخرى."أمر غريب، لقد طُلب مني أن أتصل هاتفيًّا بابن شقيقتها هذا الصباح".قالت الآنسة ماربل: "ابن شقيقة السيدة جرينشو؟".قالت لو: "نعم، يبدو أنه يعمل ممثلاً في الفرقة المسرحية التي تؤدي عروضها خلال الصيف في مدينة بورهام على البحر، فلقد اتصلت هاتفيًّا بالمسرح وتركت رسالة تطلب حضوره غدًا لتناول العشاء. أمر غريب حقًّا! ولم تكن المرأة العجوز ترغب في أن تعلم مدبرة المنزل أي شيء عن الأمر، وأعتقد أن السيدة كريسويل فعلت أمرًا ما أزعجها".غمغم رايموند: "في الغد نشاهد حلقة جديدة من هذا المسلسل المشوق".قالت لو: "إنه مثل المسلسلات، أليس كذلك؟ التصالح مع ابن شقيقتها، فالدم أكثر كثافة من الماء - وستكتب وصية جديدة وتدمر الوصية القديمة".قال رايموند: "إن علامات الجدية ظاهرة على وجهك بوضوح يا عمتي جاين".قالت الآنسة ماربل: "هل فعلت؟ هل سمعت أي شيء عن رجل الشرطة؟".بدت الحيرة على وجه لو وقالت: "لا أعرف أي شيء عن رجل الشرطة".قالت الآنسة ماربل: "تلك المقولة التي قالتها يا عزيزتي، لابد أنها تعني شيئًا".وصلت لو إلى العمل في اليوم التالي وهي سعيدة للغاية، وعبرت من الباب المفتوح - فقد كانت أبواب ونوافذ المنزل مفتوحة دائمًا، فلم تكن السيدة جرينشو تخشى اللصوص، وكانت محقة في هذا، فقد كانت جميع الأشياء التي يحتويها المنزل تزن عدة أطنان، ولم تكن لتدر الكثير من المال إن تم بيعها.مرت لو بجوار ألفريد عند مدخل المنزل، وكان يقف مستندًا إلى شجرة ويدخن سيجارة، ولكن وبمجرد أن رآها أمسك بمكنسة وبدأ يكنس أوراق الشجر المتساقطة. فكرت في نفسها، يا له من شاب كسول، ولكنه وسيم! ولقد ذكرتها ملامحه بشخص ما. عندما عبرت ردهة المنزل في طريقها إلى الطابق العلوي حيث توجد المكتبة، ألقت نظرة سريعة على لوحة ناثانيال جرينشو الكبيرة التي تعلو المدفأة، والتي ظهر فيها وهو في قمة رخاء العصر الفيكتوري، مستندًا إلى مقعد كبير وثير، ويداه موضوعتان على سلسلة ذهبية تمر بعرض بطنه الكبير، وعندما رفعت بصرها من البطن إلى الوجه ذي الفكين العريضين والحاجبين الكثين والشاربين الكبيرين، فكرت لو أن ناثانيال جرينشو كان وسيمًا مثل شاب، وربما كان يشبه ألفريد قليلاً...دخلت لو المكتبة وأغلقت الباب خلفها، وفتحت آلتها الكاتبة وأخرجت المذكرات من الدرج الذي على أحد جانبي المكتب، وعبر النافذة المفتوحة، رأت لو السيدة جرينشو مرتدية ثوبًا أحمر اللون مطبوعًا عليه أغصان الشجر، وكانت تنحني فوق الحديقة الصخرية الصناعية للتخلص من الأعشاب الضارة، ولقد أمطرت السماء ليومين كاملين، ما ساعد الأعشاب الضارة على النمو.قررت لو - التي نشأت في المدينة - أنها إن امتلكت حديقة، فإنها لن تضع فيها حديقة صخرية تحتاج إلى عناية يدوية، ومن ثم، بدأت تزاول عملها.عندما دخلت السيدة كريسويل المكتبة في السابعة والنصف حاملة صينية القهوة، كان يبدو عليها أنها متعكرة المزاج، حيث قذفت الصينية على الطاولة بعنف ورفعت وجهها نحو السماء وقالت: "هناك ضيوف سيحضرون على الغداء - ولا يوجد ما يؤكل في المنزل. ما الذي من المفترض بي فعله، أريد أن أعرف؟ ولا يمكنني العثور على ألفريد".قالت لو: "لقد رأيته يكنس عند مدخل المنزل عندما حضرت".قالت السيدة كريسويل: "يا له من عمل تافه يقوم به!".خرجت السيدة كريسويل مسرعة من الغرفة وصفقت الباب خلفها بقوة، وابتسمت لو لنفسها وتساءلت، كيف سيبدو "ابن شقيقة" السيدة جرينشو.أنهت لو قهوتها وبدأت تزاول عملها مرة أخرى، واستغرقت في عملها تمامًا ومر الوقت سريعًا دون أن تشعر به. عندما بدأ ناثانيال جرينشو بكتابة مذكراته، استسلم تمامًا للصراحة. وعندما وصلت إلى فقرة تتحدث عن جاذبية نادلة في أحد المقاهي في المدينة المجاورة، فكرت لو أن هذه الفقرة تحتاج إلى الكثير من التنقيح.وبينما كانت تفكر في الأمر، سمعت صوت صرخة مدوية قادمة من الحديقة، فقفزت من مكانها وأسرعت نحو النافذة، فرأت السيدة جرينشو تعدو مترنحة بعيدًا عن الحديقة الصخرية نحو المنزل، وكانت تضع يديها على صدرها وبرز منه عمود صغير به ريش أدركت لو في ذهول أنه مؤخرة سهم.اتجه رأس السيدة جرينشو، الذي كان مغطى بقبعة القش، إلى صدرها، ونادت لو بصوت ضعيف: "... أصابني ... لقد أصابني ... بسهم ... أسرعي بالمساعدة ...".أسرعت لو نحو باب الغرفة، وأدارت مقبض الباب، ولكنه لم ينفتح، واستغرقها الأمر لحظات معدودة لتدرك أنها محبوسة داخل الغرفة، فعادت مسرعة مرة أخرى نحو النافذة.قالت لو: "أنا محبوسة داخل الغرفة".أعطت السيدة جرينشو ظهرها إلى لو، وسارت مترنحة وهي تنادي مدبرة المنزل من إحدى النوافذ المجاورة قائلة: "اطلبي الشرطة ... الهاتف ...".ثم واصلت سيرها مترنحة حتى خرجت من مجال رؤية لو، وعبرت النافذة في الطابق السفلي ودخلت غرفة الاستقبال. وبعد لحظات، سمعت لو صوت تحطم أوعية خزفية ثم سقطة قوية ثم خيم الصمت بعد ذلك. تخيلت لو المشهد، فلابد أن السيدة جرينشو اصطدمت بطاولة صغيرة عليها بعض أطباق الشاي الخزفية وسقطت.أخذت لو تضرب بقوة على الباب وهي تصرخ، ولم يكن هناك نبات متسلق أو أنبوب مياه خارج النافذة يمكنها من الخروج من هذا الاتجاه.بعدما شعرت بالتعب من الطرق على الباب، عادت إلى النافذة ، ومن نافذة غرفة الجلوس، ظهر رأس مدبرة المنزل وقالت: "تعالي وحرريني يا سيدة أوكسلي فأنا حبيسة الغرفة".قالت لو: "وأنا كذلك".قالت السيدة كريسويل: "يا إلهي، إنه أمر رهيب. لقد طلبت الشرطة عبر الهاتف، وهناك هاتف إضافي في هذه الغرفة، ولكن، ما لا يمكنني فهمه يا سيدة أوكسلي هو كيف تم حبسنا في الغرفتين. أنا لم أسمع المفتاح يدور في المزلاج، هل سمعت أنت؟".قالت لو: "لا، لم أسمع أي شيء. يا إلهي، ما الذي سنفعله؟ ربما سيسمعنا ألفريد"، بدأت لو تصيح بأعلى صوتها قائلة: "ألفريد، ألفريد".قالت السيدة كريسويل: "ربما ذهب لإحضار طلبات العشاء. كم الساعة الآن؟".نظرت لو إلى ساعة يدها وقالت: "الثانية عشرة وخمس وعشرون دقيقة".قالت السيدة كريسويل: "لا يُفترض به التحرك قبل الثانية عشرة والنصف، ولكنه قد يخرج مبكرًا إن استطاع".قالت لو: "هل تعتقدين - هل تعتقدين -".كانت لو تريد أن تسألها: "هل تعتقدين أنها ماتت؟"، ولكن ضاعت الكلمات في حلقها.لم يكن هناك ما يمكن فعله عدا الانتظار، فجلست لو على إفريز النافذة، وبدا الوقت طويلاً للغاية حتى ظهر رجل شرطة يرتدي خوذة من على ناصية المنزل، فانحنت من النافذة نحو الخارج، ورفع رجل الشرطة بصره نحوها واضعًا كفه فوق عينيه ليحميهما من الشمس، وعندما تحدث، كان صوته يحمل نبرة تأنيب.قال الشرطي: "ما الذي يحدث هنا؟".ومن نافذتيهما، بدأت لو والسيدة كريسويل في إطلاق سيل من المعلومات عليه.أخرج الشرطي مفكرة صغيرة وقلمًا، وقال: "هل صعدتما إلى الطابق العلوي وأغلقتما الباب عليكما من الداخل؟ هل يمكنكما أن تخبراني باسميكما من فضلكما؟".قالتا: "لا، لقد أغلق شخص ما علينا الأبواب. تعال وأخرجنا".قال الشرطي: "كل في وقته"، ثم اختفى عندما عبر النافذة في الأسفل إلى داخل المنزل.مرة أخرى، بدا الزمن كأنه يمر ببطء شديد، وسمعت لو صوت سيارة تقترب، وبعد أن مر وقت كأنه ساعة كاملة، ولكن في الحقيقة، لم تكن قد مرت سوى ثلاث دقائق، حرر رقيب شرطة أكثر انتباهًا من الشرطي الأول السيدة كريسويل أولاً ثم لو.ارتعش صوت لو وهي تقول: "ماذا حدث للسيدة جرينشو؟ ماذا حدث؟".تنحنح الرقيب وقال: "يؤسفني أن أخبرك يا سيدتي بما أخبرت به السيدة كريسويل من قبلك. لقد ماتت السيدة جرينشو".قالت السيدة كريسويل: "لقد قُتلت. هذا ما حدث، لقد قُتلت".قال الرقيب في تشكك: "ربما يكون حادثًا عرضيًّا - ربما كان بعض سكان المنطقة يلعبون بالقوس والنشاب".ومرة أخرى، سمعوا صوت سيارة تقترب، فقال الرقيب: "لقد وصل الطبيب الشرعي"، وبدأ يهبط الدرج.ولكنه لم يكن الطبيب الشرعي، وبينما كانت لو والسيدة كريسويل تهبطان الدرج دخل شاب في تردد عبر الباب الرئيسي للمنزل، ووقف مكانه ينظر حوله في حيرة.ثم تحدث بصوت رخيم بدا مألوفًا على أذني لو - ربما كان هذا الصوت مشابهًا لصوت السيدة جرينشو - سائلاً: "معذرة. هل تعيش السيدة جرينشو هنا؟".قال رقيب الشرطة وهو يتقدم نحوه: "هل يمكنني معرفة اسمك؟".قال الشاب: "فليتشر، نات فليتشر. أنا ابن شقيقة السيدة جرينشو".قال الرقيب: "حقًّا يا سيدي، حسنًا - يؤسفني - أنا على يقين من -".سأل نات فليتشر: "هل وقع خطب ما؟".قال الرقيب: "لقد وقع حادث، لقد أصيبت خالتك بسهم في صدرها واخترق الوريد -".تحدثت السيدة كريسويل بصورة هستيرية ودون تهذيبها المعتاد قائلة: "لقد قُتلت خالتك، هذا ما حدث، لقد قُتلت خالتك".3جذب المحقق ويلش مقعده ليقترب أكثر من الطاولة وبدأ يحدق في الأشخاص الأربعة المتواجدين في الغرفة، وكان قد مر على منزل عائلة ويست لسماع أقوال لو أوكسلي.قال المحقق: "هل أنت واثقة من كلماتها؟ ... أصابني ... لقد أصابني ... بسهم ... أحضري المساعدة ...؟".أومأت لو برأسها.قال المحقق: "ومتى حدث هذا؟".قالت لو: "لقد نظرت إلى ساعة يدي بعد ما حدث بدقيقة أو دقيقتين، وكانت تشير إلى الثانية عشرة وخمس وعشرين دقيقة".قال المحقق: "هل ساعتك دقيقة؟".قالت لو: "لقد نظرت أيضًا إلى ساعة الحائط".التفت المحقق إلى رايموند ويست وقال: "يبدو يا سيدي أنك والسيد هوراس بيندلر كنتما شاهدين على وصية السيدة جرينشو، أليس كذلك؟".قص رايموند باختصار الأحداث التي وقعت خلال زيارته هو وهوراس بيندلر لمنزل حماقة جرينشو.قال ويلش: "ستكون شهادتك هذه مهمة للغاية. هل أخبرتك السيدة جرينشو بأنها كتبت وصيتها لصالح السيدة كريسويل، مدبرة المنزل، وفي المقابل لم تكن كريسويل تحصل على أجر لأنها كانت ستحصل على ثروة السيدة جرينشو حال وفاتها؟".قال رايموند: "نعم، هذا ما أخبرتني به".قال ويلش: "هل تؤكد أن السيدة كريسويل كانت مدركة هذه الحقيقة؟".قال رايموند: "بكل تأكيد، لقد قالت السيدة جرينشو في حضوري إن المستفيدين من الوصية لا يمكنهم أن يكونوا شهودا عليها، وكانت السيدة كريسويل مدركة تمامًا ما كانت تعنيه السيدة جرينشو، كما أخبرتني السيدة جرينشو نفسها بأنها توصلت إلى هذا الاتفاق مع السيدة كريسويل".قال ويلش: "إذن، كانت السيدة كريسويل تدرك جيدًا أنها من الأطراف المستفيدة من موت السيدة جرينشو، وأن لديها دافعًا قويًّا لفعل هذا، وأعتقد أنها كانت ستصبح المشتبه به الرئيسي لولا حقيقة العثور عليها وقد حُبست في غرفتها مثلما حدث مع السيدة أوكسلي، كما أن السيدة جرينشو قالت إن رجلاً هو من أطلق السهم عليها-".قال رايموند: "هل أنت واثق من أنها حُبست في غرفتها؟".قال ويلش: "نعم، لقد حررها الرقيب كايلي؛ حيث إن مزلاج الباب ضخم وعتيق الطراز وبه مفتاح ضخم وعتيق الطراز. لقد كان المفتاح متروكًا في المزلاج، ومن المستحيل أن يكون قد تم إغلاقه من الداخل أو شيء من هذا القبيل. من المؤكد أن السيدة كريسويل قد حُبست داخل الغرفة ولم تكن قادرة على الخروج منها. كما لم يكن هناك قوس ونشاب في الغرفة، كما أن السيدة جرينشو لم يُطلق عليها السهم من نافذة - زوايا الإطلاق تنفي هذا الأمر - لا، إن السيدة كريسويل خارج دائرة الشبهات".صمت للحظة ثم قال: "هل تعتقد في رأيك أن السيدة جرينشو كانت مهزارة؟".نظرت لهم الآنسة ماربل بحدة من الركن الذي تجلس فيه وقالت: "لم تكن الوصية تصب في صالح السيدة كريسويل إذن؟".نظر لها المحقق ويلش بدهشة وقال: "إن هذا تخمين عبقري منك يا سيدتي. لا، لم يُذكر اسم السيدة كريسويل كأحد الورثة".قالت الآنسة ماربل وهي تومئ برأسها: "كما حدث مع السيد نايسميث، فلقد أخبرت السيدة جرينشو السيدة كريسويل بأنها ستترك لها جميع أملاكها، وبالتالي، لم تعد تدفع لها أجرها، ثم تركت أموالها لشخص آخر في نهاية المطاف. لا شك في أنها كانت فخورة بنفسها للغاية، ولا شك في أنها ضحكت عندما وضعت وصيتها داخل رواية سر الليدي أودلي".قال المحقق: "لقد كنا محظوظين عندما أخبرتنا السيدة أوكسلي بالوصية وبمكان تواجدها، وإلا كنا سنلاقي الأمرَّين في البحث عنها".غمغم رايموند: "دعابة من العصر الفيكتوري. لقد تركت أموالها لابن شقيقتها إذن".هز المحقق رأسه نفيًا وقال: "لا، لم تترك أموالها إلى نات فليتشر؛ حيث إن القصة تتعقد عند هذا الحد - ولا شك في أني حديث العهد في هذه المنطقة، ولا أعلم من الحقائق إلا ما تتناقله الشائعات - ولكن، يبدو أنه في الماضي وقعت السيدة جرينشو وشقيقتها في حب سائس خيول وسيم، وفازت شقيقتها بقلبه. لا، لم تترك أملاكها لابن شقيقتها"، ثم صمت وفرك ذقنه وعاد ليقول: "لقد تركت أملاكها إلى ألفريد".قالت جون بصوت مبحوح: "ألفريد - البستاني؟".قال المحقق: "نعم يا سيدة ويست، ألفريد بولوك".صاحت لو: "ولكن، لماذا؟".سعلت الآنسة ماربل وغمغمت قائلة: "أعتقد، وقد أكون مخطئة، أن هناك ما قد نُطلق عليه - أسبابًا عائلية".وافقها المحقق قائلاً: "يمكنك أن تطلقي عليها ذلك. من الشائع في القرية أن توماس بولوك، جد ألفريد، كان أحد الأطفال غير الشرعيين للسيد جرينشو الأكبر".صاحت لو قائلة: "هذا صحيح، الشبه، فلقد رأيت التشابه الكبير بينهما هذا الصباح".تذكرت كيف أنها - بعدما مرت بالقرب من ألفريد - دخلت المنزل ونظرت إلى لوحة السيد جرينشو الأكبر.قالت الآنسة ماربل: "أعتقد أنها ظنت أن ألفريد بولوك سيفخر بامتلاك المنزل وسيحب العيش فيه، في حين سيهمله ابن شقيقتها وسيبيعه بمجرد أن تسنح الفرصة له ليفعل. إنه ممثل، أليس كذلك؟ ما المسرحية التي يقدمها في الوقت الحالي؟".اعتقد المحقق أن المرأة العجوز قد انحرف تفكيرها عن الموضوع، ولكنه أجابها: "أعتقد يا سيدتي أنه يقدم موسمًا من إحدى مسرحيات جايمس باري".قالت الآنسة ماربل مطرقة: "باري".قال المحقق ويلش: "ما تعرفه جميع النساء"، ثم أحمرت وجنتاه وقال بسرعة: "هذا اسم المسرحية"، ثم أضاف قائلاً: "أنا لست من هواة المسرح، ولكن ذهبت زوجتي إلى المسرح وشاهدت هذه المسرحية الأسبوع الماضي، وقالت إنها مسرحية جيدة".قالت الآنسة ماربل: "لقد كتب باري الكثير من المسرحيات الرائعة، وأعتقد أني قلت العبارة ذاتها عندما ذهبت مع أحد أصدقائي، الجنرال إيسترلي، لمشاهدة مسرحية باري تحت عنوان ماري الصغيرة -" ثم هزت رأسها وقالت: "لم يعرف أي منا أين ينظر".لم يكن المحقق يعلم شيئًا عن مسرحية ماري الصغيرة وبدت عليه الحيرة، فوضحت له الآنسة ماربل الأمر قائلة: "عندما كنت صغيرة أيها المحقق، لم يكن أحد يقول كلمة بطن".زادت حيرة المحقق، في حين بدأت الآنسة ماربل تغمغم بعض عناوين المسرحيات بصوت خافت: " كرايتون الرائع، مسرحية تدل على المهارة الشديدة. ماري روز، مسرحية رائعة، لقد بكيت خلالها على ما أذكر. شارع الجودة، لم تعجبني كثيرًا. ثم كانت هناك قبلة من أجل سندريلا، بالطبع".لم يكن المحقق ويلش يملك من الوقت ما يضيعه على المناقشات بشأن المسرح، لذا عاد ليتحدث عن الموضوع الرئيسي قائلاً: "السؤال المطروح هنا هو. هل كان ألفريد بولوك يعلم أن السيدة جرينشو قد كتبت وصية لصالحه؟ هل أخبرته بذلك؟ هناك نادٍ للرماية بالقوس والنشاب في بورهام لوفيل وألفريد بولوك أحد أعضائه. إنه ماهر للغاية في الرماية بالقوس والنشاب".سأل رايموند ويست: "ألم تصبح قضيتك واضحة الآن؟ إن الأمر يتفق مع كون الأبواب أغلقت على المرأتين، فقد كان يعلم مكان كل منهما بالتحديد".نظر له المحقق وقال في حزن: "إن لديه حجة غياب".قال رايموند: "لقد اعتقدت أن حجج الغياب تلك مثيرة للشبهات".قال المحقق ويلش: "ربما كان الأمر كذلك يا سيدي. إنك تتحدث من وجهة نظر كاتب".قال رايموند ويست وقد أفزعته الفكرة: "أنا لا أؤلف الروايات البوليسية".تابع المحقق ويلش حديثه قائلاً: "من السهل أن تقول إن حجج الغياب مثيرة للشبهات، ولكن، للأسف، علينا أن نتعامل مع الحقائق".ثم تنهد وقال: "لدينا الآن ثلاثة من المشتبه بهم: ثلاثة أشخاص كانوا قريبين للغاية من مسرح الجريمة في أثناء وقوعها، ولكن الغريب في الأمر أنه يبدو أن أيًّا منهم لا يمكنه ارتكاب الجريمة. لقد تناولت أمر مدبرة المنزل بالفعل - ابن شقيقة المجني عليها، نات فليتشر، والذي كان لحظة إطلاق السهم على خالته يملأ سيارته بالوقود عند محطة بنزين تبعد ميلين عن المنزل وكان يسأل عن الطريق. - أما بالنسبة لـ ألفريد بولوك، فيقسم ستة أشخاص أنه دخل مقهى ذا دوج آند ذا داك الساعة الثانية عشرة والثلث وظل هناك لساعة كاملة يتناول الخبز والجبن والقهوة".قال رايموند ويست: "تبدو أنها حجة غياب مصطنعة".قال المحقق ويلش: "ربما كانت كذلك، وحتى إن كانت كذلك، فقد أثبتها بالفعل".خيم صمت طويل، ثم التفت رايموند نحو الآنسة ماربل وقال: "إن الأمر يتعلق بك يا عمتي جاين. إن المحقق متحير والرقيب متحير وأنا متحير وجون متحيرة ولو متحيرة، أما أنت يا عمتي جاين، فإن الأمر واضح أمامك وضوح الشمس، أليس كذلك؟".قالت الآنسة ماربل: "لا، ليس كذلك يا عزيزي، إنه ليس واضحًا وضوح الشمس، وجرائم القتل يا عزيزي رايموند ليست لعبة. لا أعتقد أن السيدة جرينشو المسكينة كانت تريد أن تموت، وكانت هذه جريمة قتل قاسية، وتم التخطيط لها جيدًا وارتكابها بدم بارد، وهذا ليس من الأمور التي يجب أن تمزح بشأنها".قال رايموند خجلاً: "أنا آسف. أنا لست شخصًا قاسي القلب كما أبدو؛ حيث إن المرء يحاول أن يستخف بالأمور حتى يتفادى - حسنًا، الرعب الذي يملؤها".قالت الآنسة ماربل: "أعتقد أن هذه هي النزعة المعاصرة. فرغم كل هذه الحروب أصبحنا نمزح بشأن الجنازات. نعم، أعتقد أني كنت مخطئة عندما قلت إنك قاسي القلب".قالت جون: "إن الأمر يبدو كما لو أننا لم نعرفها على الإطلاق".قالت الآنسة ماربل: "هذا صحيح. أنت لم تعرفيها على الإطلاق يا جون، وأنا لم أعرفها على الإطلاق. أما رايموند فقد كون عنها انطباعًا بعدما تحدث إليها لمرة واحدة فحسب، ولو عرفَتْها ليومين كاملين".قال رايموند: "هيا يا عمتي. أخبرينا برأيك. هل تمانع أيها المحقق؟".قال المحقق بأدب: "لا، على الإطلاق".قالت الآنسة ماربل: "حسنًا يا عزيزي، يبدو أن لدينا ثلاثة أشخاص يمتلكون، أو هكذا يُعتقد - الدافع لقتل المرأة العجوز، وهناك ثلاثة أسباب واضحة تشير إلى أن أيًّا منهم ليس قادرًا على ارتكاب الجريمة. من المؤكد أن مدبرة المنزل ليست القاتلة لأنها كانت حبيسة غرفتها ولأن السيدة جرينشو قالت إن رجلاً أطلق السهم عليها، ولم يكن البستاني قادرًا على ارتكاب الجريمة لأنه كان جالسًا في مقهى ذا دوج آند ذا داك وقت ارتكاب الجريمة، ولم يكن ابن شقيقتها قادرًا على فعلها لأنه كان على مسافة بعيدة في سيارته في أثناء ارتكاب الجريمة".قال المحقق: "لقد صغت الأمر بوضوح تام يا سيدتي".قالت الآنسة ماربل: "وحيث إنه من غير المحتمل أن يكون شخص غريب هو من فعلها، فما موقفنا الآن؟".قال رايموند ويست: "هذا ما يرغب المحقق في معرفته".قالت الآنسة ماربل: "إن المرء عادة ما ينظر للأمور من الزاوية الخاطئة، وإن لم نكن قادرين على تغيير حركة ووضع أولئك الأشخاص الثلاثة، فلا شك في أننا لسنا قادرين على تغيير وقت ارتكاب الجريمة، أليس كذلك؟".سألتها لو: "هل تعنين أن ساعة يدي وساعة الحائط كانتا تشيران للوقت الخاطئ؟".قالت الآنسة ماربل: "لا يا عزيزتي، لم أعن هذا على الإطلاق، بل أعني أن الجريمة لم تحدث في الوقت الذي اعتقدت أنها حدثت فيه".صاحت لو: "لقد رأيتها بعينيَّ".قالت الآنسة ماربل: "ما أتساءل بشأنه يا عزيزتي هو ما إذا كان المقصود أن تريها. كنت أسأل نفسي، إن لم يكن هذا هو السبب الرئيسي، لم استعانت بك لتقومي بالعمل؟".قالت لو: "ما الذي تعنينه يا عمتي جاين؟".قالت الآنسة ماربل: "حسنًا يا عزيزتي، قد يبدو الأمر غريبًا. لم تكن السيدة جرينشو تحب إنفاق المال، ولكنها استعانت بخدماتك ووافقت دون نقاش على الشروط التي وضعتها. أعتقد أنها كانت ترغب في وجودك في تلك المكتبة في الطابق الأول، وتنظري من النافذة حتى تكوني الشاهد الرئيسي على الجريمة - شخص من خارج المنزل لا غبار عليه - لكي يدبر وقت ومكان ارتكاب جريمة القتل".قالت لو: "هل تعنين أن السيدة جرينشو قد دبرت لمقتلها؟".قالت الآنسة ماربل: "ما أعنيه يا عزيزتي هو أنك لا تعرفين السيدة جرينشو، ولا يجب بالضرورة أن تكون السيدة جرينشو التي رأيتها هي ذاتها السيدة جرينشو التي رآها رايموند منذ بضعة أيام، أليس كذلك؟"، ثم واصلت حديثها لتمنع لو من الإجابة: "نعم، أعلم أنها كانت ترتدي الثوب المطبوع الغريب وقبعة القش الغريبة، وأن شعرها كان أشعث وأنها ماثلت تمامًا وصف رايموند لها كما أخبرنا الأسبوع الماضي؛ ولكن، هاتين المرأتين كانتا بنفس الطول والحجم والعمر، أعني، مدبرة المنزل والسيدة جرينشو".قالت لو: "ولكن، مدبرة المنزل بدينة، ولديها صدر ضخم للغاية".سعلت الآنسة ماربل وقالت: "عزيزتي، لقد رأيت مثل هذه الأشياء، وهي معروفة في واجهات المتاجر دون حياء، فلقد أصبح من السهل في الوقت الحالي على أية امرأة أن تحصل على صدر بأي حجم ترغب فيه".سألها رايموند: "ماذا تقصدين؟".قالت الآنسة ماربل: "كنت أفكر أنه خلال اليومين أو الثلاثة التي عملت فيها لو هناك، ربما لعبت امرأة واحدة كلا الدورين. لقد قلت بنفسك يا لو إنك لم تري مدبرة المنزل، عدا في تلك اللحظة التي تحضر لك فيها القهوة. يمكن للمرء أن يرى أولئك الممثلين المهرة يبدلون الشخصيات بفارق زمني بسيط فيما بينها، ويمكنني أن أؤكد أن التغيير يمكن إحداثه بكل سهولة. ربما كان هذا الشعر الملفوف نحو الأعلى مجرد شعر مستعار يمكن خلعه بسهولة".قالت لو: "عمتي جاين، هل تعنين أن السيدة جرينشو كانت ميتة قبل أن أبدأ العمل هناك؟".قالت الآنسة ماربل: "ليست ميتة، بل مخدرة، وهو أمر بسيط للغاية على امرأة عديمة الضمير مثل مدبرة المنزل، ومن ثم أعدت الترتيبات معك لتبدئي العمل، وجعلتك تتصلين بابن شقيقة السيدة جرينشو ليحضر على الغداء في وقت محدد، وكان الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يعرف أن السيدة جرينشو ليست هي جرينشو الحقيقية هو ألفريد، وهل تذكرين أنه خلال اليومين الأولين لعملك ظلت السماء تمطر وظلت السيدة جرينشو داخل المنزل، ولم يدخل ألفريد المنزل على الإطلاق بسبب مشاحناته مع مدبرة المنزل. وفي الصباح الأخير، كان ألفريد عند مدخل المنزل، بينما كانت السيدة جرينشو تعمل في الحديقة الصخرية - أود أن أرى هذه الحديقة الصخرية".قالت لو: "أتقصدين أن السيدة كريسويل هي من قتلت السيدة جرينشو؟".قالت الآنسة ماربل: "أعتقد أنها بعد أن أحضرت لك القهوة، أغلقت عليك الباب من الخارج في أثناء خروجها، وحملت السيدة جرينشو فاقدة الوعي إلى غرفة الاستقبال، ثم تنكرت في هيئة السيدة جرينشو وخرجت لتعمل في الحديقة الصخرية لتتمكني من رؤيتها من نافذتك. بعد ذلك، صرخت وتوجهت نحو المنزل مترنحة وهي تمسك بيدها سهمًا يبدو كما لو كان اخترق عنقها، وبدأت تطلب المساعدة وتقول، إنه أطلق السهم عليَّ، حتى تبعد الشبهات عن مدبرة المنزل، كما أنها تحدثت إلى نافذة غرفة مدبرة المنزل متظاهرة بأنها رأتها هناك، وبمجرد أن دخلت غرفة الاستقبال، ألقت على الأرض بطاولة عليها بعض الأوعية الخزفية، ثم عدت بسرعة إلى الطابق العلوي، وأزاحت شعرها المستعار عن رأسها، وأطلت من النافذة برأسها لتخبرك بأنها أيضًا حبيسة غرفتها".قالت لو: "ولكنها كانت حبيسة الغرفة بالفعل".قالت الآنسة ماربل: "أعلم. هنا يأتي دور رجل الشرطة".قالت لو: "أي رجل شرطة؟".قالت الآنسة ماربل: "بالضبط - أي رجل شرطة؟ هل يمكنك أن تخبرني أيها المحقق كيف ومتى وصلت إلى مسرح الجريمة؟".بدت الحيرة على وجه المحقق، وقال: "لقد وصلنا الاتصال في الثانية عشرة وتسع وعشرين دقيقة من السيدة كريسويل، مدبرة منزل السيدة جرينشو تقول إن سيدتها قد أصيبت، فذهبت والرقيب كايلي إلى هناك على الفور في سيارة ووصلنا في الثانية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة، ووجدنا السيدة جرينشو ميتة والسيدتين محبوستين في غرفتيهما".قالت الآنسة ماربل موجهة حديثها إلى لو: "هل رأيت يا عزيزتي، فلم يكن رجل الشرطة الذي رأيته رجل شرطة حقيقيًّا. ولم تفكري فيه مرة أخرى - إن المرء لا يفعل هذا - إن المرء ينظر لأي رجل في بزة رسمية على أنه شرطي".قالت لو: "ولكن من - ولماذا؟".قالت الآنسة ماربل: "فيما يتعلق بمن: إن كانوا يعرضون مسرحية قبلة من أجل سندريلا، فإن الشخصية الرئيسية لهذه المسرحية هي رجل شرطة، وسيكون كل ما على نات فليتشر هو أن يرتدي الزي الذي يرتديه على خشبة المسرح، ومن ثم، قد يسأل عن الطريق في مكان ما مع مراعاة لفت الانتباه للوقت - الثانية عشرة وخمس وعشرين دقيقة، ثم يقود سيارته مسرعًا ويتركها على ناصية المنزل ثم يرتدي زي رجل الشرطة ويؤدي دوره."كان يجب أن يقوم شخص ما بإغلاق الباب على مدبرة المنزل من الخارج، وأن يقوم شخص ما بغرس السهم في رقبة السيدة جرينشو، ويمكنك أن تطعن أي شخص بالسهم ليبدو كما لو أنه قد أُطلق من القوس - ولكن هذا الأمر يحتاج إلى قوة كبيرة".قالت لو: "هل تعنين أنهما اشتركا في الأمر؟".قالت الآنسة ماربل: "نعم، أعتقد ذلك، كولد وأمه".قالت لو: "ولكن، شقيقة السيدة جرينشو ماتت منذ زمن بعيد".قالت الآنسة ماربل: "نعم، ولكني واثقة من أن السيد فليتشر تزوج مرة ثانية، ويبدو أنه من نوعية الرجال الذين قد يفعلون هذا، وأعتقد أن الطفل قد مات أيضًا، وأن هذا المدعو ابن شقيقتها هو ابن الزوجة الثانية، ولا توجد بينهما أية علاقة على الإطلاق. وقد حصلت المرأة على وظيفة مدبرة المنزل ومن ثم بدأت تتجسس على صاحبة المنزل، ثم كتب الابن خطابًا ليبدو كما لو كان ابن شقيقتها وطلب المرور عليها - وربما كان قد أطلق دعابة تقول إنه سيأتي مرتديًا ثوب رجل الشرطة - أو ربما دعاها لتشاهد مسرحيته؛ ولكني أعتقد أنها شكت به ورفضت رؤيته، وكان سيصبح وريثها إن ماتت دون أن تترك وصية - ولكن، بمجرد أن تكتب وصيتها لصالح مدبرة المنزل (كما اعتقدا)، فسيكون الأمر سهلاً للغاية".قالت جون: "ولكن، لم استخدما سهمًا؟ إنه سلاح جريمة مستبعد".قالت الآنسة ماربل: "ليس مستبعدًا على الإطلاق يا عزيزتي جون؛ حيث إن ألفريد عضو في ناد للرماية بالقوس والنشاب - وكان من المفترض أن يُتهم ألفريد بجريمة القتل، حيث إن حقيقة تواجده في المقهى في وقت مبكر منذ الثانية عشرة والثلث كانت مستبعدة للغاية من وجهة نظرهما، فقد كان يغادر دائمًا قبل موعده بقليل، وكان هذا سوف يورطه في الجريمة -"، ثم هزت رأسها وقالت: "أعرف أن ما سأقوله خاطئ، من الناحية الأخلاقية، ولكن، كسل ألفريد هو ما أنقذ حياته".تنحنح المحقق وقال: "حسنًا يا سيدتي، إن المقترحات التي قلتها مثيرة للاهتمام للغاية، ولكن عليَّ أن أواصل تحقيقاتي -".4وقفت الآنسة ماربل ورايموند ويست إلى جوار الحديقة الصخرية ناظريْن إلى تلك السلة المليئة بالنباتات الذابلة.غمغمت الآنسة ماربل قائلة: "أليس، كاسر الحجر، ألزان، ألجريس... نعم، هذا هو الإثبات الذي كنت بحاجة إليه، وعلاوة على ذلك، فإن من كان يزيل الأعشاب الضارة هنا ليست لديه أية خبرة عن أعمال البستنة، فقد اقتلع النباتات مع الأعشاب. والآن، تأكدت من أني محقة. شكرًا لك يا عزيزي رايموند على إحضاري إلى هنا. لقد كنت أرغب في رؤية المكان بنفسي".ونظرت هي ورايموند إلى الأعلى في منزل حماقة جرينشو الضخم.التفتا إلى الخلف بعدما سمعا صوت سعال خفيف ورأيا شابًا وسيمًا ينظر أيضًا إلى المنزل.قال الشاب: "ذلك المنزل الضخم المزعج. لم تعد ضخامته مناسبة للعصر - أو هكذا يُقال. لا أعلم إن كان هذا صحيحًا. إن ربحت مسابقة كرة القدم وحصلت على الكثير من المال، فإن هذا سيكون من نوعية المنازل التي أرغب في بنائها".ثم ابتسم لهما في خجل.قال ألفريد بولوك: "أعتقد أنه يمكنني أن أقول الآن إن هذا المنزل قد بناه جدي الأكبر، وهو منزل رائع إلا أن الجميع يطلقون عليه اسم، حماقة جرينشو". [image file=image-3129.jpg]